صلاح الدين سلطان
07-06-2015, 01:40 PM
ذكريات
القسم الثالث
عشت في الموصل في حي قديم معروف ، ويقع على ضفاف دجلة. نادرا ما تجد شخصا في الحي يرتدي البنطلون ، بل رجالهم يرتدوا العقال ، أعني : عربان. حتى لهجتهم تختلف عن اللهجة الموصلية ، وتميل الى اللهجة العشائرية.
يفصل بين الحي الذي اسكنه والحي المسيحي شارع فقط لذا سكان كلا الحيين يعرف نوعا ما بعضهم الاخر ، وعلاقاتهم مع البعض فيها تالف.
الا أنك لا تجد مسيحيا يسكن الحي الاسلامي ، بل ولا تجد مسلما يسكن الحي المسيحي ، و كلا الحيين لا يتحليان بالنظافة ، وخاصة في الشتاء ، الطابع الذي يجمع بين الحيين هو الفقر.
كنا نعيش في بيت قديم عائد لجدتي ، ويحوي على ثلاثة غرف ، ولكل غرفة سرداب.
في الوسط توجد فسحة ، نسميها في العراق ( حوش ) البيت بدون كهرباء ، بل نستعمل لمبة تعمل بالنفط. اعني فقر مدقع.
لذا لا اتذكر أن قرأت يوما كتابا في البيت ، او كتبت واجبا مدرسيا في البيت ، طيلة مدة دراستي في الموصل.
كنت ادرس في الحقول ماشيا ، وبعد الدراسة كنت اتغني بجمال الطبيعة بالطريقة التي تناسب ادراكي.
كنت أستيقظ لوحدي ، بين الرابعة والخامسة صباحا ، وأتناول فطوري ، وهو عبارة عن كوب حليب ورغيف خبز ، ومن ثم اذهب مبكرا للمدرسة ، وتكون خالية من التلاميذ.
ادخل الصف ، واكتب واجباتي المدرسية اولا ، ومن ثم اخرج ، وكتابي معي وادرس ماشيا وارجع الى المدرسة ، حيث تبدأ الدراسة في الثامنة.
بعد الدراسة ، ارجع الى البيت وأتناول طعام الغداء ، وارجع ثانية الى المدرسة حتى نهاية الدوام. بعد الدوام أكون مع اصدقائي ، فانشغل بألعاب رياضية ، او بنشاطات اخرى.
في يوم احتجت الى دينار ونصف ( في وقتها يعتبر مبلغا كبيرا ، فكيف على فقير مدقع مثلي ؟ كنت لا اكلف والدتي لذا جيوبي تبقى جديدة بدون ثقوب لانها لا تفهم لغة النقود هههههه
طيلة دراستي في الموصل لم يحدث أن اكلت في بيت احد ، ولم اتقبل أي شيء من صديق او غير صديق ، خشية ان لا اتمكن على رد جميله. كل اصدقائي ومعارفي يعرفوا هذا ، ودون أن يعرفوا السبب.
كنت غنيا جدا بأصدقاء امناء اخيار ، ومن كل الطبقات.
احتجت يوما الى دينار ونصف ، احتياجا كبيرا ، دون ان يدر احد بأمري ، وحيرتي.
كنا في العطلة الصيفية ، نسافر الى بساتيننا ونعيش جوا اخر ، يختلف تماما عما هو عليه في الموصل. فنتمتع بالفواكه والجبن واللبن. حياة متناقضة تماما لحياتنا في الموصل.
طيلة دراستي في الموصل ، كتمت حقيقة حياتي ، وأقربائي ، حتى لأعز اصدقائي. الكل يعرفوا اني من عائلة فقيرة بسيطة لا غير.
ولكني احتاج الى دينار ونصف ، علي ان اجدها بطريق شرعي حلال !!!!!!!!!
قررت أن لا اسافر في العطلة الصيفية الى بساتيننا ، وأخبرت الوالدة بذلك ، ولزمت الصمت لشدة ثقتها بي.
طيلة حياة الفاقة ، ما صادف يوما ان اشتغلت في أي عمل ما ، واكره بطبعي العمل اليدوي. عكس اخي ، الذي يكره الكتاب ، ويميل بطبعه الى العمل اليدوي ، وأستطيع ان اقول عنه ، انه شاذ في عائلة والدي.
