المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شعراء العراق - السياب


حميدة العسكري
10-08-2014, 07:58 PM
اعزائي القراء
يسرني ان اقدم بين ايديكم باقة من شعراء العصر الحديث والمعاصر
وسأبدأ بشعراء العراق :
السياب
بدر شاكر السياب ولد عام 1926 وتوفي في 24 كانون أول ديسمبر عام 1964 شاعر عراقي ولد بقرية جيكور جنوب شرق البصرة. درس الابتدائية في مدرسة باب سليمان في أبي الخصيب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودية وتخرج منها في 1 أكتوبر 1938م. ثم أكمل الثانوية في البصرة ما بين عامي 1938 و 1943م. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمين العالية من عام 1943 إلى 1948م، والتحق بفرع اللغة العربية، ثم الإنجليزية. ومن خلال تلك الدراسة أتيحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجليزي بكل تفرعاته.



البداية السريعة على امتداد شط العرب إلى الجنوب الشرقي من البصرة، وعلى مسافة تقطعها السيارة في خمس و أربعين دقيقة تقع أبو الخصيب التي تمثل مركز قضاء تابع للواء البصرة يضم عددا من القرى من بينها قرية لا يتجاوز عدد سكانها ألفا ومائتي نسمة
تقع على ما يسمى نهر أبو فلوس من شط العرب تدعى جيكور تسير إليها في طريق ملتوية تمتد بالماشي مدى ثلاثة أرباع الساعة من أبي الخصيب وهي الزاوية الشمالية من مثلث يضم أيضا قريتين أخريين هما بكيع وكوت بازل، قرى ذات بيوت من اللبن و الطين، لا تتميز بشيء لافت للنظر عن سائر قرى العراق الجنوبي
فهي عامرة بأشجار النخيل التي تظلل المسارح المنبسطة ويحلو لأسراب الغربان أن تردد نعيبها فيها، و عند أطراف هذه القرى مسارح أخرى منكشفة تسمى البيادر، تصلح للعب الصبيان ولهوهم في الربيع والخريف، وتغدو مجالا للنوارج في فصل الصيف، فكل شخص يعمل في الزراعة ويشارك في الحصاد و الدراس، ويستعين على حياته بتربية الدجاج والأبقار، و يجد في سوق البصرة مجالا للبيع أو المقايضة، ويحصل على السكر و البن و الشاي وبعض الحاجات الضرورية الأخرى لكي ينعم في قريته بفضائل الحضارة المادية، وإذا كان من الطامحين إلى (الوجاهة) فلا بأس أن يفتح ديوانا يستقبل فيه الزائرين من أهل القرية أو من الغرباء ليشاركوه في فضائل تلك الحضارة المادية
السياب - دراسة في حياته وشعره
والبلدة التي ولد الشاعر في إحدى قراها و أكمل دراسته الأولى فيها والتي بقي يتردد إليها طيلة عمره القصير، برز فيها شعراء كثيرون، وان لم يشتهروا كشهرته، لضعف وسائل الأعلام ولخلود أكثرهم إلى السكينة ولعزوفهم عن النشر، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشعراء محمد محمود من مشاهير المجددين في عالم الشعر و النقد الحديث، ومحمد علي إسماعيل، زميل السياب في العالية وصاحب الشعر الكثير، وأبوه شاعر مشهور أيضا و اسمه ملا علي إسماعيل، ينظم القريض والشعر العامي، و الشاعر خليل إسماعيل توفي في 1961 الذي ينظم المسرحيات الشعرية ويخرجها بنفسه ويصور ديكورها بريشته
و الشاعر مصطفي كامل الياسين الدكتور و الموظف الكبير في الخارجية وعبد الستار عبد الرزاق الجمعة، وعبد الباقي لفته و عبداللطيف الدليسي وعبدالحافظ الخصيبي ومؤيد العبدالواحد الشاعر الوجدان بالرقيق ومن رواة شعر السياب، والشاعر الأستاذ سعدي يوسف هو من أبناء أبي الخصيب، ظهرت له عدة دواوين شعرية، ونال شهرة واسعة بين شعراء البلاد العربية، اشتهر كالسياب بشعره الحر
ونذكر الشاعر الشعبي عبدالدايم السياب، من أقارب الشاعر ولشعره شهرة في المنطقة الجنوبية، والشاعر الشعبي كذلك عدنان دكسن وهو معلم
ولد السياب في منطقة (بكيع) بكاف فارسية وجيكور محلة صغيرة فيها وهي كلمة فارسية تعني (بيت العميان) وتبعد عن أبي الخصيب بما يقارب الكيلوين و تقع القرية على شط العرب، وأمامها جزيرة جميلة اسمها (الطويلة) كثيرا ما كان السياب يقضي الساعات الطوال فيها
و نهر (بويب) الذي تغنى به الشاعر كثيرا، يسيل في أملاك عائلة السياب وهو يتفرع من النهر الكبير إنها قرية صغيرة اسمها مأخوذ من العبارة الفارسية (جوي كور) أي الجدول الأعمى
و آل السياب يملكون أراضي مزروعة بالنخيل، وهم مسلمون سنيون عرفتهم جيكور لأجيال عدة. و على الرغم من أنهم لم يكونوا من كبار الملاكين في جنوب العراق، فانهم كانوا يحيون حياة لائقة محترمة حسب المعايير المحلية
إن أعضاء الأسرة من الذكور لا يزيدون على ثلاثين في الوقت الحاضر مصطفى السياب ، في رسالة إلى المؤلف، بيروت 32 نيسان 1966 لكن الأسرة كان أكبر مما هي اليوم في أوائل القرن التاسع عشر إذ كانت تصم عائلة المير
لكن كثيرين من أعضائها ماتوا في الطاعون الذي انتشر في العراق سنة 1831 وكان سياب بن محمد بن بدران المير أحد أعضائها، وكان قد فقد جميع أهله الأقربين
وكلمة سياب بتشديدها بضم السين أو فتحها : اسم يطلق على البلح أو البسر الأخضر. لكن قصة تروى في العائلة تزعم أنه دعي بهذا الاسم لأنه فقد جميع أقربائه وسيب وحيدا. وهي تلفظ سياب في اللهجة المحلية بتسكين السين
وفي عام تزوج شاكر بن عبدالجبار ابنة عمه كريمة،وكانت أمية في السابعة عشرة من عمرها. و أسكنها معه في دار والده على ما تقضي به العادات المرعية. وفي 1926 ولدت له ابنا دعاه (بدرا). وقد طار به فرحا وسجل تاريخ ميلاده حتى يتذكره، لكنه ما لبث أن فقده وبقي تاريخ ميلاد بدر مجهول
ولم تكن إدارة البلاد في ذلك الوقت متفرغة لتنظيم تسجيل المواليد، ولا سيما في النواحي النائية. وفي 1928 ولدت له ابنا ثانيا دعاه عبدالله، وفي 1930 ولدت له ابنا ثالثا دعاه مصطفى وكان فخورا بأبنائه الثلاثة، واثقا من أنهم سيكبرون ويساعدونه في عمله لكن أحدا منهم ما ساعده كما كان ينتظر ويأمل
أما في البيت فقد كان بدر يلعب مع أصدقائه فيشاركه أخواه الأصغران. وكان الأماكن المحببة للعبهم بيت واسع قديم مهجور يدعى (كوت المراجيح) باللهجة المحلية
وكان هذا البيت في العهد العثماني يؤوي عبيد الأسرة (مصطفى السياب، من مقابلة مع المؤلف، بيروت 41 حزيران 1966) و من هنا أسمه، إذا معنى (المراجيح) المراقيق أي الرقي أو العبيد
وقد دعاه بدر في شعره فيما بعد (منزل الأقنان) كانوا يلعبون في فنائه بالقفز على مربعات ودوائر تخطط على الأرض وما شابه ذلك من العاب القفز، واكن يلذ لهم كذلك أن يرووا عنه قصص الأشباح. وقد جعله بدر مقرا لجريدة خطية كان يصدرها مدة باسم (جيكور) تتناقلها أيدي صبيان القرية، ثم تعود في ختام المطاف لتجد محلها على الحائط في غرفة الإدارة
وتشمل ذكرياته أقاصيص جده - على نحو مبهم- وقصص العجائز من عمة وجدة وغيرهما، و من أقاصيصهما حكاية عبد الماء الذي اختطف زينب الفتاة القروية الجميلة، وهي تملأ جرتها من النهر، ومضى بها إلى أعماق البحر و تزوجها، و أنجبت له عددا من الأطفال، ثم رجته ذات يوم أن تزور أهلها، فأذن لها بذلك، بعد أن احتفظ بأبنائه ليضمن عودتها، و لكنها لم تعد, فأخذ يخرج من الماء ويناديها ويستثر عاطفتها نحو الأطفال، و لكنها أصرت على البقاء، و أخيرا أطلق أهلها النار على الوحش فقتلوه، أما الأطفال فتختلف روايات العجائز حول مصيرهم
كذلك تشمل ذكرياته لعبه على شاطئ بويب، وهو لا يفتأ يذكر بيتا في بقيع يختلف عن سائر البيوت، في أبهائه الرحبة، وحدائقه الغناء، ولكن اشد ما يجذب نظره في ذلك المنزل الإقطاعي تلك الشناشيل، وهي شرفة مغلقة مزينة بالخشب المزخرف و الزجاج الملون
غير أن الشاعر حين يتحدث من بعد عن بيت العائلة في جيكور فإنما يعني البيت الذي ولد فيه وعاش فيه سنوات طويلة في ظل أمه، وقضى فترات متقطعة من صباه وشبابه الباكر في جنباته، وهكذا ينبسط اسم (جيكور) على القريتين إذا ليست بقيع في واقع الحال الا حلة من جيكور
ولابد لنا من أن نشير إلى أن بعض الصحفيين زاروا هذا البيت في عام 1965 وكان مما قالوه في وصفه : البيت قديم جدا وعال، وقد تحللت جذور البيت حتى أصبحت كأسفل القبر، والبيت ذو باب كبير كباب حصن كتب عليه بالطباشير اسم ؛ عبدالمجيد السياب
وهو الذي يسكن الآن في الغرفة الوحيدة الباقية كان البيت قبل عشر سنين يموج بالحركة والحياة، أما سبب هجر عائلة السياب لهذا البيت أو بالأحرى لجيكور فهو بسبب ذهاب الشباب إلى المدن بعد توظيفه" جريدة الثورة العربية، بغداد عدد 184 - 12 شباط 1965
دخل السياب في أول مراحله الدراسية مدرسة باب سليمان الابتدائية في أبي الخصيب، ثم انتقل إلى المحمودية الابتدائية التي أسسها المرحوم محمود باشا العبدالواحد في سنة 1910 في العهد العثماني، وبقيت تحمل اسمه حتى الآن و تخرج من هذه المدرسة في تاريخ 1-10-1938 ولدى مراجعة محمود العبطة سجلات المدرسة المحمودية ، عثر على معلومات خاصة بالشاعر نقلها من السجل رقم 6 وصفحة السجل 757 و المعلومات هيمعلومات خاصة بالشاعر
قرية جيكور المحلة
1926 تاريخ الولادة
مدرسة باب سليما آخر مدرسة كان فيها قبل دخوله المحمودية
1- 10 - 1936 تاريخ دخوله المدرسة
الصف الخامس الصف الذي قبل فيه
1- 10 - 1938 تاريخ الانفصال
أكمل الدراسة الابتدائية سبب الانفصال
1937 رسب في الصف السادس سنة
1938 نجح من السادس سنة
ابيض الوجه - أسود العينين صفاتة
جيدة أحواله الصحية
جيدة سيرته في المدرسة
عاش بدر طفولة سعيدة غير إنها قصيرة سرعان ما تحطمت إذ توفيت أمه عام 1932 أثناء المخاض لتـترك أبناءها الثـلاثة وهى في الثالثة والعشرين من عمرها. وبدا بدر الحزين يتساءل عن أمه التي غابت فجأة، وكان الجواب الوحيد: ستعود بعد غد فيما يتهامس المحيطون به: أنها ترقد في قبرها عند سفح التل عند أطراف القرية
وغابت تلك المرأة التي تعلق بها ابنها الصغير، وكان يصحبها كلما حنت إلى أمها، فخفت لزيارتها، أو قامت بزيارة عمتها عند نهر بويب حيث تملك بستانا صغيرا جميلا على ضفة النهر، فكان عالم بدر الصغير تلك الملاعب التي تمتد بين بساتين جيكور ومياه بويب وبينها ما غزل خيوط عمره ونسيج حياته وذكرياته
وما كان أمامه سوى اللجوء إلى جدته لأبيه (أمينة) وفترة علاقته الوثيقة بأبيه بعد أن تزوج هذا من امرأة أخرى سرعان ما رحل بها إلى دار جديدة بعيدا عن بدر وأخـويه، ومع أن هذه الدار في بقيع أيضا، غير أن السياب أخويه انضموا إلى دار جده في جيكور
القرية الأم، ويكبر ذلك الشعور في نفس بدر بأنه محروم مطرود من دنيا الحنو الأمومي ليفر من بقيع وقسوتها إلى طرفه تدسها جدته في جيبه أو قبلة تطبعها على خده تنسيه ما يلقاه من عنت وعناء، غير أن العائلة تورطت في مـشكلات كبيرة ورزحت تحت عبء الديون، فبيعت الأرض تدريجيا وطارت الأملاك ولم يبق منها إلا القليل يذكر بالعز القديم الذي تشير إليه الآن أطلال بيت العـائلة الشاهق المتحللة
ويذهب بدر إلى المدرسة، كان عليه أن يسير ماشيا إلى قرية باب سليمان غرب جيكور لينتقل بعدها إلى المدرسة المحمودية الابتدائية للبنين في أبي الخصيب التي شيدها محمود جلبي العبد الواحد أحد أعيان أبي الخصيب، وكان بالقرب من المدرسة البيت الفخم الذي تزينه الشرفات الخشبية المزججة بالزجاج الملون الشناشيل و التي ستكون فيما بعد اسما لمجموعة شعرية متميزة هي شناشيل ابنة الجلبي- الجلبي لقب للأعيان الأثرياء- وفى هذه المدرسة تعلم أن يردد مع أترابه أهزوجة يرددها أبناء الجنوب عند هطول المطر، ضمنها لاحقا في إحدى قصائده
يا مطرا يا حلبي عبر بنات الجلبي
يا مطرا يا شاشا عبر بنات الباشا
وفى هذه المرحلة المبكرة بدأ ينظم الشعر باللهجة العراقية الدارجة في وصف الطبيعة أو في السخرية من زملائه، فجذب بذلك انتباه معلميه الذين شجعوه على النظم باللغة الفصيحة، وكانت العطلة الصيفية التي يقضيها في جيكور مجلبة لسروره وسعادته إذ كان بيت العبيد الذي غدا الآن مهجورا، المكان المحبب للعبهم برغم ما يردده الصبية وخيالهم الفسيح عن الأشباح التي تقطنه وكانت محبة جدته أمينة تمنحه العزاء والطمأنينة والعطف غير انه سرعان ما فقدها إذ توفيت في أيلول 1942 ليكتب في رثائها قصيدةجدتي من أبث بعدك شكواي؟
طواني الأسى وقل معيني
أنت يا من فتحت قلبك بالأمس لحبي
أوصدت قبرك دوني
فقليل على أن اذرف الدمع
ويقضى على طول أنيني
وتفاقم الأمر إذ باع جده ما تبقى من أملاكه مرغما، إذ وقع صغار الملاك ضحية للمالكين الكبار و أصحاب مكابس التمر والتجار والمرابين وكان بدر يشعر بالظلم واستغلال القوى للضعيف وكانت طبيعته الرومانسية تصور له مجتمعا مثاليا يعيش فيه الناس متساوين يتعاون بعضهم مع بعض بسلام
هذه النظرة المثالية عمقها شعور بدر بأن أسرته كانت عرضه للظلم والاستغلال فضلا عما لحق به إذ فقد أمه وخسر أباه و أضاع جدته وسلبت حبيبته منه وكان قد بدأ يدرك انه لم يكن وسيما هذا كله احتشد في أعماق روحه ليندلع فيما بعد مثل حمم بركان هائج تدفق شعرا ملتهبا
في مدينة بغداد صيف 1943 أنهى بدر دراسته الثانوية، وقـبل في دار المعلمين العالية ببغداد (كلية التربية) وكان في السابعة عشرة من عمره ليقضى فيها أربعة أعوام
وعثر (محمود العبطة) على درجات الشاعر في الصف الثالث من الدار المذكورة في مكتبة أبي الخصيب وبحيازة مأمورها الأستاذ عبداللطيف الزبيدي، وهي من جملة الوثائق التي أودعتها زوجة المرحوم السياب ففي المكتبة عندما زار وفد من مؤتمر الأدباء العرب السادس ومؤتمر الشعر العربي، أبي الخصيب وقرية الشاعر جيكور وهي وريقة بحجم الكف مطبوعة على الآلة الكاتبة تشمل المعلومات التالية
نتائج الطلبة 1946 - 1947
بدر شاكر السياب اسم الطالب
الثالث - اللغة الإنكليزية الصف و الفرع
86 المعدل
ناجح الثاني في صفه عميد دار المعلمين العالية
كتب السياب خلال تلك الفترة قصائد مترعة بالحنين إلى القرية والى الراعية هالة التي احبها بعد زواج وفـيقة ويكتب قصائده العمودية أغنية السلوان و تحية القرية.. الخ
ويكسب في بغداد ومقاهيها صداقة بعض من أدبائها وينشر له ناجي العبيدي قصيدة لبدر في جريدته الاتحاد هي أول قصيدة ينشرها بدر في حياته
تكونت في دار المعلمين العالية في السنة الدراسية 1944-1945 جماعة أسمت نفسها أخوان عبقر كانت تقيم المواسم و الحفلات الشعرية حيث ظهرت مواهب الشعراء الشبان، ومن الطبيعي تطرق أولئك إلى أغراض الشعر بحرية وانطلاق، بعد أن وجدوا من عميد الدار الدكتور متى عقراوي، أول عميد رئيس لجامعة بغداد و من الأساتذة العراقيين والمصريين تشجيعا
كان السياب من أعضاء الجماعة، كما كانت الشاعرة نازك الملائكة من أعضائها أيضا، بالإضافة إلى شاعرين يعتبران المؤسسين للجماعة هما الأستاذان كمال الجبوري و الدكتور المطلبي، ولم يكن من أعضائها شعراء آخرون منهم الأستاذ حازم سعيد من مواليد 1924و أحمد الفخري وعاتكة وهبي الخزرجي
ويتعرف بدر على مقاهي بغداد الأدبية ومجالسها مثل مقهى الزهاوي ومـقـهى ا لبلدية و مقهى البرازيلية وغيرها يرتادها مع مجموعة من الشعراء الذين غدوا فيما بعد (رواد حركة الشعر الحر) مثل بلند الحيدري وعبد الرزاق عبد الواحد ورشيد ياسين وسليمان العيسى وعبد الوهاب البياتي وغيرهمويلتقي امرأة يحبها وهي لا تبادله هذا الشعور فيكتب لها
أبي.. منه جردتني النساء
وأمي.. طواها الردى المعجل
ومالي من الدهر إلا رضاك
فرحماك فالدهر لا يعدل