سبق وأن ذكرت أن صديقي طه حميد ( حميد تلفظ بشكل مصغر ) يبيع ماء في سوق الاقمشة طيلة العطلة ، ليتمكن أن يعيش ، ووالدته العجوز ، طيلة السنة بالأجرة التي يكسبها.
اخبرني انه الان يعمل في البناء ، ويستلم نصف دينار يوميا. طلبت منه أن يسأل البناء عن عمل لي عنده. اخبرني مساء ، ممكن أن أشتغل على ان اكون في الرابعة صباحا في محل العمل.
امتزج فرحي بكاّبتي ، وفقدان حرّيتي بحاجتي الى المبلغ ، وامتزجت همومي برغبتي.
استيقظت في الثالثة صباحا ، وذهبت بدون فطور مشيا الى الجانب الاخر من المدينة ، وكنت هناك في الرابعة الا ربعا ، فوجدت صديقي طه ينتظرني ، وقدمني للبناء ، وقال خذ هذه العربة ، وانقل حجارة من هناك الى هنا ، وعملت طائعا أوامره.
يوم كان يلتهب حرارة ، والعمل مرهق بدون استراحة ، وعلي أن أنفذ ما قاله البناء.
اريد ان ينتهي ولو ربع النهار ، فلم اجده راغبا ، وعمل بدون توقف ، الله اكبر ما اصعبه يوم علي انا ، ويجب أن أتحمله !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
في الواحدة تماما قالوا فترة الغداء ، ومدتها نصف ساعة. من عاداتهم ان صاحب الملك عليه ان يقدم طعام الغداء مجانا للعاملين بمختلف درجاتهم. الغداء كان جيدا : باميا وخبز مشهي.
بعد نصف ساعة بدأ العمل ، وبدأت المشقات ، و الازعاجات ، حتى الساعة السادسة مساء. استلمت نصف دينار فرحا ، بيد أن بنطلوني وقميصي كلها جبس ابيض ( جص ) وأنا لا املك غيرهما ( يعني جينا انكحلها عميناها ) ههههه
رجعت للبيت بشكل مخيف ، ما عرفتني في البداية والدتي ، واعتقدت جني ظهر لها. أصابها رعب شديد ، ولم اسمع منها الا: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ورمت نفسها على القران الكريم وتقبله خائفة هههههههههههههههههههه
قلت لها يا امي انا صلاح ، اشتغلت اليوم في البناء كعامل ، وهدأتها ، وجاءت الي تقبلني باكية. تألمتْ جدا على وضعي. تجسدت أمامي شعور الوالدة وكتمت المي عنها.
ذهبت الى نهر دجلة ، وهو قريب جدا من بيتنا ، وسبحت ، ورجعت للبيت ، وتناولت طعام العشاء.
عملت ثلاث ايام في البناء ، تحت حر الشمس المحرقة ، اّه ما اصعبها أياما اّه اّه !!!!!!!!
سلوني ما الذي قاسيت فيها ... سلوني بل سلوا حظي يجيب
ذهبت واشتريت بنطلون مستعمل 150 فلسا ، والوالدة خيطت لي قميصا ، و بقي معي دينار و 350 فلسا.
سبق وأن قرأت في صحيفة انكليزية ، ان الفيلسوف جورج برنادشو يأخذ على كل كلمة في مقاله باونا استرلينيا. وكان الدينار العراقي في وقتها يعادل باونا استرلينيا. عزمت ان ارسل له باونا ، ليرسل لي كلمة واحدة ، وانا في عز فقري.
كتبت له رسالة باللغة الانكليزية وهذا مضمونها:
السيد جورج برنادشو. ارسل لك باونا ، ورجائي ان ترسل لي كلمة مع تحياتي. و كتبت له عنواني.
ذهبت للبريد وحولت له دينار عراقي ، ووضعت الوصل في الرسالة ، وأرسلتها مسجل على العنوان التالي : السيد جورج برنادشو. لندن . انكلترا.
حدثت أحد اصدقائي بالموضوع وأجابني : كيف تضحي بدينار وبرنادشو سوف لا يقرأ رسالتك ، بل سكرتيرته وتمزقها.
لم اعبه بكلام صديقي وكنت قانعا اني سأستلم ردا منه.
بعد اكثر من شهر استلمت رسالة من جورج برنادشو ، وتحوي على كلمة واحدة وهي : شكرا هههههههههههههههههه
ارجو ان تعذروني على هذا الاطناب ، بيد ان لي هدف اخر سيأتيكم في القسم الثالث من مذكراتي.
اخوكم ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع
القسم الثالث
عشت في الموصل في حي قديم معروف ، ويقع على ضفاف دجلة. نادرا ما تجد شخصا في الحي يرتدي البنطلون ، بل رجالهم يرتدوا العقال ، أعني : عربان. حتى لهجتهم تختلف عن اللهجة الموصلية ، وتميل الى اللهجة العشائرية.
يفصل بين الحي الذي اسكنه والحي المسيحي شارع فقط لذا سكان كلا الحيين يعرف نوعا ما بعضهم الاخر ، وعلاقاتهم مع البعض فيها تالف.
الا أنك لا تجد مسيحيا يسكن الحي الاسلامي ، بل ولا تجد مسلما يسكن الحي المسيحي ، و كلا الحيين لا يتحليان بالنظافة ، وخاصة في الشتاء ، الطابع الذي يجمع بين الحيين هو الفقر.
كنا نعيش في بيت قديم عائد لجدتي ، ويحوي على ثلاثة غرف ، ولكل غرفة سرداب.
في الوسط توجد فسحة ، نسميها في العراق ( حوش ) البيت بدون كهرباء ، بل نستعمل لمبة تعمل بالنفط. اعني فقر مدقع.
لذا لا اتذكر أن قرأت يوما كتابا في البيت ، او كتبت واجبا مدرسيا في البيت ، طيلة مدة دراستي في الموصل.
كنت ادرس في الحقول ماشيا ، وبعد الدراسة كنت اتغني بجمال الطبيعة بالطريقة التي تناسب ادراكي.
كنت أستيقظ لوحدي ، بين الرابعة والخامسة صباحا ، وأتناول فطوري ، وهو عبارة عن كوب حليب ورغيف خبز ، ومن ثم اذهب مبكرا للمدرسة ، وتكون خالية من التلاميذ.
ادخل الصف ، واكتب واجباتي المدرسية اولا ، ومن ثم اخرج ، وكتابي معي وادرس ماشيا وارجع الى المدرسة ، حيث تبدأ الدراسة في الثامنة.
بعد الدراسة ، ارجع الى البيت وأتناول طعام الغداء ، وارجع ثانية الى المدرسة حتى نهاية الدوام. بعد الدوام أكون مع اصدقائي ، فانشغل بألعاب رياضية ، او بنشاطات اخرى.
في يوم احتجت الى دينار ونصف ( في وقتها يعتبر مبلغا كبيرا ، فكيف على فقير مدقع مثلي ؟ كنت لا اكلف والدتي لذا جيوبي تبقى جديدة بدون ثقوب لانها لا تفهم لغة النقود هههههه
طيلة دراستي في الموصل لم يحدث أن اكلت في بيت احد ، ولم اتقبل أي شيء من صديق او غير صديق ، خشية ان لا اتمكن على رد جميله. كل اصدقائي ومعارفي يعرفوا هذا ، ودون أن يعرفوا السبب.
كنت غنيا جدا بأصدقاء امناء اخيار ، ومن كل الطبقات.
احتجت يوما الى دينار ونصف ، احتياجا كبيرا ، دون ان يدر احد بأمري ، وحيرتي.
كنا في العطلة الصيفية ، نسافر الى بساتيننا ونعيش جوا اخر ، يختلف تماما عما هو عليه في الموصل. فنتمتع بالفواكه والجبن واللبن. حياة متناقضة تماما لحياتنا في الموصل.
طيلة دراستي في الموصل ، كتمت حقيقة حياتي ، وأقربائي ، حتى لأعز اصدقائي. الكل يعرفوا اني من عائلة فقيرة بسيطة لا غير.
ولكني احتاج الى دينار ونصف ، علي ان اجدها بطريق شرعي حلال !!!!!!!!!
قررت أن لا اسافر في العطلة الصيفية الى بساتيننا ، وأخبرت الوالدة بذلك ، ولزمت الصمت لشدة ثقتها بي.
طيلة حياة الفاقة ، ما صادف يوما ان اشتغلت في أي عمل ما ، واكره بطبعي العمل اليدوي. عكس اخي ، الذي يكره الكتاب ، ويميل بطبعه الى العمل اليدوي ، وأستطيع ان اقول عنه ، انه شاذ في عائلة والدي.
سبق وأن ذكرت أن صديقي طه حميد ( حميد تلفظ بشكل مصغر ) يبيع ماء في سوق الاقمشة طيلة العطلة ، ليتمكن أن يعيش ، ووالدته العجوز ، طيلة السنة بالأجرة التي يكسبها.