ويكتب لها بعد عشرين عاما- وكانت تكبره عمرا- يقول
وتلك.. لأنها في العمر اكبر
أم لأن الحسن أغراها
بأني غير كفء
خلفتني كلما شرب الندى ورق
وفتح برعم مثلتها وشممت رياها؟
غلام ضاو نحيل كأنه قصبة، ركب رأسه المستدير كحبة الحنظل، على عنق دقيقة تميل إلى الطول، وعلى جانبي الرأس أذنان كبيرتان، وتحت الجبهة المستعرضة التي تنزل في تحدب متدرج أنف كبير يصرفك عن تأمله العينين الصغيرين العاديتين على جانبيه فم واسع، تبز (الضبة) العليا منه ومن فوقها الشفة بروزا يجعل انطباق الشفتين فوق صفي الأسنان كأنه عما اقتساري
وتنظر مرة أخرى إلى هذا الوجه الحنطي فتدرك أن هناك اضطرابا في التناسب بين الفك السفلي الذي يقف عند الذقن كأنه بقية علامة استفهام مبتورة وبين الوجنتين الناتئتين وكأنهما بدايتان لعلامتي استفهام أخريين قد انزلقتا من موضعيهما الطبيعيين
وتزداد شـهرة بدر الشاعر النحـيل القادم من أقصى قـرى الجنوب، وكانت الفتيات يستعرن الدفتر الذي يضم أشعاره ليقرأنه، فكان يتمنى أن يكون هو الديوان :ديوان شعر ملؤه غزل
بين العذارى بات ينتقل
أنفاسي الحرى تهيم على
صفحاته والحب والأمل
وستلتقي أنفاسهن بها
وترف في جنباته القبل
يقو ل محمود العبطة: عندما أصدر الشاعر ديوانه الأول أزهار ذابلة في 1947 وصدره بقصيدة من الشعر العمودي مطلعها البيت المشهور
ديوان شعر ملوْه غزل
بين العذارى بات ينتقل
اطلع علي الديوان الشاعر التقدمي الأستاذ علي جليل الوردي، فنظم بيتا على السجية وقال للسياب ، كان الأولى لك أن تقولديوان شعر ملوْه شعل
بين الطليعة بات ينتقل

وفى قصيدة أخرى يقول
يا ليتني أصبحت ديواني
لأفر من صدر إلى ثان
قد بت من حسد أقول له
يا ليت من تهواك تهواني
ألك الكؤوس ولى ثمالتها
ولك الخلود وأنني فاني؟
ويتعرف السياب على شعر وود زورت وكيتس وشيلى بعد أن انتقل إلى قسم اللغة الإنجليزية ويعجب بشعر اليوت واديث سيتويل ومن ثم يقرأ ترجمة لديوان بودلير أزهار الشر فتستهويه
ويتعرف على فتاة أضحت فيما بعد شاعرة معروفة غير أن عائق الدين يمنع من لقائهما فيصاب بإحباط آخـر، فيجـد سلوته في الانتماء السياسي الذي كانت عاقبته الفـصل لعـام دراسي كامل من كليته ومن ثم سجنه عام 1946 لفترة وجيزة
أطلق سراحه بعدها ليسجن مرة أخرى عام 1948 بعد أن صدرت مجموعته الأولى أزهار ذابلة بمقدمة كتبها روفائيل بطي أحد رواد قصيدة النثر في العراق
عن إحدى دور النشر المصرية عام 1947 تضمنت قصيدة هل كان حبا حاول فيها أن يقوم بتجربة جديدة في الوزن والقافية تجمع بين بحر من البحور ومجزوءاته أي أن التفاعيل ذات النوع الواحد يختلف عددها من بيت إلى آخر
وقد كتب روفائيل بطي مقدمة للديوان قال فيها نجد الشاعر الطليق يحاول جديدا في إحدى قصائده فيأتي بالوزن المختلف وينوع في القافية، محاكيا الشعر الإفرنجي، فعسى أن يمعن في جرأته في هذا المسلك المجدد لعله يوفق إلى أثر في شعر اليوم، فالشكوى صارخة على أن الشعر الربي قد احتفظ بجموده في الطريقة مدة أطول مما كان ينتظر من النهضة الحديثة
إن هذه الباكورة التي قدمها لنا صاحب الديوان تحدثنا عن موهبة فيه، وان كانت روعتها مخبوءة في اثر هذه البراعم - بحيث تضيق أبياته عن روحه المهتاجة وستكشف الأيام عن قوتها، و لا أريد أن أرسم منهجا مستقبلا لهذه القريحة الأصيلة تتفجر وتفيض من غير أن تخضع لحدود و القيود، ولكن سير الشعراء تعلمنا أن ذوي المواهب الناجحين، هم الذين تعبوا كثيرا، وعالجوا نفوسهم بأقصى الجهد، وكافحوا كفاح الأبطال، حتى بلغوا مرتبة الخلود
ويتخرج السياب ويعين مدرسا للغة الإنجليزية في مدرسة ثانوية في مدينة الرمادي التي تبعد عن بغداد تسعين كيلومترا غربا، تقع على نهر الفرات. وظل يرسل منها قصائده إلى الصحف البغدادية تباعا، وفى يناير 1949
ألقي عليه القـبض في جـيكور أثناء عطلة نصف السنة ونقل إلى سجن بغداد واستغني عن خدماته في وزارة المعارف رسميا فى25 يناير 1949 وافرج عنه بكفالة بعد بضعة أسابيع ومنع إداريا من التدريس لمدة عشر سنوات، فعاد إلى قريته يرجو شيئا من الراحة بعد المعاملة القاسية التي لقيها في السجن
ثم توجه إلى البصرة ليعمل (ذواقة) للتمر في شركة التمور العراقية، ثم كاتبا في شركة نفط البصرة، وفى هذه الأيام ذاق مرارة الفقر والظلم والشقاء ولم ينشر شعرا قط، ليعود إلى بغداد يكابد البطالة يجتر نهاراته في مقهى حسن عجمي يتلقى المعونة من أصحابه اكرم الوتري ومحي الدين إسماعيل وخالد الشواف، عمل بعدها مأمورا في مخزن لإحدى شركات تعبيد الطرق في بغـداد
وهكذا ظل يتنقل من عمل يومي إلى آخر، وفى عام 1950 ينشر له الخاقاني مجموعته الثانية (أساطير) بتشجيع من أكرم الوتري مما أعاد إلى روحه هناءتها وأملها بالحياة، وقـد تصدرتها مقدمة لبدر أوضح فيها مفهومه للشعر الجديد الذي يبشر به ويبدأ بدر بكتابة المطولات الشعرية مثل أجنحة السلام و اللعنات وحفـار القـبور و المومس العمياء وغيرها
ويضطرب الوضع السياسي في بغداد عام 1952 ويخشى بدر أن تطاله حملة الاعتقالات فيهرب متخفيا إلى إيران ومنها إلى الكويت بجواز سفر إيراني مزور باسم (على آرتنك) على ظهر سفينة شراعية انطلقت من عبادان في يناير 1953، كتب عنها فيما بعد قصيدة اسمها فرار 1953 وهناك وجد له وظيفة مكتبية في شركة كهرباء الكويت حيث عاش حياة اللاجئ الذي يحن بلا انقطاع إلى أهله ووطنه، وهناك كـتب أروع قصائده غريب على الخليج يقول فيهامازلت اضرب، مترب القدمين أشعث
في الدروب تحت الشموس الأجنبية
مـتخافق الأطمار
أبسط بالسؤال يدا نديه
صفراء من ذل وحمى
ذل شحاذ غريب بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار، وازورار.. أوخطيه
والموت أهون من خطيه
من ذلك الإشفاق تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء.. معدنية
ويعود إلى بغداد بعد انقضاء عدة اشهر يلتقي بأصدقائه القدامى في مقهى حسن، ويقطع صلته بالحركة السياسية التي كان ينتمي إليها بعد تجربته المريرة في الكويت مع بعض رفاقه السابقين الذين عاشوا معه في بيت واحد. ثم يصدر أمر وزاري بتعيينه في مديرية الاستيراد والتصدير العامة، ويستأجر بيتا متواضعا في بغداد ويستدعى عمته آسيه لترعى شؤونه اليومية
تنشر له مجلة الآداب في يونيو 1954 أنشودة المطر تتصدرها كلمة قصيرة جاء فيها من وحي أيام الضياع في الكويت على الخليج العربي ويكتب بعدها المخبر تليها الأسلحة والأطفال وفي المغرب العربي و رؤيا فوكاي و مرثية الآلهة و مرثية جـيكور وينشغل بالترجمة والكتـابة، وتحل سنة1955 حـيث يتزوج من إقبال شقيقة زوجة عمه عبد اللطيف، وهى معلمة في إحدى مدارس البصرة الابتدائية
في العام نفسه نشر ترجماته من الشعر المعاصر في كتاب سماه قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث يحتوى على عشرين قصيدة لأليوت وستويل وباوند سبندر ودي لويس، ودي لامير و لوركا ونيرودا ورامبو وبريفير، وريلكه طاغـور وناظم حكمت وغيرهم
وتقوم حرب السويس اثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 ليكتب بعـدها السـيـاب قصيدته بور سعيد ألقاها في اجتماع عقد في دار المعلمين العالية ببغداد تضامنا مع شعب مصر وفى،2 ديسمبر 1956 تولد ابنته البكر غيداء، التي ستصبح مهندسة فيما بعد
ويتعرف في شتاء1957 على مجلة جديدة ستلعب دورا هاما في مرحلته الفنية الجديدة تلك هي مجلة (شعر) اللبنانية كان محررها يوسف الخال وسرعان ما أصبح السياب أحد كتابها العديدين من دعاة التجديد في الشعر العربي مثل أدونيس وأنسي الحاج وجبرا إبراهيم جبرا وتوفيق صايغ، لتبدأ قطيعته مع مجلة الآداب التي تبنت نتاجه المدة السابقة
وبدعـوة من المجلة الجديدة يسافر إلى بيروت لاحياء أمسية شعرية تعرف خلالها على أدونيس و أنسي الحاج وشوقي أبى شقرا وفؤاد رفقه ويوسف الخال، ويعود إلى بغداد أشد ثقة بشاعريته. واكثر إحساسا بالغبن في بلده حيث يجابه وعائلته مصاعب الحياة براتب ضئيل
وتستهويه الأساطير التي دلها عليه (الغصن الذهبي) لجو فريزر والذي ترجم جبرا فصلا منه، فيكتب قصائد مثل المسيح بعد الصلب و(جيكور والمدينة) و(سربروس في بابل) و (مـدينة السندباد) وهى قصائد تمتلئ بالرموز مثل المسيح ويهوذا وتموز وعشتار وسربروس والسندباد، ويجئ يوم 23 نوفمبر 1957 لتكتحل عينا الشاعر بابنه غيلان وقد كثف بدر فرحه بمولوده في قـصيـدته مرحى غيلان و فيها يقول :بابا .. بابا
ينساب صوتك في الظلام إلى كالمطر الغضير
ينساب من خلل النعاس وأنت ترقد في السرير
من أي رؤيا جاء؟ أي سماوة؟ أي انطلاق؟
وأظل أسبح في رشاش منه، أسبح في عبير
أن أودية العراق
فـتـحت نوافـذ من رؤاك على سهادي
كل واد
وهبته عشتار الأزاهر والثمار
كأن روحي
في تربة الظلماء حبة حنطة
وصداك ماء أعلنت بعثي
يا سماء
هذا خلودي في الحياة
تكن معناه الدماء
وتأتى صبيحة 14 يوليو 1958 لتعلن عن نهاية الحكم الملكي على يد الجيش وتنسحب الجمهورية الوليدة من حلف بغداد تركيا، إيران، باكستان، العراق وتخرج من كتلة الإسترليني وتعلن قانون الإصلاح الزراعي وتطلق سـراح السجناء السياسيين، ويحس بدر أن ما تمناه طويلا قد تحقق، غير أن آمال بدر قد تهاوت اثر الانقسامات والاحترابات التي عصفت بالمجتمع آنذاك
وفى السابع من أبريل 1959 فصل من الخدمة الحكومية لمدة ثلاث سنوات بأمر وزاري لتبدأ من جديد رحلة التشرد والفقر، كان نتاجها عدد من القصائد مثل العودة لجيكور و رؤيا في عام 1956 و المبغى
في يوليو 1960 يذهب إلى بيروت لنشر مجموعة من شعره هناك، وتوافق وجوده مع مسابقة مجلة شعر لأفضل مجموعة مخطوطة فدفع بها إلى المسابقة ليفوز بجائزتها الأولى (1000 ل. ل) عن مجموعته أنشودة المطر التي صدرت عن دار شعر بعد ذلك
وعاد إلى بغداد بعد أن ألغي فصله وعين في مصلحة الموانئ العراقية لينتقل إلى البصرة ويقطن في دار تابعة للمصلحة في الوقت نفسه بدأت صحته تتأثر من ضغط العمل المضني والتوتر النفسي، غير انه اعتقل ثانية في 4 فبراير 1961 ليطلق سراحه في 20 من الشهر نفسه، و أعيد تعيينه في المصلحة نفسها، غير أن صحته استمرت بالتدهور فقد بدا يجد صعوبة في تحريك رجليه كلتيهما وامتد الألم في القسم الأسفل من ظهره
في 7 يوليو 1961 رزق بابنته آلاء في وقت ساءت فيه أحواله المالية، وغدا مثل قصبة مرضوضة. وحملته حالة العوز إلى ترجمة كتابين أمريكيين لمؤسسة فرانكلين، جرت عليـه العـديد من الاتهامـات والشكوك ثم تسلم في العام نفسه دعوة للاشتراك في (مؤتمر للأدب المعاصر) ينعقد في روما برعاية المنظمة العالمية لحرية الثقافة
ويعود إلى بفداد و من ثم إلى البصرة- محلة- المعقل- حيث الدار التي يقطنها منذ تعين في مصلحة الموانئ، يكابد أهوال المرض إذ لم يعد قادرا على المشي إلا إذا ساعده أحد الناس ولم يعد أمامه سوى السفر وهكذا عاد إلى بيروت في أبريل 9962 في 18 أبريل 1962 أدخل مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت، وبعد محاولات فاشلة لتشخيص مرضه غادر المستشفى بعد أسبوعين من دخوله إليه بعد أن كتب قصيدته الوصية يخاطب فيها زوجته :إقبال، يا زوجتي الحبيبه
لا تعذليني، ما المنايا بيدي
ولست، لو نجوت، بالمخلد
كوني لغيلان رضى وطيبه
كوني له أبا و أما وارحمي نحيبه
ويزوره اكـثر من طبيب في مرضه الميؤوس منه، وتنفد النقود التي تبرع بها أصدقاؤه له، وينشر له أصحابه ديوانه المعبد الفريق عن دار العلم للملايين لكن الدخل الضئيل الذي جناه منه لم يسد نفقات علاجه، وازدادت حاله سوءا وابتدأت فكرة الموت تلح عليه وهو ما نراه في قصيدة نداء الموت ليعود بعدها مدمرا نهاية سبتمبر 1962 تلاحقه الديون إلى البصرة، وتكفلت المنظمة العالمية لحرية الثقافة بنفقاته لعام كامل بعد أن رتبت له بعثة دراسية
يقول جبرا إبراهيم جبرا
في أواخر عام 1961 كانت وطأة المرض في بدء شدتها على الشاعر، حتى أخذ يفكر في أن لابد له من علاج في لندن قد يطول. ولما كان قد حصل على زمالة دراسية، كان الاقتراح أن ينخرط طالبا في جامعة إنكليزية للدراسة من أجل الدكتوراه
في أثناء ذلك ينصرف أيضا لمعالجة مرضه. وكان عندها أن سعيت له مع صديقي المفكر العربي الأصل، الأستاذ ألبرت حوراني، الأستاذ في جامعة أكسفورد لقبوله بأسرع ما يمكن، وكان التأكيد على السرعة
فأبدى الأستاذ حوراني حماسة للفكرة، و حاول أن يجد له مكانا في الجامعة غير أن قبوله لم يكن ليتم في الحال - والذين حاولوا أيجاد مكان لهم في أكسفورد يعلمون بالمدة الطويلة التي لابد من انقضائها أحيانا بين تقديم الطلب و القبول النهائي- ولما لم يكن ثمة مجال للانتظار
ومرض بدر في تصاعد سريع أخذ يعيق عليه سيره، استطاع الأستاذ حوراني أن يجد له قبولا في جامعة درم وهي من جامعات شمال إنكلترا، المعروفة بدراساتها الشرقية وفي أوائل خريف 1962 سافر در إلى إنكلترا لأول مرة والمرض يكاد يقعده، وتوجه إلى مدينة درم، وهو شديد القلق و المخاوف على حالته الصحية .
درم مدينة جبلية صغيرة، ابتنت شهرتا على وجود جامعة فيها هي من أفضل الجامعات البريطانية. بيد أنها رغم جمالها الطبيعي، وجمال كلياتها التي يتباهى بعضها بروائع هندستها المعمارية، مدينة يلفها الضباب في معظم أيام السنة، ولقربها من مناجم الفحم المحيط بها من كل صوب، يشتد فيها الضباب قتاما أيام الخريف و الشتاء لدرجة الكآبة
وهي في مثل هذا القتام الكئيب أدركها بدر وهو ينوء بعبء سقامه. ويبدو أنه أقام فيها بضعة أيام كانت له أيام خيبة ومرارة، كتب في كل يوم منها. ولم يستطع أن ير أحدا، ولم يره أحد. واستقل القطار بعدها عائدا إلى مستشفي في لندن، حيث نظم شعرا كثيرا يحمل بعض ما أحس به من كآبة في تلك المدينة الصغيرة التي لم تتح له أن يرى فيها شيئا من فتنة كان يتوقعها
في نهاية عام 1968، إذ كنت في جولة بين بعض الجامعات الإنكليزية أحاضر عن الأدب العربي، ذهبت إلى درم لأول مرة، وألقيت فيها محاضرة على جمهور جامعي، وكان التجاوب بيننا حارا، طيبا. وتحدثت عن بدر، وذكرت كيف انه انخرط طالبا في درم، ولو لأيام قلائل، وتوقعت أن يكون بين الأساتذة على الأقل من يعلم بذلك
وكانت الدهشة كبيرة : السياب طالب في درم. لم يعلم بذلك أحد. لم يكن قد سمع بذلك أحد، حتى من المعنيين بالدراسات المعاصرة. دهشة طيبة، ولكن، رحماك يا بدر، لم تعلم الجامعة حتى بمجيئك
لكنت ضحكت ولا ريب، غير أنها الآن تعلم، وتفخر بأنك قضيت فيها عدة من أيام في مستشفى لندن كتب السياب العديد من القصائد لعل من أهمهاسفر أيوب لك الحمد مهما استطال البلاء
و مهما استبد الألم
لك الحمد، إن الرزايا عطاء
وان المصيبات بعض الكرم
وفي درم كتب قصيدة الليلة الأخيرة وكانت زيارته إلى درم تجربة مريرة في الوحدة والبرد والمرض، وهناك اسـتعان بعكاز اصطحبه إلى لندن حيث لزم غرفته فقيرا وحيدا بانتظار تحويل مصرفي من المنظمة العالمية لحرية الثقافة في باريس
وبين الأمل واليـأس والمراسلات المستمرة انقضت أيامه في المستشفى موحشة باردة حتى صدرت مجموعته منزل الأقنان في بيروت- مارس 1963 بعد أن غادر بدر المستشفى بأيام قليلة، ليكتب بعدها مجموعة قصائد اشهرها شناشيل ابنة الجلبي مستذكرا كعادته طفولته وصباه في جيكور وأبي الخصيب وبين أفياء النخيل الوارفة وظلال البساتين ومجارى الأنهار
وفى15 مارس 1963 طار إلى باريس في طريق العودة إلى الوطن تحت إلحاح زوجته ورسائلها التي تصف الحالة المزرية التي ترزح تحت وطأتها العائلة، وفى باريس عرفه أصحابه بلا جـدوى على عـدد من الأطباء الفرنسيين، وفى 23 مارس 1963 غادر باريس على كرسي متحرك من مطار أورلي وقد ذكرت لوك نوران كيف جاءت هي وأدروار طربيه و ماري جورج و سيمون جارجي لتوديع بدر في المطار فبدا بدر لها وكأنه ذاهب ضد الزمن وضد الموت
وعندما جاءت المضيفة لتأخذه إلى ذلك الجانب الغامض من المطار حيث لا يسمح بدخول أحد غير المسافرين، وعندما دفعت كرسيه الدراج إلى الباب فانفتحت دفتاه ثم أغلقتا مثل فخ، شعرنا بقلبنا يتوقف
فقد اختفى بدر وهو عالق بابتسامة المضيفة بتجلد. كان قد التفت نحونا وهز يده ولكننا كنا نعلم أنه كان يغور في الفراغ. كان بدر يموت للمرة الأولى بالنسبة لنا، بينما ابتسامة الموت ترتسم على شفتي امرأة
ولم يمر أسبوعان على وصول بدر إلى البصرة، حتى فصل من الخدمة الحكومية لمدة ثلاث سنوات ابتداء من 4 نيسان 1963 بناء على مقتضيات المصلحة العامة، واستنادا لأحكام المادة 2-أ من قانون تطهير الجهاز الحكومي رقم 2 لسنة 1958
كانت هذه صدمة شديدة زادت من هموم بدر/ فكتب رسالة إلى لجنة الاعتراضات الخاصة بالمفصولين و المعزولين، وأرسلها إلى بغداد وفيها يحتج لبراءته و يؤكد ولاءه للعهد الجديد. ولكنه قبل النظر في أمره كان بلا عمل وبلا دخل وكانت أول قصيدة كتبها بعد رجوعه إلى البصرة هي ليلة في العراق :وعدت إلى بلادي، يالنقالات إسعاف
حملن جنازتي، ماتمدد فيها أثن رأيت غيلانا
يحدق ، بانتظاري، في السماء وغيمها السافي
و ما هو غير أسبوعين ممتلئين أحزانا
ويفجأني الن1ير بأن أعواما من الحرمان و الفاقة
ترصد بهي هنا، في غابة الخوذ الحديدية
بعد ذلك بدأ بدر يعمل كمراسل أدبي لمجلة حوار في العراق، بعد أن نال موافقة جون هنت، سكرتير المنظمة العالمية لحرية الثقافة في بباريس. وبدأ يرسل إلى توفيق صايغ محررها في بيروت، تقارير فصلية عن الحركة الأدبية في العراق،وكان يدفع له أربعين دولارا على التقرير
وصار ينشر شعره كذلك في هذه المجلة التي كانت تدفع لكتابها مبالغ طيبة. و كانت الأوساط الفكرية القومية قد بدأت ترتاب بها و تهاجمها على أنها أداة من أدوات الاستعمار الغربي وتسلله الثقافي
ولم تتحسن صحته بدر على الرغم من أنه واصل اخذ الدواء الذي وصفه له الدكتور في باريس، وسال سيمون جارجي أن يرسل له المزيد منه. وكان يستصعب المشي الآن حتى بعكاز، وقد وقع على الأرض مرارا وهو يحاول المشي مجررا قدميه. و عندما مات أبوه في أوائل 1963 ، في عيد الأضحى، لم يستطع أن يذهب إلى المسجد لحضور جنازته. وكان يقضي معظم وقته في البيت
ولم يكتب شعرا مدة طويل، ولكنه عمل على ترجمة فصول عينها له جبرا من كتاب الشعر و النثر الأمريكيان الذي كان سينشر في بيروت بتكليف من مؤسسة فرنكلين في بغداد باشتراك مترجمين آخرين
وفي هذا الوقت قبل بدر أن يعالجه بدوي من الزبير، فكوى ساقيه وظهره بالنار ثم أعطاه بعض المراهم ليدهن بها أطرافه المشلولة. لم يكن لهذا (العلاج) فائدة وقبل بل بدر في يأسه كذلك أن يعالجه سادات البصرة من الرفاعية الذين كانوا يدعون العلم بالعلاج الروحاني
فحل عندهم يومين تحسنت صحته بعدهما، ربما بفعل الإيحاء الذاتي، لكن التحسن كان قصير الأجل. ولم يعد تعيين بدر في وظيفته السابقة في مصلحة الموانئ العراقية إلا في 11 تموز 1963
وكان صديقه مؤيد العبدالواحد يرافقه يوميا إلى العمل ومنه إلى البيت. لكن بدر لم يكن في الواقع قادرا على شيء يذكر من العلم في حالته السيئة تلك. و كتب إلى سيمون جارجي في 21 تشرين الأول 1963 يقول : إنتاجي الشعري، هذه الأيام، قليل جدا، وذلك لانعدام أية تجربة شعرية جديدة
إنني نادرا ما أغادر الدار إلا إلى مقر عملي. كما أنى سئمت من الضرب على وتر أنا مريض فيما أكتب من شعر وقد فكر بدر، وهو يعيش ذكريات الماضي وينتج القيل من الشعر، أن يعيد شيء من شعر الباكر فاختار من أزهار ذابة- القاهرة 1048- و أساطير -النجف 1950- عددا من القصائد ولا سيما من المجموعة الأخيرة، فشذبها وهذبها وحذف منها قليلا، ونشرها في بيروت في تشرين الأول 1963 بعنوان أزهار وأساطير
وكان مجرى الأحداث السياسية في العراق يسوء فحيث كان بدر يأمل أن يرى جبهة متضامنة تؤيد العهد الجديد الذي أطاح بقاسم، كان هناك صراع على السلطة. وكان البعثيون يحاولن السيطرة على البلاد، لكن الرئيس عبد السلام عارف والجيش أحبطا خططهم في تشرين الثاني 1963
وكان الصراع على السلطة يعتبر أهم من الوحدة الوطنية و تنفيذ الإصلاحات الواسعة التي وعدت بها ثورة 14 تموز 1958، وأعادت تأكيدها ثورة 41 رمضان 1382 8 شباط 1963
لكن بدرا كان قد بلغ به المرض حدا ما عاد به يقوى على الاهتمام. بل أنه كان يشعر كأنه أسير في سفينة قراصنة، أزيل ربانها وقام ثان طموح مكانه لن يلبث أن يزال أيضا، وهكذا باستمرار
وفي 29 تشرين الثاني 1963 كتب قصيدة أسير القراصنة يصف فيها حسرته لأنه مشلول، ويتمنى لو كان يستطيع المشي ويفضل ذلك على كونه شاعرا يعزف القيثار باسم الجراح ، ثم يقول لنفسه و أنت في سفينة القرصان عبد أسير دونما أصفاد تقبع في خوف وإخلاد تصغي إلى صوت الوغى والطعان :سال دم
اندقت رقاب ومال
ربانها العملاق
وقام ثان بعده ثم زال
فامتدت الأعناق
لأي قرصان سيأتي سواه
و أي قرصان ستعلو يداه
حينا على الأيدي ؟
وليأت من بعدي
من بعدي الطوفان
تسمعها تأتيك من بعد
يحملها الإعصار عبر الزمان
وكان بدر في غضون ذلك هدفا لحملات صحفية بسبب تناقضاته السياسية في الماضي وموقفه غير الملتزم في الحاضر. وكانت علاقاته بمجلة جوار و المنظمة العالمية لحرية الثقافة تذكر ضده
وكان معظم الناس يحكم عليه أشد الحكم بناء على ما كتب أو ما كان يكتب ولكن قلائل كانوا يعلمون حقا مبلغ مرضه ومدى ضعفه، إذ كانوا لا يزالون يحسبون أنه عملاق الشعر العربي الحديث الذي يجب أن يكون دائما عند كلمته بينما لم يكن عند بدر الا أن يندب حظه ويتحسر على عمره الضائع ويرغب في الموت
قال في رسالة إلى صديق : ( لا أكتب هذه الأيام إلا شعرا ذاتيا خالصا. لم اعد ملتزما. ماذا جنيت من الالتزام؟ هذا الفقر وهذا المرض؟ لعلي أعيش هذه الايام آخر أيام حياتي إنني أنتج خير ما أنتجته حتى الآن. من يدري؟ لا تظن أنني متشائم، العكس هو الصحيح لكن موقفي من الموت قد تغير
لم أعد أخاف منه، ليأت متى شاء. أشعر أنني عشت طويلا. لقد رافقت جلقامش في مغامراته، وصاحبت عوليس في ضياعه، و عشت التاريخ العربي كله ألا يكفي هذا؟ تمثال السياب
وكانت حالته الصحية تزداد سوءا كل يوم وكاد فقد القدرة على الوقوف الآن كان طريح الفراش في إجازة مرضية وقد بدأت تظهر له في منطقة الأليتين قرحة سريرية جعلت تتوسع لطول رقاده في السرير
ولم يعد قادرا على ضبط حركتي التبول و إفراغ الأمعاء لضعف الأعصاب الاحساسية والعضلات الضابطة في جذعه الأسفل
ومرت بامرأته أيام عصيبة وهي تتفانى في خدمته وتوفر أسباب الراحة له وعلى الرغم من أنه كان يتمتع بكامل قواه العقلية فانه كان أحيانا يتهمها بعدم العطف عليه
وفي كانون الثاني 1964 سمع بدر بوفاة الشاعر لويس مكنيس، فكتب قصيدة لهذه المناسبة. ولكنه لم يستطع أن يحجم عن الإشارة إلى مرضه وغربته عن زوجته وتمنى الموت. وكان يدخن كثيرا ويأكل قليلا جدا
واذا به في 9 شباط 1964 في حالة صحية حرجة استدعت إدخاله إلى مستشفي الموانئ في البصرة، وهو يعاني ارتفاع حرارته إلى أربعين درجة مئوية، بالإضافة إلى عسر في التنفس مع ازرقاق الشفتين وسعال شديد
و بعد الفحص تبين أنه مصاب بذات الرئة المزدوجة وبداية خذلان القلب، وإسهال شديد مع تقيؤ، وقرحة سريرة متعفنة قطرها 25 سنتيمترا في المنطقة الحرقفية، بالإضافة إلى شلل أطرافه السفلى وهزاله الشديد
فوضع مدة أسبوع كامل تحت المعالجة الخاصة بالحالات الطارئة الحرجة في المستشفى الحكومي، وبعد أن زال الخطر عن حياته مباشرة، وبعد أن بدأت حالة قلبه ورئتيه تتحسن عولج لإزالة الإسهال الذي كان يزيد قرحته السريرية سوءا
وعندما بدأ الإسهال يزول اصبح في الإمكان معالجة قرحته السريرية، فتحسنت حالتها و أصبحت غير متقيحة. غير أن التئامها بطريقة نمو الأنسجة الذاتي كان مشكوكا فيه إلا بعملية رقع الجلد
وقد كتب بدر بهذا الشأن رسالة مؤثرة إلى توفيق صايغ يسأله فيها أن يرسل مسحوقا طبيا لجراح الناغرة و الفاغرة يشتريه له من صيدليات بيروت
وقد أعطي بدر كميات كبيرة من الأدوية المقوية ، فضلا عن الكميات الإضافية من الحليب و اللحوم و الأسماك و الفواكه، مع العلم أنه لم يكن في المستشفى إلا أسرة من الدرجة الثالثة التي لا تقدم لها هذه الأغذية وبمثل هذه الكميات
فازداد وزن بدر اكثر من ثمانية كيلوغرامات، وبوشر باجرء تمارين رياضية بسطة لأطرافه السفلى. و كان الطبيب يعلم أن لا علاج لمرض التصلب المنتشر في النخاع الشوكي المسبب للشلل، ولكنه اقترح أن ينقل بدر إلى أحد مستشفيات بغداد ليوضع تحت إشراف طبيب أخصائي بأمراض الجهاز العصبي
وفي أول نيسان 1964 انتهت المدة التي يحق لبدر فيها أن ينال إجازات مرضية واجازات اعتيادية براتب تام 54 دينارا عراقيا، وكذلك المدة التي يحق له فيها أن ينال إجازات مرضية بنصف راتب، بمقتضى أحكام قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960
ولكنه لم يستطع أن يغادر المستشفى لاستئناف العمل في مصلحة الموانئ. لذلك بدأت مدة الإجازة المرضية بدون راتب التي يسمح بها القانون، وطولها 180 يوما وفي 8 نيسان 1964 أرسلت جمعية المؤلفين و الكتاب العراقيين ببغداد، وكان بدر عضوا فيها، رسالة إلى وزارة الصحة العراقية تتوسط لديها لمعالجة بدر
وجوابا على استفسارات الوزارة، أرسلت الجمعية رسالة أخرى في 26 نيسان 1964 فيها معلومات عن حالة بدر المرضية و معالجته في مستشفى الموانئ، مع رجاء حار بسرعة توفير الأخصائيين الطبيين لمساعدة بدر
ولكن الرسميات في الدوائر الحكومية طالت، بحيث أن شهر حزيران 1964 كاد ينتهي قبل أن تتخذ ترتيبات لنقل بدر بالقطار إلى بغداد ليوضع في غرفة من الدرجة الأول ويعالج في مستشفى الشعب ببغداد وصدرت دعوة المستشفى بتاريخ 29 حزيران 1964، ولكنها لم تصل بدرا إلى في 5 تموز 1964
وكانت ترتيبات خاصة أخرى قد اتخذت قبل ذلك لمعالجة بدر في الكويت وذلك أن الشاعر الكويتي علي السبتي كان قد نشر نداء موجها لوزير الصحة الكويتي عبداللطيف محمد الثنيان يناشده فيه معالجة بدر في الكويت على حساب الحكومة الكويتية فرحب وزير الصحة بذلك وكان معجبا بشعر بدر فاتخذت الترتيبات لأن يجئ بدر إلى الكويت بالطائرة ليعالج في المستشفى الأميري
في 5 تموز 1964، كتب بدر كلمة شكر واعتذار على رسالة الدعوة التي جاءت من مستشفى الشعب ببغداد يشرح الترتيبات السابقة مع الحكومة الكويتية. وفي 6 نموز طار إلى الكويت على إحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية وكان وحده
فاستقبله في المطار الكويتي صديقه علي السبتي مع أصدقاء آخرين. وادخل المستشفى الأميري في الحال ووضع في غرفة خاصة و أحيط بكل عناية واهتمام
غير أن لا عناية ولا اهتمام مهما حسنا كان بإمكانهما أن يعيدا الصحة لبدر فقد كانت صحته في تأخر وانحدار متزايدين، وكان التصلب يسوء صعدا في نخاعه الشوكي ويزيد في إفساد وظائف جهازه العصبي، وساءت حالة قرحته السريرية بفقدان الإحساس في جذعه الأسفل وعدم قدرته على السيطرة على البراز و البول وكانت رجلاه الضامرتان بلا قوة، وقد أدى عدم استعمالهما إلى بداية فساد في العظام نفسها ولكنه كان متمالكا لجميع قواه العقلية، وكان برى أنه يعيش في حضن الموت
و لم يكن في حاجة لأن يقول له أحد أن أيامه كانت معدودة. لماذا إذن اذلال الجسد، ولماذا آلام الروح؟ ليأت الموت سريع، وليأت فجأة
وفي ليلة 9 تموز 1964 كتب قصيدة عنوانها في غابة الظلام بينما كان ساهرا يفكر بحالته الحزينة وبابنه غيلان يحلم بعودة والده، وختمها بقولهأليس يكفي أيها الإله
أن الفناء غاية الحياه
فتصبغ الحياة بالقتام ؟
سفينة كبيرة تطفو على المياه؟
هات الردى ، أريد أن أنام
بين قبور أهلي المبعثرة
وراء ليل المقبرة
رصاصة الرحمة يا اله
لقد بلغ به اليأس مبلغا حتى أنه طلب من الله رصاصة الرحمة، طلب موتا فجائيا ينهي شقاءه برحمة
وكان يزوره في المستشفى يوميا كثيرون من أصدقائه مثل علي السبتي وناجي علوش، وإبراهيم أبوناب وفاروق شوشه وسلمى الخضراء الجيوسي مع زوجها. وكان وزير الصحة الكويتي وغيره من كبار الرسميين الكويتيين يزورونه كذلك، ولم يكن بدر وحيدا ، بل أنه في الواقع كان ينزعج أحيانا من طول جلسات الشعراء و الكتاب والصحفيين التي كانت تدوم إلى ساعات متأخرة من الليل
وما أعظم ما كنت سعادته حين تسلم رسالة من زوجته في 3 آب 1964، فكتب قصيدة عنوانها (رسالة) يصف فيها شعوره بالقلق على أسرته. وفي ليلة 5 آب 1964 كان يفكر مشتاقا بابنتيه غيداء وآلاء وينتظر وصولهما مع غيلان وزوجته إقبال في اليوم التالي. فكتب قصيدة عنوانها (ليلة انتظار)، وفيها يقول :غدا تأتين يا إقبال ، يا بعثي من العدم
ويا موتي ولا موت
ويا مرسى سفينتي التي عادت ولا لوح على لوح
ويا قلبي الذي إن مت أتركه على الدنيا ليبكيني
ويجأر بالرثاء على ضريحي وهو لا دمع ولا صوت
أحبيني ، إذا أدرجت في كفني .. أحبيني
ستبقى - حين يبلى كل وجهي ، كل أضلاعي
وتأكل قلبي الديدان ، تشربه إلى القاع
قصائد .. كنت أكتبها لأجلك في دواويني
أحبيها تحبيني
ووصلت إقبال و أولادها إلى الكويت في اليوم التالي ونزلوا في بيت علي السبتي خلال اقامتهم في الكويت. وكانت إقبال تزور زوجها في المستشفى كل يوم فتؤنسه وتخدمه .
وكانت رؤية أطفاله تدمي قلبه على رغم ما كانت تدخل إليه من سعادة. فقد كان يعلم أنه مائت وتاركهم وراءه ولم يكن بدر الآن قادرا على كتابة الشعر بتدفق كالسابق. على الرغم من الحافز الأقوى على الكتابة وفي 14 آب 1964 كتب قصيدة (المعول الحجري) وفيها يقول :رنين المعول الحجري يزحف نحو أطرافي
سأعجز بعد حين عن كتابة بيت شعر في خيالي جال
فدونك يا خيال مدى و آفاق ألف سماء
وفجر من نجومك ، من ملايين الشموس من الأضواء
وأشعل في دمي زلازال
لأكتب قبل موتي أو جنوني أو ضمور يدي من الإعياء
خوالج كل نفسي ، ذكرياتي ، كل أحلامي
و أوهاني
و اسفح نفسي الثكلى على الورق
ليقرأها شقي بعد أعوام وأعوام
ليعلم أ، أشقى منه عاش بهذه الدنيا
وآلى رغم وحش الداء والآلام و الأرق
و رغم الفقر أن يحيا
وينهي بدر قصيدته مودعا أصدقاءه وأحباءه، وهو يعلم أن مرضه لن يسمح له بمزيد من الحياة
وفي ليلة 21 آب 1964 كتب قصيدة عنوانها ليلة وداع أهداها إلى زوجتي الوفية وفيها يعبر بدر عن حبه لزوجته وعطفه عليها وشعوره معها في وحدتها ويتمنى لو كان بمقدورها أن تشعر معه ويقول :آه لو تدرين ما معنى ثوائي في سرير من دم
ميت الساقين محموم الجبين
تأكل الظلماء عيناي ويحسوها فمي
تائها في واحة خلف دار من سنين
و أنين
مستطار اللب بين الأنجم
وعندما يتحدث عن حبه لها يتمنى لو كانت أقل غيرة و أكثر صراحة ويقول :آه لو كنت كما كنت صريحه
لنفضنا من قرار القلب ما يحشو جروحه
ربما أبصرت بعض الحقد ، بعض السأم
خصلة من شعر أخرى أو بقايا نغم
زرعتها في حياتي شاعره
لست أهواها كما أهواك يا أغلى دم ساقى دمي
إنها ذكرى ولكنك غيرى ثائره
من حياة عشتها قبل لقانا
أوصدي الباب . غدا تطويك عني طائرة
غير حب سوف يبقى في دمانا
عادت زوجته و أطفاله إلى العراق في اليوم التالي وكان بدر خلال اقامته في المستشفى يكسب بعض المال بنشر قصائده في الصحف الكويتية التي كانت تدفع له جيدا. ومنه مجلة (الرائد العربي) التي كان يحرر فيها إبراهيم أبو ناب، فكانت تدفع له عشرة دنانير عن كل قصيدة
وكان بدر في غضون ذلك يقوم باتصالات لنشر مجموعة جديدة من شعره لدي دار الطليعة في بيروت، بعنوان شناشيل ابنة الجلبي
وكانت صحته قد هبطت هبوطا شديدا. وفقد الشهية للطعام وزاد هزاله. وعلى الرغم من تعاطي الأدوية المقوية فقد بلغ ضعفه درجه أصبح معها يجد صعوبة في الكلام أحيانا
وقد أصيب بكسر في عنق عضل فخذه اليسرى بينما كانت المدلكة تقوم بتدليكه، وذلك لذوبان الكلس في العظام
وفي أيلول 1964 أصيب مرتين بالنزلة الصدرية وصل فيها إلى حالة خطيرة كادت تودي بحياته لولا العلاجات التي أعطيت له بكميات كبيرة
وفي أواخر أيلول 1964 عندما لم يكن بعد قد تغلب على نزلته الصدرية أرسلت له مصلحة الموانئ العراقية في البصرة رسالة تخبره فيها أنه ابتداء من بعد ظهر 27 أيلول 1964 انتهت مدة أجازته المرضية البالغة 180 يوما بدون راتب، وأنه لعدم استئنافه العمل أحيل على التقاعد استنادا لأحكام الفقرة 30ب من المادة 46 من قانون الخدمة المدنية رقم 24 لسنة 1960. ولم يكن أثر هذه الرسالة في بدر حسنا بالطبع .
وقفي تشرين الأول 1964 بلغ الضعف حدا لم يعد منه قادرا على الأكل، واستوجبت الحالة تغذيته بواسطة أنابيب تدلى من أنفه. وقد أرسلت له جمعية المؤلفين و الكتاب العراقيين ببغداد منحة مالية قدرها مائة دينار عراقي في محاولة لمساعدته ماليا ومعنويا. بيد أن أية مساعدة لم تكن مجدية
وبدأت تنتاب بدرا نوبات من الهذيان و التصورات الوهمية، فان هزاله وضعفه الشديد و اضطراب جهازه العصبي بدأت تؤثر في دماغه. و كان يستعيد صفاءه الفكري مدة ساعات ليعود بعدها إلى حالة من الاضطراب الفكري .
وقد وصفته الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي في هذه الفترة ، فقالت: بدر إلى سرير المستشفى- المستشفى الأميري في الكويت- الغرفة رقم 1 ، وفي أنفه أنبوب الطعام، و الحياة تهجر جسمه الذي أذوته الجهود و الأوجاع، وعذبه ترقب الموت. انه يناديني نعم يا بدر. صوتي مرهق وخافت إذا ينطلق في هواء الغرفة الساخن الحزين. لقد كنت ارتجف. وأوشك على البكاء هل تعلمين؟ لقد ضاع دفتر شعري الجديد وبصوت لا يكاد يسمع إقبال لم تجئ. ثم بعد لحظات لقد ضاع مني كل شيء .
هراء قلتها له ألف مرة إن ما ملكت لا يضيع. ما كان أفقرنا لو ضاع منا ما أعطيت انهم لم يروك كما رأيتك أنا، في تلك النهاية البطيئة التي تحطم القلب الأنابيب و البثور ة الهذيان و الطعام الذي لم يمس .
لحظات الصفاء اللامعة ثم الكابوس و الانهيار، مودتك وحكاياتك و طلباتك الصغيرة، ينبوع الشعر الذي ظل يتفجر من قلبك
لقد عرفت لحظة الشعر في نفسك أطراف النقيضين: ينبوع الشعر، والانكسار المغدور البائس و انسحاقه في الموت
ويقول الدكتور محمد أبو هنطش مدير المستشفى الأميري بالكويت ويروي إبراهيم أبو ناب أن بدرا حدثه كيف كان إبليس يحاول جره إلى النار، وكيف كان هو يقاوم ويمانع ويدافع عن نفسه، بأنه ليس الشخص المراد به ذلك .
ويقول ناجي علوش أنه كان يسمع بدرا يهذي بالجن و الأرواح ويقول راضي صدوق أن بدرا في لحظات صفائه الفكري، كان يعتذر لأصدقائه عما قد يكون قاله لهم خلال لحظات هذيانه وتصوراته الوهمية .
وكان بدر يدخن كثيرا ويشرب الشاي الثقيل. ولم يكتب شعرا مدة طويلة. وفي 10 تشرين الثاني 1964 ، كتب بدر قصيدة عنوانها عكاز في الجحيم وهي على ما يروى علي السبتي آخر ما كتب بدر من قصائد .
ولكن هناك قصيدة أخرى غير مؤرخة عنوانها إقبال و الليل يقول فؤاد طه العبد الجليل أخو زوجة بدر الذي نشر مجموعة بدر الأخيرة، إنها قد تكون آخر ما كتب بدر. وربما كتبت في حدود هذا التاريخ .
وفي القصيدة الأولى يلخص بدر تاريخ عذابه الذي سجنه في سريره وحد من انطلاقة عبقريته ويقول :وبقيت أدور
حول الطاحونة من ألمي
ثورا معصوبا، كالصخرة، هيهات تثور
والناس تسير إلى القمم
لكني أعجز عن سير - ويلاه- على قدمي
وسريري سجني ، تابوتي، منفاي إلى الألم
و إلى العدم
ثم يقضي في قوله كيف كان يتوقع أن يقدر على المشي يوما ولو على عكازين. لكنه الآن يرغب أن يسعى على رأسه أو ظهره ليصل القبر ويشق دربه إلى الجحيم. ويصرخ في وجه موكلها :لم تترك بابك مسدودا ؟ ولتدع شياطين النار
تقتص من الجسد الهاري
تقتص من الجرح العاري
وتأت صقورك تفترس العينين و تنتهش القلبا
فهنا لا يشمت بي جاري
أو تهتف عاهرة مرت من نصف الليل على داري
بيت المشلول هنا ، أمسى لا يملك أكلا أو شربا
وسيرمون غدا بنتيه وزوجته دربا
وفتاة الطفل إذا لم يدفع متراكم إيجار
انثرني ويك أباديدا
وافتح بابك لا تتركه أمام شقائي مسدودا
ولتطعم جسمي للنار
وفي القصيدة الأخرى يلخص بدر في ليلة طويلة ساهرة حبه للعراق وجيكور ولأصدقائه وأقاربه، ولزوجته و أطفاله، ويوجه الكلام لزوجته فيقول :يا أم غيلان الحبيبة صوبي في الليل نظره
نحو الخليج. تصوريني اقطع الظلماء وحدي
لولاك ما رمت الحياة، ولا حننت إلى الديار
حببت لي سدف الحياة، مسحتها بسنا النهار
لم توصدين الباب دوني؟ يا لجواب القفار
وصل المدينة حين أطبقت الدجى ومضى النهار
والباب أغلق فهو يسعى في الظلام بدون قصد

ثم ينهي بدر القصيدة بنغمة عاطفية فيقول
إقبال مدي لي يديك من الدجى و من الفلاه
جسي جراحي و امسحيها بالمحبة و الحنان
بك أفكر لا بنفسي : مات حبك في ضحاه
وطوى الزمان بساط عرسك و الصبى في عنفوان
في كانون الأول 1964 كانت لحظات الصفاء في تفكير بدر تقل وتصبح نادرة ولحظات الاضطراب تكثر وتصبح متصلة تقريبا. و لم يتعرف على كثيرين من أصدقائه ومعارفه عندما كانوا يزورونه .
وبدأت تنتابه، بالإضافة إلى ذلك، حالات إغماء وفقدان الوعي كانت تدوم ساعات فإذا صحا كان كامل الوعي متمالكا لقواه العقلية لا ينقصه شيء سوى قواه الجسدية. و أخيرا، وفي يوم الخميس الموافق للرابع و العشرين من كانون الأول 1964 وقع في غيبوبة وفاضت روحه في الساعة الثالثة بعد الظهر .
فأبرق علي السبتي ينعي بدرا لأهلهن وأخبرهم أنه سيصطحب جثمانه إلى البصرة يوم الجمعة في 25 كانون الأول 1964
وكان اليوم يوما ماطرا لم تر المنطقة مثله مدة سنين عديدة. ورافق المطر السيارة التي حملت جثمان بدر من الكويت الى أن وصلت البصرة، في ذلك اليوم الذي كان العالم يحتفل فيه بعيد الميلاد. واستقبلها في البصرة مزيد من المطر .
و أخذ جثمان بدر بالسيارة إلى داره في شارع أجنادين بالمعقل. لكن الدار كانت خالية، إذا أن عائلته كانت قد خرجت منها بأمر حكومي في ذلك اليوم نفسه. فأخذ جثمان بدر بالسيارة إلى دار فؤاد طه العبد الجليل في محلة الأصمعي، ولكن لم يكن في البيت أحد، وقيل لعلي السبتي أن الجميع ذهبوا إلى المسجد لاستقبال الجثمان وحضور الجنازة .
وسيق الجثمان إلى المسجد حيث اجتمع قلة من الأهل و الأصحاب. وبعد صلاة الجنازة أخذ جثمان بدر إلى الزبير يرافقه بضعة رجال فقط، فووري التراب في مقبرة الحسن البصري غير بعيد عن قبر ذلك الرجل العظيم . وكان المطر لا يزال ينهمر، ولكن لم يكن يرى في المنطقة نخيل

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:00 PM
هدير البحر والاشواق
هدير البحر يفتل من دمائي من شراييني

حبال سفينة بيضاء ينعس فوقها القمر

و يرعش ظلّها السحر

و من شباكي المفتوح تهمس بي و تأتيني

سماء الصيف خلّف طيفه في صحوها المطر

و نحن نسير و الدنيا تسير و تقرع الأبواب

فتوقظ من رؤاه القلب ذاك عدوك الزمن

تدور رحاه كم ستظلّ تخفق ؟ ها هم الأصحاب

تراب منه تمتلئ الدروب و تشرب الدمن

يودّ القلب لو حطمته لو حطمت خفقاته شفتيك

و الكتفين و الصدرا

و لو ذرّتك من زفراتي الحرى

رياح الوجد و الحرمان و الهفي على عينيك

ليتهما تمران

بدمع أو بإشفاق على صحراء حرماني

لينبت في مداها الزهر ليتهما تمرّان

بما نسج التأمل من غيوم فيهما حيرى

بما نسج التفرد من نجوم فيهما سكرى

على عمري الذي عراه من زهراته الداء

يود القلب لو حطمته لو حطمت خفقاته شفتيك

و الكتفين و الصدرا

ولو عرّاك لو ذرّاك لو أكلتك أشواقي

و لو أصبحت خفقا أو دما فيه أو سرّا

فإن أحببتك الحب الذي أقسى من الموت

و أعنف من لظى البركان و الحب الذي يأتي

إليّ كأنّ نفخ الصور فيه فكل ذر الميتين دم و أحياء

فذاك لأنك النور الذي عرى دجى الأعمى

و أنت صباي عاد إليّ أختا عاد أو أمّا

و أنت حبيبتي أفديك أفدي خفق جفنيك

و ما نفضا من السحب

وأفدي خفق نهديك

على قلبي

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:02 PM
نداء الموت
يمدّون أعناقهم من ألوف القبور يصيحون بي

أن تعال

نداء يشق العروق يهزّ المشاش يبعثر قلبي رمادا

أصيل هنا مشعل في الظلال

تعال اشتعل فيه حتى الزوال

جدودي و آبائي الأولون سراب على حد جفني تهادى

وبي جذوة من حريق الحياة تريد المحال

وغيلان يدعو أبي سر فإني على الدرب ماش أريد

الصّباح

و تدعو من القبر أمّي بنيّ احتضنّي فبرد الردى في عروقي

فدفّئ عظامي بما قد كسوت ذراعيك و الصدر و احم

الجراح

جراحي بقلبك أو مقلتيك و لا تحرفن الخطى عن طريقي

و لا شيء إلا إلى الموت يدعو و يصرخ فيما يزول

خريف شتاء أصيل أفول

وباق هو الليل بعد انطفاء البروق

و باق هو الموت أبقى و أخلد من كل ما في الحياة

فيا قبرها افتح ذراعيك

إني لآت بلا ضجّة دون آه

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:03 PM
خذيني
خذيني أطر في أعالي السماء

صدى غنوة كركرات سحابة

خذيني فإن صخور الكآبة

تشد بروحي إلى قاع بحر بعيد القرار

خذيني أكن في دجاك الضياء

و لا تتركيني لليل القفار

إذا شئت أن لا تكوني لناري

وقودا فكوني حريقا

إذا شئت أن تخلصي من إساري

فلا تتركيني طليقا

خذيني إلى صدرك المثقل

بهمّ السنين

خذيني فإني حزين

و لا تتركيني على الدرب وحدي أسير إلى المجهل

وكانت دروبي خيوط اشتياق

ووجد وحب

إلى منزل في العراق

تضيء نوافذ ليل قلبي

إلى زوجة كان فيها هنائي

و كانت سمائي

كواكبها ترسم الدرب دربي

وهبت عليها رياح سموم

تبعثر خيطان تلك الدروب البعيدة

فعادت جذى كل تلك النجوم

صلبت عليها و عادت مسامير نعش

و عادت دروبي دربا إذا جئت أمشي

رماني إليك كوزن يقود القصيدة

فوا لهف قلبي عليك

ودرب رماني إليك

أما تعلمين بأني تشهّيتك البارحة

أشم رداءك حتى كأني

سجين يعود إلى داره يتنشّق جدارنها

هنا صدرها قلبها كان يخفق كان التمني

يدغدغه يشعل الشوق فيه إلى غيمة رائحة

لأرض الحبيب ستنضح أركانها

بذوب نداها

تشتهيك البارحة

فقيلت ردن الرداء هنا ساعداها

هنا إبطها يا لكهف الخيال

و مرفأ ثغري إذا لا جرفته رياح ابتهال

ودحرجه مد شوق ملح وقد حار فيه السؤال

تحبيني أنت ؟ هل تخجلين ؟

أم استترفت شوقك الكبرياء

فلم يبق إلا ابتسام الرثاء ؟

أترثين لي أم ترى تشفقين

على قلبك انهدّ تحت الصليب المعلّق في صخرة الكبرياء

نباح الكلاب المبعثر في وشوشات النخيل

ينبه في قلبي الذكريات العتاق

و يربط دقات قلبي بأرض العراق

لأسمع بابا فيطفأ حبي و تبرد نار الغليل

و أعدو على الدرب سدت خطاي عليه

نوافذ بيتي تجمّد فيها الضياء

تغربت عنه و عدت إليه

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:05 PM
سفر ايوب (2)
من خلل الثلج الذي تنثّه السماء

من خلل الضباب و المطر

ألمح عينيك تشعّان بلا انتهاء

شعاع كوكب يغيب ساعة السّحر

و تقطران الدمع في سكون

كأنّ أهدابها غصون

تنطف بالندى مع الصباح في الشتاء

من خلل الدّخان و المداخن الضخام

تمجّ من مغار قابيل على الدروب و الشّجر

ذرا من النجيع و الضّرام

أسمع غيلان يناديك من الظلام

من نومه اليتيم في خرائب الضجر

سمعت كيف دق بابنا القدر

فارتعشت على ارتجاف قرعة ضلوع

ورقرت دموع

فاختلس المسافر الوداع و انحدر

**

و قبلة بين فمي و خافقي تحار

كأنها التائه في القفار

كأنها الطائر إذ خرب عشه الرياح و المطر

لم يحوها خد لغيلان و لا جبين

ووجه غيلان الذي غاب عن المطار

و أنت إذ وقفت في المدى تلوّحين

**

إقبال إن في دمي لوجهك انتظار

و في يدي دم إليك شدّة الحنين

ليتك تقبلين

من خلل الثلج الذي تنثّه السماء

من خلل الضباب و المطر .

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:06 PM
سفر (3)
خطاب والهة
بعيدا عنك في جيكور عن بيتي و أطفالي

تشدّ مخالب الصّوان و الأسفلت و الضّجر

على قلبي تمزّق ما تبقّى فيه من وتر

يدندن يا سكون الليل يا أنشودة المطر

تشد مخالب المال

على بطني الذي ما مرّ فيه الزاد من دهر

عيون الجوع و الوحدة

نجومي في دجى صارعت بين وحوشه برده

و إن البرد أفظع لا كأنّ الجوع أفظع لا فإنّ الداء

يشلّ خطاي يربطها إلى دوّامة القدر

و لولا الداء صارعت الطوى و البرد و الظلماء

بعيدا عنك أشعر أنني قد ضعت في الزحمة

و بين نواجد الفولاذ تمضغ أضلعي لقمة

يمر بي الورى متراكضين كأن على سفر

فهل أستوقف الخطوات ؟ أصرخ أيها الإنسان

أخي يا أنت يا قابيل خذ بيدي على الغمّة

أعني خفّف الآلام عني و اطرد الأحزان

و أين سواك من أدعوه بين مقابر الحجر

**

و لولا الداء ما فارقت دراي يا سنا داري

و أحلى ما لقيت على خريف العمر من ثمر

هنا لا طير في الأغصان تشدو غير أطيار

من الفولاذ تهدر أو تحمحم دونما خوف من المطر

و لا أزهار إلا خلف واجهة زجاجّية

يراح إلى المقابر و السجون بهنّ و المستشفيات

ألا ألا يا بائع الزهر

أعندك زهرة حيّة

أعندك زهرة مما يربّ القلب من حبّ و أهواء

أعندك وردة حمراء سقّتها شموس إستوائيّة

أأصرخ في شوارع لندن الصّماء هاتوا لي أحبائي

و لو أنى صرخت فمن يجيب صراخ منتحر

تمرّ عليه طول الليل آلاف من القطر ؟

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:08 PM
سفر ايوب (4)
يا ربّ أيوب قد أعيا به الداء

في غربة دونما مال و لا سكن

يدعوك في الدّجن

يدعوك في ظلموت الموت أعباء

ناد الفؤاد بها فارحمه إن هتفا

يا منجيا فلك نوح مزّق السّدفا

عني أعدني إلى داري إلى وطني

**

أطفال أيّوب من يرعاهم الآنا

ضاعوا ضياع اليتامى في دجى شات

يا رب أرجع على أيوب ما كانا

جيكور و الشمس و الأطفال راكضة بين النخيلات

و زوجة تتمرّى و هي تبتسم

أو ترقب الباب تعدو كلّما قرعا

لعله رجعا

مشاءة دون عكّاز به القدم

**

في لندن الليل موّت نزعه السّهر

و البرد و الضّجر

و غربة في سواد القلب سوداء

يا ربّ يا ليت أنّي لي إلى وطني

عود لتلثمني بالشمس أجواء

منها تنفّست روحي طينها بدّني

و ماؤها الدم في الأعراق ينحدر

يا ليتني بي من في تربها قبروا

**

لأنه منك حلو عندي المرض

حاشا فلست على ما شئت أعترض

و المال ؟ رزق سيأتي منه موفور

هيهات أن يذكر الموتى وقد نهضوا

من رقدة الموت كم مص الدماء بها دود ومدّْ بساط

الثلج ديجور

إني سأشفى سأنسى كلّ ما جرحا

قلبي و عرّى عظامي فهي راعشة و الليل مقرور

و سوف أمشي إلى جيكور ذات ضحى .

حميدة العسكري
10-08-2014, 08:09 PM
سفر ايوب (5)
نازلا نازلا من صحارى السماء

من عصور جليديّة من قبور

نام فيها الهواء

أيها الثلج يا حشرجات الدهور

و انتحاب المساكين في كل كهف يغور

في جبال السنين

كن لهيبا على أوجه العابرين

قنّع الخوف فيها بلون الرجاء

**

أيّها الثلج رحماك إني غريب

في بلاد من البرد و الجوع سكرى

إن لي منزلا في العراق الحبيب

صبيتي فيه تعلك صخرا

آه لولاك يا داء ما عفت داري

ما تركت الزهور التي فتحت في جداري

و العصافير في ركن بيتي لهن اختصام

مر يوم فشهر فعام

**

و الزمان ارتماء بدون انتهاء

تزفر الأرض عنه و تبكي السماء

رب هل لي إلى منزلي من رجوع

كم أمد الذراع و أهدم سقف الضلوع

لا أمسّ المدى أو أصيب الزمانا

فهو شيء على الروح يسعى هباء و ظلمة

ليت عصر النبوّات لم يطو حلمه

وشت المعجزات الحواشي فكانت و كنا

**

ليتني العازر انفضّ عنه الحمام

يسلك الدرب عند الغروب

يتمهّل لا يقرع الباب من ذا يؤوب

من سراديب للموت عبر الظلام

لن تصدّق أنّي ستهوي يداها

عن رتاج و تصفرّ لي وجنتاها

ثم تركض مذعورة تشدّ بخيط الدروب

نحو قبري و تطويه حتى تمسّ الضريح الحطام

**

إيه إقبال لا تيأسي من رجوعي

هاتفا قبل أن أقرع الباب عادا

عازر من بلاد الدجى و الدموع

قبليني على جبهة صكّها الموت صكّا أليما

حدّقي في عيون شهدن الردى و المعادا

عدت لن أبرح الدار حتى لو أنّ النجوما

دحرجت سلّما من ضياء و قالت

تخطّ السديما

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:01 PM
سفر أيوب (6)
خيال الجسد العاري

يطلّ عليّ محمولا على موج من النار

من المدفأة الحمراء ذاك الرحم الضاري

**

لكل تقلب من موجها خفق من القلب

تدحرج عرّي النهدان بان الجيد و الساق

تدحرج لي على الجنب

تدحرج ثم صكّ أضالعي و تثار أعراق

ويطفر للجبين دم و يعروني

دوار منه تصطكّ النواجذ خوف بحّار

يطلّ فيبصر التيّار يزفر مثل تنين

و يصرخ آدم المدفون فيّ رضيت بالعار

بطردي من جنان الخلد أركض إثر حوّاء

أريدك يا سرابا في خيالي ليس يسقيني

أريدك ثم تطوى موجة و تطير أشلاءا

فقاعات من النيران من شوق و تذكار

**

و جاء الجسد العاري

خيالا جاء محمولا على موج من النار

من المدفأة الحمراء ذاك الرحم الضاري

**

يميل عليّ كيف أشاء أعصره كما أهوى

و لا يقوى

على رفضي على تهديم عرش من لظى وار

أتوّج فوقه الآمال راعشة القوى شهوى

بحار بيننا ليلان من مدن و أمطار

و إنّك منك أقرب أنت بعض دمي

خيالي أنت أمنيات عمري كل أمنيّة

بعاطفتي تحرّك لا عواطفك الأنانّية

علام مددت بحرا بيننا دنيا جليديّة

أعانق في دجاها جسمك العاري

يطلّ عليّ محمولا على موج من النار

ممن المدفأة الحمراء من وهمي و أفكاري .

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:03 PM
سفر أيوب (7)
البرد و هسهسة النار

و رماد المدفأة الرّمل

تطويه قوافل أفكاري

أنا وحدي يأكلني الليل

**

و يخب المركب إلى داري

برق يتلامح في الآفاق يعرّيها

و يذرّيها

كرماد المبخرة الثكلى

في مقبرة تهب الليلا

ألوان الموت و آهات الموتى

**

يا ليل لكم طال الدّرب

تعب الركب

و عراقي شط و سمّاري

ناموا و بقيت و لا زاد

عندي و ظمئت و لا ماء ظمئ القلب

لا سقيا غير شظيات البرق الواري

يا أغصان الليل انهمري ثمرا إذ يؤكل يزداد

السلة منه سأملأها حتى إن عدت إلى داري

فرح الأطفال به هتفوا بابا

يا برق أما تخبو

فيغيب الدرب و لا يبدو

كم منه على الساري بعد

**

البرد وهسهسة النار

و رماد المدفأة الرمل

تطويه قوافل أفكاري

أنا وحدي يأكلني الليل .

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:04 PM
سفر أيوب (8)
ذكرتك يا لميعة و الدجى ثلج و أمطار

و لندن مات فيها الليل مات تنفس النور

رأيت شبيهة لك شعرها ظلم و أنهار

و عيناها كينبوعين في غاب من الحور

مريضا كنت تثقل كاهلي و الظّهر أحجار

أحن لريف جيكور

و أحلم بالعراق وراء باب سدّت الظلماء

بابا منه و البحر المزمجر قام كالسور

على دربي

و في قلبي

و ساوس مظلمات غابت الأشياء

وراء حجابهن وجف فيها منبع النور

ذكرت الطلعة السمراء

ذكرت يديك ترتجفان من فرق و من برد

تنز به صحارى للفراق تسوطها الأنواء

ذكرت شحوب وجهك حين زمر بوق سيّارة

ليؤذن بالوداع ذكرت لذع الدمع في خدّي

ورعشة خافقي و أنين روحي يملأ الحارة

بأصداء المقابر و الدجى ثلج و أمطار

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:08 PM
سفر أيوب (9)
بالعضل المفتول و السواعد المجدولة

هرقل صارع الردى في غارة المحجّب

بظلمة من طحلب

و قام تموز بجرح فاغر مخضّب

يصك ( موت ) صكّة محجّبا ذيوله

و خطوة الجليد بالشقيق و الزنابق

**

و انخطف الموت علي كانخطاف الباشق

على العصافير أحال ظهري

عمود ملح أو عمود جمر

أحرّك الأطراف لا تطيعني مشلولة

مات الدم الفوّار فيها أطفئ الشباب

و امتدّ نحو القبر درب باب

من خشب الصليب فالمسيح

مات و في الطوفان ضلّ نوح

و أغضيت نواظري الذليلة

لعلّها تعتاد من دجاها

على دجى غطاؤها الضريح

**

أي سلاح ؟ آه أيّ ساعد ؟

أيّة أزهار تمدّ فاها

لتأكل الموت ؟ و أيّ ناصر مساعد ؟

سللت من قصائدي

سيفا كأن البرق حدّاد رمى أصوله

وصبّ مقبضا له و شفرة

بالشّعر بالمبرق بالمجلجل المدوّي

رميت وجه يهوي نحوي

كأنه الستار في رواية هزيلة

رميت وجه الموت ألف مرّة

إذا أطلّ وجهه البغيض

كأنه السيرين يسعى جسمي المريض

نحو ذراعيه بلا تردد

فأنتضي من سيفي المجرد

و يقطر الشّعر و لا يغيض

لأنني مريض

أودّع الحياة أو أشدّ بالحياة

بخيطة الموروث عن أموات

لم يدفع الشّعر مناياهم وقد

جاءت إليهم غيلة .

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:10 PM
سفر أيوب (10)
يا غيمة في أوّل الصباح

تعربد الرياح

من حولها تنتف من خيوطها تطير

بها إلى سماوة تجوع للحرير

سينطوي الجناح

ستنتف الرياح ريشه مع الغروب

يا غيمة ما أمطرت تذوب

**

فأبرقي و أرعدي و أرسلي المطر

و مزقي ذوائب الشجر

و أغرقي السهوب

و أحرقي الثمر

سترجحنّ بعدك السنابل الثقال بالحبوب

و تقطف الورود و الأقاح

صبيّة يؤج في وجنتها الجنوب

و أنت ذرة من الدماء و الجراح

و أنت يا شاعر واديك أما تؤوب

من سفر يطول في البطاح

تراقص النّهر

و تلثم المطر

أما سمعت هاتف الرواح

خام وزنبيل من التراب

و آخر العمر ردى و يطلع القمر

فأبرق ارعد أرسل المطر

قصائد احتوى مداها دارة العمر

يا غيمة في أول الصباح

يا شاعرا يهم بالرواح

وودع القمر

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:11 PM
صياح البط البري
و ذرّى سكون الصباح الطويل

هتافٌ من الديكِ لا يصدأُ

وهزّ الصدى سعفات النخيل

وأشرق شباكنا المطفأ .

هتافٌ سمعناهُ منذ الصغر

سمعناهُ حتى نموت

يمرُّ على عتباتِ البيوت

فيرسم أبوابها و الحُجَر

ولا يهدأُ

إلى أن تسير الحقول

إلينا فنقطف منها الثمر

وعند الضحى و انسكاب السماء

على الطينِ و العشبة اليابسة،

يشقُّ إلينا غصون الهواء

صياحٌ ، بكاءٌ ، غناءٌ ، نداء

يبشر شطآننا اليائسة

بأن المطر

على مهمه الريح مدّ القلوع

هو البطُّ .. فلتهنأي يا شموع

بموتٍ بهِ تعرفين الحياة

بهِ تعرفين ابتسامَ الدموع :

نذوراً تذوبين ، للأولياء .

صياحٌ .. كأن الصياح

ينشّل مما انطوى من رياح ،

سهولا وراء السهول

أزاهيرها في الدجى من نباح

وعند النهار حزاما لقاح

وختمية ما لها من ذبول

ينشّر في شاطئ مشمس

من القي الكثّ غاب له عذبات تطول.

صياح كأجراس ماء ..

كأجراس حقلٍ من النرجس

يدندن و الشمس تصغي، يقول

بأن المطر

سيهطل قبل انطواء الجناح

وقبل انتهاء السفر …

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:13 PM
خطاب والهة
أنت تدري ان في قلبي جرحي

الف آه تتترى دون بوح

أنت تدري صار مثل الليل صبحي

انت تدري ايها الجاني فنح

ودع الآلام واقبل بعض نصحي

يا عذابي خلني وحدي اضحي

دع أغاني اللواتي صغتهن



في اسار مبهم بين الدجنه

دع اماني فأني عفتهن

يا عذابي دع رؤى عاودتهن

ودع الآه فلن تجديك أنه

ثم دعني فأنا أشتات محنه

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:14 PM
ظلال الحب
والعصر مخضوب البنان و أزهار الحقل الحسان
و الصبح يملأ بالندى عطرا سلال الأقحوان
و البدر و هو مظله لليل تمتلك افتناني
إن الفؤاد لفي ضلال من هواه و في هوان
ما داخل الحب الفؤا د فعاد بيتا للأماني
أو بات في روض و أص بح باسما نضر المجاني
هبط النعيم و ساكنيه فرده خلو المغاني
سل عنه أزهار الحقول على جداولها حواني
سل زهرة التفاح ضا حكة الأسرة و المعاني
يا زهرة التفاح هلا تخبرين عن الجنان
يوم استفز بها الهوى فلبين باتا يخفقان
اروي لنا نبأ ( الطريد ) فأنت راوية الزمان
أغوته ( حواء ) فمد يديه نحو الأفعوان
ثمر يحرمه الإله عليهما و يحللان
ذاقا فكانا ظالمين فكيف يجزي الظالمان
وبدا الموارى منهما فإذا هنالك سوءتان
و عليهما طفقا من الو رق المهدل يخصفان
يا بؤس من فضح الإله و لم يزده سوى الهوان
لم يعرف الدوح الخريف و نزع أوراق حسان
حتى نضى ورقاته العاشقان الآثمان

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:15 PM
من أغاني الربيع
حلم بآفاق السرور رسمته أجنحة الطيور
و بشائر فوق الربى بين الخمائل في الصدور
و نسائم رقصت على زهر الجنائن و الغدير
و فراشة قد روحت عن زهرة الحقل النضير
تعلو و تهبط في الرياض كأنها نغم الحبور
الفجر يبني للندى و كنا جميلا في الزهور
فلنبن من قبلاتنا للحب عشا في الثغور

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:17 PM
حورية النهر
نفوس معذبه هائمة تخبط في الظلمة القاتمة
أجد لها الليل أحزانها و تذكار أيامها الباسمة
فسارت تفتش عن حبها و تنشد لذاتها الدائمة
و أسرى بها تحت جنح الظلام زوارق في اللجة الغائمة
إذا ما تلوث على الشاطئين من النهر أمواجه اللاطمه
و أرسى على مائه زورق تؤرجحه النسمة الحالمة
أطلت على النهر حورية فأغوته بالنظرة الساهمة
فأغواره و هي أوطانها بواك على فقدها نادمة
و أمواجه و هي أترابها جئت تحت أقدامها لاثمه
أحورية النهر غضي العيون و كوني بملاحة راحمه
تسيرين في زورق من ظلال فتدفعه النسمة الناعمة
و مجدافك اخترته من ضي اء النجوم على اللجة القاتمة
و أطربت النهر و الضفتين أغان و قيثارة ناغمة
لقد حق أن تسحر الكائنات وتستل آهاتها الجاثمة
فأوتارها شعرك العسجدي و أنت الموقعة الباسمة
رأى النهر مصرع ملاحه بعينيك أيتها الظالمة
رآك فهيأ مجدافه و أسلم زورقه للظلام
يثير إذا سار عزم الميا ه فتطلق عن جانبيه السهام
طغى الموج و ارتد يطوي الظلال فلم يبق للعين إلا القتام
فيا زورقا من ظلال تلاشى بحورية ليس ترعى الذمام
أخلفت ملاحنا وحده و للموج في الشاطئين احتدام
و حورية النهر ما خلفت سوى أغنيات تثير الغرام
يجاري اختلاجاتها زورق و موج و قلب حواه الهيام
و نهر تمازج أمواهه و يحملها رغوة إذ تنام
و نجم يعشى الدجى ضوءه كنبع على ثغره العشب نام
و يقتاف آثارها زورق و ملاحه الشارد المستهام
يطالعه طيف حورية من الموج يختال في الابتسام
فمن كل صوب سرى خالها هناك و إن سار ألفى الظلام
أوهما يرى لا فذا صوتها ينتهي فتعيد المياه الكلام
و لاحت له أعين مشفقات محدقة من وراء الغمام
تنادي به ظللتك الخطوب و قادتك نحو الردى و الحمام
و لكن أذنيه لم تسمعا حديث السماوات حيث السلام
جرى وهو ليس له غاية سوى أن يجدف حتى الصباح
و يقفو على الماء ضوء النجوم و يصرع أشجانه بالنواح
لقد حطم الليل مجدافه و هيض الشراع بعصف الرياح
وقد أطفأ الموج مصباحه فصاح و لم يجد ذاك الصياح
تبرمت يا ليل بالبائسين فزل و اترك الصبح يأسو الجراح
و نادى وقد مد كلتا يديه لقد حان يا أرض عنك الرواح
فيا شاطئا كان مأوى الغريب إذا مل طول السرى فاسترح
وداعا وداع الشقي الحزين سيسر إلى الموت بعد الكفاح
و يا زمج الماء خدن السفين سمير الشراع الطروب الصداح
كلانا يحن إلى تربه فطر لي فإني مهيض الجناح
و يا أنجم الليل يا عودي إذا القلب في الليل بالداء طاح
إذا ما خبا نوركن الوضيء أسى و تألق نجم الصباح
فحدثنه عن فتى في الدجى طواه العباب وحب الملاح
رأى -ويح عينيه- حورية فجن بها ساعة ثم راح
فقد يخبر النجم عنه الرعاة فيبكون حزنا و تبكي البطاح
و مات الشقي الحزين فعادت تكفنه بالشراع الرياح

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:18 PM
رثاء القطيع
لقد حدثوني بموت القطيع فشدت على القلب كف الألم
رأيتك تبكين بين الثرى و تستصرخين رعاة الغنم
و حولك سرب من الراعيات يخففن عنك الضنى و السأم
أما أرقت عين هذا التراب دموع لها فوقه منسجم
من الأعين الحور ينبوعها فهل تصبح اليوم تحت القدم
لقد زوقت تحت أيدي الأصيل سفوح الروابي بظل القمم
و قد حوم النوم حول الغدير فما بال أزهاره لم تنم
و أمواجه أخلدت للسكون فمات على ضفتيه النغم
و كانت تغني بحجر النسيم إذا لفها موهنا و استجم
أحزنا على ما أصاب القطيع رفيق هواها عراها السقم
و مالك لا تملأين المروج ابتساما فإن الربيع ابتسم
و فوق الثرى ذاب قوس السحاب فبادت على جانبيه الظلم
رياض كما يشتهي العاشقون و ما صور الفن منذ القدم
و نور سها شفاه الزهور و نهر عليه الذهول ارتسم
أحزنا على ما أصاب القطيع أليف الروابي اعتراك الألم
سأبكي وقد كنت تستضحكين إذا الدمع من ناظري انسجم

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:20 PM
مقطع بلا عنوان

و أي خير في الهوى كله إن كنتما بالحب لا تعلمان
يا زهرتي قد مت يا زهرتي آه على من يعشق الأقحوان
لولا التي أعطيت سحر اسمها ما بت استوحيك سحر البيان

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:21 PM
شاعر
كفن بالأوراق آهاته وارتد يرثيها بآياته
واستأسرت أبياته روحه فطاف يبكي حول أبياته
غنى ليصطاد حبيباته فاصطاد أسماء حبيباته
إن تبك عينيه صباباته أبكي عيونا بصباباته
ساعاته في شعره خلدت ما باله يندب ساعاته
و هو إذا ما أن من لوعة رجع كل الكون أناته
إن دس تحت الترب جثمانه وكف قلب بين طياته
خلف قلبا بين أشعاره يسمع من في الأرض دقاته

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:24 PM
المساء الاخير
برب الهوى يا شمس لا تتعجلي لعلي أراها قبل ساع الترحل
سريت فأفق الغرب يلقلك باسما طروبا و أفق الشرق بادي التذلل
كأن السنا إذ فارق الأرض و اعتلى رؤوس الروابي و النخيل المسبل
أحاسيس أخفاها الفؤاد وصانها زمانا ففاضت من عيون و مقل
و صفصافة مخضوبة الرأس بالسنا تراع بزفزاف من الريح معول
تبين كعذراء من الريف أقبلت بجرتها من دافق الماء سلسل
نعى لي و للناس النهار ( مؤذن ) وقد كان ينعي لي قؤادي و مأملي
تمنيته لا يسمع الصوت أخرسا تمنيت لو يهوي إلى الأرض من عل
ألا وقرت آذان من يسمعونه بأشلاء قلب في ضلوعي مقتل
ألا نثرت من تحت أقدامه أسى حجارة ذاك المسجد المتبتل
أطرت عصافير الربى حين غادرت كأن بتغريد العصافير مقتلي
رأيت بها بدهر مجنح فأبغضت أشباه العدو المنكل
كأنى به لما يمد جناحه يمد لأكباد الورى حد فيصل
ألا ليت عمر اليوم يزداد ساعة ليزداد عمر الوصل نظرة معجل

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:25 PM
أغنية الراعي
دعي أغنامنا ارعى حيال المورد العذاب

و هيا نعتلي الربوة يا فاتنة القلب

فنلقى تحتنا الوديان في ليل من العشب

خيالانا به طيف من الآمال و الحب

خطايا تبعث الذكرى بقلب الورد و الزهر

سيبقى في غد منها صدى ينساب في النهر

و في الأنداء ما ذابت على وقع خطى الفجر

و في أغنية الرعيان ما بين الربى الخضر

سئمنا العالم الفاني و الناس و مرعانا

لقد سجنوا بأغلال من الأنظار نجوانا

سننشد في أمان من عيون الناس مأوانا

ضعي يدك الجميلة في يدي و لنذهب الآنا

و من أثواب قطعانك يا ريحانة العمر

نحوك شراع زورقنا و نطوي لجة العمر

نغني الموج أغنية الرعاة على الربى الخضر

لقيثار روى أنغامه عن ربه الشعرا

نؤم جزيرة منسية في بحرها النائي

طوى الموج بشطيها جناحيه بأعياء

إليها أومأ المجداف لما ضلها الرائي

و أضحى دمعه يرسم أقمارا على الماء

سنبني كوخنا تحت الغصون بجانب النبع

و نملؤه بما شئناه من زهر و من شمع

و أنغام رواها الوتر السكران بالدمع

و عطر قطفت أزهاره من ذلك الجذع

ستهوي شفتانا فيه نحو القبلة الأولى

فيصغي في صداها خافق ما زال مبتولا

إلى همس المجاديف طواها الليل تقبيلا

إلى نجوى الينابيع بروض بات مطلولا

تعالي نهجر الآثام و الناس و دنيانا

لأرض سبقتنا نحوها بالسير روحانا

هناك نرى المنى و الحب و الأحلام ترعانا

ضعي يدك الجميلة في يدي و لنذهب الآنا

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:26 PM
خيالك
لظلك لو يعلم الجدول على العذب من مائه منزل
يمر به القلب مر الغريب و يهفو له الحب و المأمل
بأفيائه تحلم الذكريات و يشدو الخيال و يسترسل
وقفت حزينا لدى الضفتين و حولي زهور المنى تذبل
وقد رف ظلك فوق المياه وجالت بأعطافه الشمأل
ففي الموج مما رأى هزة يحار لها الشاطيء الممحل
و سرحت عيني في مقلتين يسدد سهميها الجدول
غرام فهل تنكرين الغرام وحب و هل منه لي موئل
تمنيت لو كنت ريحا تمر على ظل و لهى فلا تعذل
و يستأسر الموج إغراؤها و ترديدها النائح المرسل
فتمضي و يمضي به للسماء غماما بأرجائها يرفل
فأخلو بظلك بين النجوم وقد جال فيها الدجى المسبل
ففي كل تقبيلة نجمه تغور أو كوكب يذهل
خيالك من أهلي الأقربين أبر و إن كان لا يعقل
أبي منه قد جردتني النساء و أمي طواها الردى طواها الردى المعجل
و ما لي من الدهر إلا رضاك فرحماك فالدهر لا يعدل

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:27 PM
تحية القرية
شفني من ربوعك النضرات فتنة تستعيدها نظراتي
في رياض النخيل يجمع فيها الفجر شمل الضياء بعد شتات
فإذا الروض فتنة تتجلى من صناع الأنامل المبدعات
أخذت جليها الطبيعة فيه وبدت في غلائل عطرات
توجت بالزهور مفرقها الجدول رب الخمائل الهامسات
و انثنت تستحث ماشطة الريح و تبدي النجيل للماشطات
و المروج الحسان هامت عليها حرق من تنهدات الرعاة
و العذارى بين الربى يتهادين ندي النوار و الزهرات
و الغدير الوسنان ظلله الكرم و اصبى امواجه الموهنات
منظر تستخف ألوانه الطير فتزجي ألحانها الساحرات
و هدوء الحقول تلقى لديه النفس ما ترتجيه من غايات
فهو نور يهدي سفائن فكاري ألى ما وراء بحر الحياة
قترى المبدع المصور فيما حولها من جنائن موثقات
في ابتسام الرياض للمد و الجزر لطوفان عذبى النغمات
يحملان الحديث عن مرقص البحر و حور الشواطىء اللاعبات
و عن الشط و النخيل السكارى في الليالي القمراء و المظلمات
رنحتها الأنسام لما سقتها العطر في أكؤس الندى المترعات
وقروط الأغداق تهتز أغراق لفلك شوارع جاريات
صور تسجد النفوس لديها وتضج القلوب بالصلوات
أينما دار ناظري طالعتني فتنة تستعيدها نظراتي

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:29 PM
تنهدات
سعف النخيل على الممر تهدل و أحجب بظلك ما يراه المجتلى
من كنت أحذر أن تحجب طيفها عن ناظري نزلت بأبعد منزل
سيان عندي اليوم قفر موحش و ظلال روض مستطاب المنهل
فسل النسائم أن تكف عن السرى ما للفؤاد بسيرها من مأمل
إن أقبلت بشذى الزهور و لم يكن عطر الحبيبة فيه فلتتحول
أبدا تذكرني المروج بمن نأت وربابة الراعي تهيج الشوق لي
في كل زاوية نظرت رأيت من آثارها ما خلفته لمقلتي
فإذا سهوت على ثغاء قطيعها يشكو أساه بلوعة و تذلل
قد ودعته فما شفاه وداعها من حرقة في صدره لم ترحل
ألقت بمسمعه ثمالة شدوها فرنا بغرب دموعها المترسل
حففت لو ودعتها بعض الأسى و مسحت بعض دموع قلب مثقل
و الدوح عصفره الخريف ورده كالعاشق المتحرق المتذلل
نشر الأصيل عليه عمق سكونه فمضى يحن لأغنيات البلبل
فكأنما الورقات مرآة له تجلو اصفرار سمائه للمجتلي
أأروح و هو يظلني و حبيبتي و أعوذ وحدي وهو غير مظللي
سعف النخيل سواك خان مودتي و بقيت تحفظها لمن لا ينسلي
أشكو إليك أذى الفؤاد و إن تكن لا ترجع الشكوى لصب مبتلى
تمضي الحبيبة و الزمان كلاهما و أظل أندبها و تصغي أنت لي

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:30 PM
ياليل
ليت الليالي تنسي قلبي الألما و النجم ينبئها عني بما علما
لعينيك يا ليل سر لا تبوح به أغمضت عنه عيون الناس فانكتما
إلا عيوني ما أغمضت ساهدها فبتن يرقبن منك النوء و الظلما
قد اتقيت أذاها فاستثرت لها دمعا لهت فيه عما فيك منسجما
صحبت فيك سرى الأحلام مفزعها و عذبها فطويت الغور و الأكما
فما التقتيت بمن أهوى أتحسبها يقظى لديك فما أهدتها حلما
و هل نعمت من الدنيا برؤيتها أما احترقت فأفزعت النجوم أما
ألم تخنك الدراري مذ شغفن بها و كيف وارين غرب الدمع حين هما
ترى هل الأرض مأواها و موطنها أم السماء نمتها فهي بنت سما
من السنا و الندى و الزهر منزلها على الثرى من ندي الغيم قد رسما
إن الأهلية شيء من أرائكها و الفجر مرآتها ما رف مبتسما
و ساءلتك و غرب الدمع سامرها عني فألفتك قد أوليتها صمما
فردت الطرف نحو الغيم حائرة فارتد بارقة يجلو لها الظلما
وهزت الأفق السهران باحثة عني وبت أهز القلب مضطرما
فما نجومك و هي النيرات سوى آثار أقدامها تروي لك الألما
و ما أغانيك و هي الخالدات سوى أشتات قلبي تروي حبه نغما
أما سئمت من الآهات نرسلها نارا و قلبك من قلبي أما سئما
ضم الفؤادين لم تبق النوى بهما ما يستطيع حياة إن هما انصرما

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:30 PM
الذكرى
أطللت من نافذة الذكريات على رياض القدم الحالمات
و لي زمان عرضت لي به أجمل حلم أبدعته الحياة
أركض في أمحائها لاهيا مع الفراشات بمس النبات
وأسهر الليلة مع جدول مرتعش للنسم الفاترات
يا لهفي إن وراء الربى صوتا دعاني هو صوت الرعاة
و كيف آتيك جنان الهوى يوما ودوني حجب مانعات
دعا صباباتي لضفاته غدير ذكرى مائج الأمنيات
حدقت في أمواجه ساعة مستطلعا أغواره المبهمات
أرى ظلال السحب تقبيله مرت على جبهته في أناة
و السحب هل أنكرتها إنها كانت نهيرا شاعري اللهاة
ملء فروع الدوح ألحانه سكرى على قرع كؤوس الحصاو
نمنا على أعشاب ضفاته مختلسين القبل المسكرات
نحو الغدير العذب مدت يدي تلمس فيه السحب العائمات
فانفجرت منها فقاعاته في إثر أتراب لها سابقات
إني سمعت الحور في همسة مسحورة أصداؤها عاتبات
تلك عقود الحور بعثرتها فهل أتتك المتع الذاهبات
و صرخة الأطفال من غوره يا أيها القاسي فجرت الكرات
ودوحة الذكرى تسلقتها مجتذبا أغصانها المزهرات
مستقصيا ما بينها فجوة تمر منها النسم الهائمات
أبصرت منها ذكريات الصبا على نجيل المرج مستلقيات
و البحر يسعى دونها زافرا فالموج آهات حطمن الصفاة
يا مرج هل تذكرني راعيا أعبد فيك الله و الراعيات
و البحر ما كان سوى جدول ينير في الليل سبيل الرعاة
فما دهاه اليوم حتى غدا ملحا أجاجا بعد عذب فرات
أحقبة نضجر من طولها و إنها طرفة عين الحياة
قالت الدوحة لا تبتئس ستهبط المرج ففيم الشاكاة
هاك جناحين فطر وائته و استوح فيه المتع الطارئات
و قدمت بين دموع الندى فرعين من أغصانها المورقات
غنى الخريف الغاب ألحانه فانتثرت أوراقه راقصات
وقبل أن أدرك ما أبتغي ذوي جناحاي مع الذاويات

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:33 PM
أغنية السلوان
تباعدنا فلا حزن على ما ضاع من قرب

و ليس الحب إلا الرحلة استلت قوى القلب

و هل يلقي انتهاء السفر الملاح في كرب

إذا ما راح يطوي اليم نحو الشاطيء الخصب

نفضنا قطرات الوصل بين الورد و العشب

إذا ما اهتزت الزهرة ألقت بالندى العذب

و أفردنا و في الإفراد بعض الخير للصب

تعيش الزهرة الفيناء في المنبسط الرحب

و تقضي وحشة الأيام بالتحديق في السحب

تنام على وسادة الشوك نائة عن الترب

و لا ترمقها عين فتنجو من أذى العطب

و إما زهرتان استوتا جنبا إلى جنب

سرت نجواهما تنسل بين العطر في السهب

فتسمعها الفراشات وراء التل و الشعب

فتضرب في الفضاء الرحب نحو المنبت الرطب

إذا ما ركض الطفل وراء فراشة السرب

فلاذت بصدور الزهر بعد الحوم و الجوب

فشأن الزهرتين القطف و الإذعان للخطب

عناق الحب فاجأه هوي المنجل الغضب

فيا للقبلة المشلولة الأصداء بالرعب

و كنا لوحتى نافذة في هيكل الحب

فلو لم نقترق لم ينقذ النور إلى القلب

و كنا كجناحي طائر في الأفق الرحب

فلولا النشر و التفريق لارتد إلى الترب

و لولا لم نبتعد لم تسم نفسانا عن الذنب

و كنا شفتي هذا القضاء مفرق الصحب

فلو ننفرج لم تضحك الأقدار من كربي

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:34 PM
همسك ألهاني
خيالك أضحى لابسا من فؤاديا رداء موشى بالرؤى البيض حاليا
و كنت كذاك الطائر الخادع الذي يراه رعاة البهم في المرج هاويا
فيعدون بين العشب و الزهر نحوه و إن رعاة قاربوه طار جذلان شاديا
فما زال في إسفافه و انطلاقه فلا هو بالنائي و لا كان دانيا
و ما زال يلهي راعيا عن قطيعه و مزماره حتى يضل المساريا
و إنك قد أشغلتني صانك الهوى عن الشعر لما أن تبعتك راضيا
و إن على مرآة شعري سحابة لأنفاسك الولهى تغشى المرائيا
و إن رغب الروح انطلاقا أعاقه صدى روحك الرخو الجناحين داعيا
و همسك ألهاني فما بت سامعا لحون إله الشر أو بت واعيا
و قيثارتي ما شأنها و أناملي بشعرك باتت عابثات لواهيا
ألا يتسنى يا ابنة الحب ساعة لروحي أن ترقى النهود العواريا
فتلمح من عليائها أفق فتنة يوافيه إشعاع من الحب زاهيا
سأهتف بالأشعار إما رأيته و أستقبل الإلهام سهلا مواتيا
متى حومت في أفق ثغرك قبلة يصعدها ثغري فقد زال ما بيا
و عدت لرب الشعر جذلان سامعا حفيف جناحيه ينادي خياليا

حميدة العسكري
10-09-2014, 07:36 PM
يوم السفر
من لقلبي على اقدر قضي الأمر بالسفر
آه لو أنه مضى معهم يتبع الأثر
أترى كان ينثني عن محبيه لو قدر
من معيبي على الغرام إذا ضج أو زخر
زحم القلب موجة فعنا القلب و انقهر
أسفا زورق المنى وسط أمواجه اندثر
أقبلت فتنة الفؤاد و في عينها الخبر
عبرات على التراب تهاوين في ضجر
إنها خمرة الغرام سقينا بها الحجر
يوم أن لاح انها لحرام على البشر
إنه يومنا الأخير عن الفرقة انحسر
خلديه بقبلة تصرف الهم و الكدر
لذة تنتقي و ذكرى ستبقى مدى العمر
لن أرى جنة الهوى لا ولن أقطف الثمر
من شفاه حوالم برؤى اللثم كالزهر
و بعيد عن البلوغ لقاء و إن قصر
قد جلت ساعة الوداع شتاتا من الصور
أدمع فابتسامتان فيأس فمصطبر