اخبرني انه الان يعمل في البناء ، ويستلم نصف دينار يوميا. طلبت منه أن يسأل البناء عن عمل لي عنده. اخبرني مساء ، ممكن أن أشتغل على ان اكون في الرابعة صباحا في محل العمل.
امتزج فرحي بكاّبتي ، وفقدان حرّيتي بحاجتي الى المبلغ ، وامتزجت همومي برغبتي.
استيقظت في الثالثة صباحا ، وذهبت بدون فطور مشيا الى الجانب الاخر من المدينة ، وكنت هناك في الرابعة الا ربعا ، فوجدت صديقي طه ينتظرني ، وقدمني للبناء ، وقال خذ هذه العربة ، وانقل حجارة من هناك الى هنا ، وعملت طائعا أوامره.
يوم كان يلتهب حرارة ، والعمل مرهق بدون استراحة ، وعلي أن أنفذ ما قاله البناء.
اريد ان ينتهي ولو ربع النهار ، فلم اجده راغبا ، وعمل بدون توقف ، الله اكبر ما اصعبه يوم علي انا ، ويجب أن أتحمله !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
في الواحدة تماما قالوا فترة الغداء ، ومدتها نصف ساعة. من عاداتهم ان صاحب الملك عليه ان يقدم طعام الغداء مجانا للعاملين بمختلف درجاتهم. الغداء كان جيدا : باميا وخبز مشهي.
بعد نصف ساعة بدأ العمل ، وبدأت المشقات ، و الازعاجات ، حتى الساعة السادسة مساء. استلمت نصف دينار فرحا ، بيد أن بنطلوني وقميصي كلها جبس ابيض ( جص ) وأنا لا املك غيرهما ( يعني جينا انكحلها عميناها ) ههههه
رجعت للبيت بشكل مخيف ، ما عرفتني في البداية والدتي ، واعتقدت جني ظهر لها. أصابها رعب شديد ، ولم اسمع منها الا: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ورمت نفسها على القران الكريم وتقبله خائفة هههههههههههههههههههه
قلت لها يا امي انا صلاح ، اشتغلت اليوم في البناء كعامل ، وهدأتها ، وجاءت الي تقبلني باكية. تألمتْ جدا على وضعي. تجسدت أمامي شعور الوالدة وكتمت المي عنها.
ذهبت الى نهر دجلة ، وهو قريب جدا من بيتنا ، وسبحت ، ورجعت للبيت ، وتناولت طعام العشاء.
عملت ثلاث ايام في البناء ، تحت حر الشمس المحرقة ، اّه ما اصعبها أياما اّه اّه !!!!!!!!
سلوني ما الذي قاسيت فيها ... سلوني بل سلوا حظي يجيب
ذهبت واشتريت بنطلون مستعمل 150 فلسا ، والوالدة خيطت لي قميصا ، و بقي معي دينار و 350 فلسا.
سبق وأن قرأت في صحيفة انكليزية ، ان الفيلسوف جورج برنادشو يأخذ على كل كلمة في مقاله باونا استرلينيا. وكان الدينار العراقي في وقتها يعادل باونا استرلينيا. عزمت ان ارسل له باونا ، ليرسل لي كلمة واحدة ، وانا في عز فقري.
كتبت له رسالة باللغة الانكليزية وهذا مضمونها:
السيد جورج برنادشو. ارسل لك باونا ، ورجائي ان ترسل لي كلمة مع تحياتي. و كتبت له عنواني.
ذهبت للبريد وحولت له دينار عراقي ، ووضعت الوصل في الرسالة ، وأرسلتها مسجل على العنوان التالي : السيد جورج برنادشو. لندن . انكلترا.
حدثت أحد اصدقائي بالموضوع وأجابني : كيف تضحي بدينار وبرنادشو سوف لا يقرأ رسالتك ، بل سكرتيرته وتمزقها.
لم اعبه بكلام صديقي وكنت قانعا اني سأستلم ردا منه.
بعد اكثر من شهر استلمت رسالة من جورج برنادشو ، وتحوي على كلمة واحدة وهي : شكرا هههههههههههههههههه
ارجو ان تعذروني على هذا الاطناب ، بيد ان لي هدف اخر سيأتيكم في القسم الثالث من مذكراتي.
اخوكم ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع