الوليد دويكات
07-29-2015, 11:14 PM
قراءة في قصيدة ( صهيل الشمس )
للشاعر العربي الكبير / صبحي ياسين
عنوان القصيدة يجعلنا ندخل في حتمية التوقف والتأمل ، فهو عنوان مدهش ، يحمل في طيّاته وعدا ً بنص ٍ يستحق ُ القراءة الواعية ، والعنوان في رأينا هو باب ٌ هام ٌ من أبواب النص ، فمن الأدباء من ْ يعنى به ويختاره في رويّة ٍ وهدوء بما يتناسب ويتلاءم مع النص ، ومنهم من ْ يلق به دون اكتراث ...وحتى لا نطيل في هذا السياق ، نقترب ُ من العنوان هنا ...
صهيل الشمس ...صورة غاية في الروعة ، فقد شبّه الشاعر صبحي ياسين الشمس بالحصان ، وحذف المشبّه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ...والعنوان هنا يقدم لنا وعدا ً بقصيدة عميقة ، كيف لا والعنوان عميق ...
القصيدة :
أتيتُ بابَك ِ يا ليلايَ أرتجفُ
فقد تمَكَّنَ مني الخوفُ والتلَفُ
مطلع القصيدة جاء كلاسيكيا ، بدأه الشاعر بطريقة يوحي لنا أنه سيقف على الأطلال، ويأخذنا في دروب الغزل كدأب الأجداد في نسج القصيدة ...
الشطر الأول ( صدر المطلع ) يشد انتباهنا وجود فعلين مضارعين ( أتيت ُ / أرتجف ُ ) ، وعندما ننظر لوقوف العاشق أمام باب بيت المحبوبة ، فالرجفة التي تعتري جوانحه وأوصاله أمر ٌ طبيعي ..فالشوق والحب يفعلان بالعاشق مثل هذا وأكثر . وجميل عندما استعاض بليلى الشاعر عن التصريح باسم محبوبته ،ثم نجد الشاعر يقدم ُ لنا في عجز البيت الأول ( المطلع ) تفسيرا لهذه الرجفة ، وهذا الإرتباك الذي يسيطر ُ عليه ...
الخوف يسكنه ، يحاصره ، بل ويذهب بنا مؤكدا وهن الحالة النفسية التي يمر ّ بها ، فالتلف ُ نال َ منه كما الخوف ...
والتلف ُ لغة : هو الهلاك / الفساد في الشيء ...نقول : أصاب التلف ُ الزرع / أو تلف ُ المال ِ : إذا صرفه هباء وراح َ هدْرا ً ...
أي أن العاشق عندما جاء باب بيت محبوبته كان في حالة سيطر عليه الخوف والتلف وهنا لا يخفى على القاريء الفطن ، والمتلقي الحذق ، ما في هذا المطلع من براعة استهلال ، وجمال في الولوج للقصيدة .
مَراكِبُ العشق ِ ضاعتْ عن موانئنا
وصادَرَ الشوقَ مِنْ أعماقنا التَرَفُ
البيت ُ الثاني يُفسر ُ مطلع القصيدة ويزيد توضيحا للحالة النفسية التي يمر ّ بها الشاعر ، فالسفن التي تحمل العشاق ، والتي تحمل المحبين تعرضت للضياع وأخطأت الوصول للموانيء ...ونرى أن الشاعر قد أراد بالموانيء هنا الأوطان ، وأنّ الضمير ( نا ) تعود على الأمّة ...وفي هذا اشارة غاية في الروعة ...
ومن الطبيعي أن يكون المنتظرون لمراكب العشاق في حالة ترقب وشوق ، ولكن هذا الشوق قد تمت مصادرته عن طريق الرغد واللهو وعدم الإكتراث ...
دَمْعُ القصائد ِ في الخدين ِ مُلْتَهِبٌ
وطائِرُ الشؤْم ِ في أحداقنا يقفُ
دمعُ القصائد : صورة مدهشة ، يشبه الشاعر القصائد بالإنسان الذي يبكي وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية .
والدمع ينحدر فوق الخدود ، ولأن الدمع هنا غير الدمع المعروف ، فهو جمرات تشتعل فوق الخدود ويظهر لهيبها ...
الطائر : كل ما يطير في الهواء بجناحين . الشؤم : النحس ، خلاف اليُمن ..وهذا الطائر الذي يحمل النحس يقف في أحداق العيون ،
وهي صورة بديعة يقدمها الشاعر ياسين ببراعة تشكل إضافة رائعة للقصيدة في تطور متنامي لبناء القصيدة والتعبير عن الحالة النفسية التي تسيطر على القصيدة.
ما أضيع َ الحبَّ !! إن فرّت ْ بلابله
أو مسّهُ الشكُّ ، أو أزرى به الأسف ُ
ثم نرى الشاعر يعمد للتنويع في أدواته ، فيلجأ لأسلوب التعجب ( ما أضيع َ الحب َّ !!) ...ويقدم توضيحا لأسباب الضياع ( فرار البلابل ( العشاق ) ، دخول الشك بين المحبين وهو مسمار في نعش الحب ، أو عابه وحقّره الأسف ....
وهنا نرى أن الجزء الأول من القصيدة قد تم ، وهي التوطئة التي أرادها الشاعر ما بين مقدمة وتوضيح لما يعتري النفس .
أُقَلِّبُ الطَّرْفَ فيما مَرَّ مِنْ حلم ٍ
فيَسْخرُُ العمرُ والآمالُ والصُدَفُ
ما أجمل َ هذه الصورة وهذا النسيج وهذا الجمال المتدفق ، هنا يقلب العين في أحلام قد مرت وانتهت ، ولكن الشاعر هنا يقلب الطرف وهو في حالة يقظة ، ويستعرض أحلاما ً كانت وما زالت تعيش في وجدانه وخاطره ، ويتفاجأ عندما يتعرض ُ للسخرية من أحلامه وبحثه عنها واستعراضه لها بسخرية العمر الذي مر والآمال التي ضاعت والصدف التي لعبت دورا في هدم كل ما بناه في أحلامه ...والضمير هنا جاء في لغة الأنا ( الذات ) ولكن السياق يحمل معنى ( ال نحن ) وهو حال الأمة المتهالك .
لا أجلدُ الذاتَ من هم ٍ ومن كمِد ٍ
لكنما الذات نامت تحت من عصفوا
لا أجلد ُ الذات َ ، محاولة لنفي ما هو مُثبت ، فهو يجلد نفسه ، وهو يحاسبها ..وأسباب ذلك لا تعود للهموم والأحزان ، لكن الأوجاع كانت بسبب من أسرف في الضياع والتقصير ...
يا بنتَ مَنْ رَكِبوا الأفلاك َ في زمنٍ
ٍ أسْلَمْت ِ أمْرَك ِ للأوغاد ِ فانحرفوا
هنا نكاد ُ نلمح بكاء الشاعر ، ويستوطن الحزن أعماقه ، وهنا المناجاة مجازية ، فقد تكون ليلى الشاعر ، والتي يريد من خلال مناجاته لها التذكير بنسبها وأهلها ( العروبة ) الذين وصلوا لمدارات يسبح في الجرم السماوي رفعة وعلوا ، كناية عن العز التليد والمكانة الرفيعة ، وهنا يظهر العتاب في العجز ..حين أسلمت أمورك لمن لا يتسحق كان الإنحراف عن الغاية نتيجة حتمية وضياع للمكانة التي وصلنا لها .
همُ الذين شِغافَ القلب ِ قد ذبَحوا
هم ُ الذين ثمارَ الفكر ِ قد قطَفوا
هذا ما فعله الأوغاد ...
هذي سهولُك ِ قد جفّتْ سنابِلُها ِ
هذي كرومُك ِ صوبَ البحر ِ تنجَرِفُ
وهذه نتيجة من نتائج الترّدي الذي أصاب الأمة ...
موائدُ النور ِ فرَّتْ مِنْ منازِلِنا
وخيَّمَ البؤسُ والتغريبُ والشظفُ
وهذه نتيجة أخرى ...
فحل ّ البؤس والغياب والشدة والضيق مكان الفرح والسعادة والسرور ( موائد النور ) ...
كم رفرف َ الحلمُ في أعماقنا أملاً
لكنَّ حلمَ ولاة ِ الأمر ِ مختلف ُ
وهنا نتيجة أيضا من نتائج الضياح والتشرذم ...
وهنا يتحدث الشاعر في قراءة جلية لواقع الأمة ، مقدما صورتين متناقضتين لأحلام الأمة وأحلام أصحاب الأمر ( الحكام ومن يتنفذون في مصائرنا ) ، ويؤكد أن الأحلام مختلفة ...ولا يخفى على المتتبع الفرق بين أحلام الرؤساء والمرؤوسين .....
وقفتُ أمْضغُ آلامي ويَعصُرني
جُرْحٌ تحَنَّطَ في مِحْرابِه الهدف ُ
وهنا يفتح الشاعر لنا الباب الثالث من أجزاء القصيدة ...وهناك خيط يربط بين مطلع القصيدة ( أتيت ُ بابك ) وبين محطة هامة ( أقلب الطرف َ ) وهنا ( وقفت ُ ) ...وهنا البكاء يصل لمرحلة الحزن الشديد ...البكاء الذي أشرنا له قبل قليل ينتقل لمرحلة الحزن في هذا الجزء من القصيدة ...
حتى أن الشاعر ياسين قد لجأ لتعميق الفكرة من خلال استعراض أدواته وقدرته الفطرية البلاغية ،
أمضغ آلامي ( يشبه الألم بالطعام الذي يُمضغ ْ ، وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ) ..ولا يخفى على المتلقي جمال التصوير في قوله أن الجرح يعصره ...وما تبع هذه الصورة من صور مركبة تركيبا مدهشا ، الجرح تحنط الهدف في محرابه ...
فالمحراب المكان الذي يقف فيه الأمام ...وهذا الجرح الذي يعصره هو عندما يُصاب القدوة والقائد بالتحنيط فلا يبقى منه سوى الجسد ويغيب العقل والقرار الحكيم و....كل هذا كان مدعاة ً ليعصر قلب الشاعر .
قُدّي قميصَك َ خلف َ الباب ِ وانتظري
لا ينزلُ البدرُ حتى تُغلَقَ الغرَفُ
قدّي قميصك : إشارة رائعة لقصة القميص في سورة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ...وهي قصة الكل يعرفها ...
وهنا الشاعر يطلب منها أن تقد ّ قميصها وتنتظر القائد الملهم الذي يصدق ان قميصها قد تم تمزيقها في محاولة الإعتداء عليها ...وهنا نجد الشاعر ساخرا ً من الحال التي وصلنا إليه .
والضمير الكاف يعود على الأمة العربية التائهة الضائعة ، ويؤكد ذلك ما سيأتي في البيت التالي :
أرى رجالك ِ تحت َ ( الشمعدان ِ ) جثوا
وذي نساؤك ِ في أعرافهم تُحف ُ
تصوير دقيق للواقع ، ونظرة فاحصة ، فرجال الأمة قد ركعو على ركبهم أمام يهود ، والشمعدان مفردة رمز بها الشاعر لهم ، وهو توصيف دقيق للتهافت العربي للحصول على رضا يهود والتطبيع وما شابه ذلك فيما عُرف بالهرولة ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر صبحي ياسين : شاعر مطبوع ، يجيد ُ كتابة القصيدة التي نريد ، فيبهرنا النشيد ،وقد حاولت تقديم هذه القراءة لهذه الباذخة ربما أكون قد قدمت للقاريء المهتم قراءة تليق بهذه القصيدة ، وربما أكون قد استطعت تسليط الضوء على جوانب فيها ...
فإن كنت ُ قد وفقت ُ فما توفيقي إلا من الله سبحانه في علاه ، وأما غير ذلك فمني ومن الشيطان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الى اللقاء بحول الله في الجزء التالي من قراءة لهذه القصيدة
الوليد
نابلس
للشاعر العربي الكبير / صبحي ياسين
عنوان القصيدة يجعلنا ندخل في حتمية التوقف والتأمل ، فهو عنوان مدهش ، يحمل في طيّاته وعدا ً بنص ٍ يستحق ُ القراءة الواعية ، والعنوان في رأينا هو باب ٌ هام ٌ من أبواب النص ، فمن الأدباء من ْ يعنى به ويختاره في رويّة ٍ وهدوء بما يتناسب ويتلاءم مع النص ، ومنهم من ْ يلق به دون اكتراث ...وحتى لا نطيل في هذا السياق ، نقترب ُ من العنوان هنا ...
صهيل الشمس ...صورة غاية في الروعة ، فقد شبّه الشاعر صبحي ياسين الشمس بالحصان ، وحذف المشبّه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ...والعنوان هنا يقدم لنا وعدا ً بقصيدة عميقة ، كيف لا والعنوان عميق ...
القصيدة :
أتيتُ بابَك ِ يا ليلايَ أرتجفُ
فقد تمَكَّنَ مني الخوفُ والتلَفُ
مطلع القصيدة جاء كلاسيكيا ، بدأه الشاعر بطريقة يوحي لنا أنه سيقف على الأطلال، ويأخذنا في دروب الغزل كدأب الأجداد في نسج القصيدة ...
الشطر الأول ( صدر المطلع ) يشد انتباهنا وجود فعلين مضارعين ( أتيت ُ / أرتجف ُ ) ، وعندما ننظر لوقوف العاشق أمام باب بيت المحبوبة ، فالرجفة التي تعتري جوانحه وأوصاله أمر ٌ طبيعي ..فالشوق والحب يفعلان بالعاشق مثل هذا وأكثر . وجميل عندما استعاض بليلى الشاعر عن التصريح باسم محبوبته ،ثم نجد الشاعر يقدم ُ لنا في عجز البيت الأول ( المطلع ) تفسيرا لهذه الرجفة ، وهذا الإرتباك الذي يسيطر ُ عليه ...
الخوف يسكنه ، يحاصره ، بل ويذهب بنا مؤكدا وهن الحالة النفسية التي يمر ّ بها ، فالتلف ُ نال َ منه كما الخوف ...
والتلف ُ لغة : هو الهلاك / الفساد في الشيء ...نقول : أصاب التلف ُ الزرع / أو تلف ُ المال ِ : إذا صرفه هباء وراح َ هدْرا ً ...
أي أن العاشق عندما جاء باب بيت محبوبته كان في حالة سيطر عليه الخوف والتلف وهنا لا يخفى على القاريء الفطن ، والمتلقي الحذق ، ما في هذا المطلع من براعة استهلال ، وجمال في الولوج للقصيدة .
مَراكِبُ العشق ِ ضاعتْ عن موانئنا
وصادَرَ الشوقَ مِنْ أعماقنا التَرَفُ
البيت ُ الثاني يُفسر ُ مطلع القصيدة ويزيد توضيحا للحالة النفسية التي يمر ّ بها الشاعر ، فالسفن التي تحمل العشاق ، والتي تحمل المحبين تعرضت للضياع وأخطأت الوصول للموانيء ...ونرى أن الشاعر قد أراد بالموانيء هنا الأوطان ، وأنّ الضمير ( نا ) تعود على الأمّة ...وفي هذا اشارة غاية في الروعة ...
ومن الطبيعي أن يكون المنتظرون لمراكب العشاق في حالة ترقب وشوق ، ولكن هذا الشوق قد تمت مصادرته عن طريق الرغد واللهو وعدم الإكتراث ...
دَمْعُ القصائد ِ في الخدين ِ مُلْتَهِبٌ
وطائِرُ الشؤْم ِ في أحداقنا يقفُ
دمعُ القصائد : صورة مدهشة ، يشبه الشاعر القصائد بالإنسان الذي يبكي وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية .
والدمع ينحدر فوق الخدود ، ولأن الدمع هنا غير الدمع المعروف ، فهو جمرات تشتعل فوق الخدود ويظهر لهيبها ...
الطائر : كل ما يطير في الهواء بجناحين . الشؤم : النحس ، خلاف اليُمن ..وهذا الطائر الذي يحمل النحس يقف في أحداق العيون ،
وهي صورة بديعة يقدمها الشاعر ياسين ببراعة تشكل إضافة رائعة للقصيدة في تطور متنامي لبناء القصيدة والتعبير عن الحالة النفسية التي تسيطر على القصيدة.
ما أضيع َ الحبَّ !! إن فرّت ْ بلابله
أو مسّهُ الشكُّ ، أو أزرى به الأسف ُ
ثم نرى الشاعر يعمد للتنويع في أدواته ، فيلجأ لأسلوب التعجب ( ما أضيع َ الحب َّ !!) ...ويقدم توضيحا لأسباب الضياع ( فرار البلابل ( العشاق ) ، دخول الشك بين المحبين وهو مسمار في نعش الحب ، أو عابه وحقّره الأسف ....
وهنا نرى أن الجزء الأول من القصيدة قد تم ، وهي التوطئة التي أرادها الشاعر ما بين مقدمة وتوضيح لما يعتري النفس .
أُقَلِّبُ الطَّرْفَ فيما مَرَّ مِنْ حلم ٍ
فيَسْخرُُ العمرُ والآمالُ والصُدَفُ
ما أجمل َ هذه الصورة وهذا النسيج وهذا الجمال المتدفق ، هنا يقلب العين في أحلام قد مرت وانتهت ، ولكن الشاعر هنا يقلب الطرف وهو في حالة يقظة ، ويستعرض أحلاما ً كانت وما زالت تعيش في وجدانه وخاطره ، ويتفاجأ عندما يتعرض ُ للسخرية من أحلامه وبحثه عنها واستعراضه لها بسخرية العمر الذي مر والآمال التي ضاعت والصدف التي لعبت دورا في هدم كل ما بناه في أحلامه ...والضمير هنا جاء في لغة الأنا ( الذات ) ولكن السياق يحمل معنى ( ال نحن ) وهو حال الأمة المتهالك .
لا أجلدُ الذاتَ من هم ٍ ومن كمِد ٍ
لكنما الذات نامت تحت من عصفوا
لا أجلد ُ الذات َ ، محاولة لنفي ما هو مُثبت ، فهو يجلد نفسه ، وهو يحاسبها ..وأسباب ذلك لا تعود للهموم والأحزان ، لكن الأوجاع كانت بسبب من أسرف في الضياع والتقصير ...
يا بنتَ مَنْ رَكِبوا الأفلاك َ في زمنٍ
ٍ أسْلَمْت ِ أمْرَك ِ للأوغاد ِ فانحرفوا
هنا نكاد ُ نلمح بكاء الشاعر ، ويستوطن الحزن أعماقه ، وهنا المناجاة مجازية ، فقد تكون ليلى الشاعر ، والتي يريد من خلال مناجاته لها التذكير بنسبها وأهلها ( العروبة ) الذين وصلوا لمدارات يسبح في الجرم السماوي رفعة وعلوا ، كناية عن العز التليد والمكانة الرفيعة ، وهنا يظهر العتاب في العجز ..حين أسلمت أمورك لمن لا يتسحق كان الإنحراف عن الغاية نتيجة حتمية وضياع للمكانة التي وصلنا لها .
همُ الذين شِغافَ القلب ِ قد ذبَحوا
هم ُ الذين ثمارَ الفكر ِ قد قطَفوا
هذا ما فعله الأوغاد ...
هذي سهولُك ِ قد جفّتْ سنابِلُها ِ
هذي كرومُك ِ صوبَ البحر ِ تنجَرِفُ
وهذه نتيجة من نتائج الترّدي الذي أصاب الأمة ...
موائدُ النور ِ فرَّتْ مِنْ منازِلِنا
وخيَّمَ البؤسُ والتغريبُ والشظفُ
وهذه نتيجة أخرى ...
فحل ّ البؤس والغياب والشدة والضيق مكان الفرح والسعادة والسرور ( موائد النور ) ...
كم رفرف َ الحلمُ في أعماقنا أملاً
لكنَّ حلمَ ولاة ِ الأمر ِ مختلف ُ
وهنا نتيجة أيضا من نتائج الضياح والتشرذم ...
وهنا يتحدث الشاعر في قراءة جلية لواقع الأمة ، مقدما صورتين متناقضتين لأحلام الأمة وأحلام أصحاب الأمر ( الحكام ومن يتنفذون في مصائرنا ) ، ويؤكد أن الأحلام مختلفة ...ولا يخفى على المتتبع الفرق بين أحلام الرؤساء والمرؤوسين .....
وقفتُ أمْضغُ آلامي ويَعصُرني
جُرْحٌ تحَنَّطَ في مِحْرابِه الهدف ُ
وهنا يفتح الشاعر لنا الباب الثالث من أجزاء القصيدة ...وهناك خيط يربط بين مطلع القصيدة ( أتيت ُ بابك ) وبين محطة هامة ( أقلب الطرف َ ) وهنا ( وقفت ُ ) ...وهنا البكاء يصل لمرحلة الحزن الشديد ...البكاء الذي أشرنا له قبل قليل ينتقل لمرحلة الحزن في هذا الجزء من القصيدة ...
حتى أن الشاعر ياسين قد لجأ لتعميق الفكرة من خلال استعراض أدواته وقدرته الفطرية البلاغية ،
أمضغ آلامي ( يشبه الألم بالطعام الذي يُمضغ ْ ، وحذف المشبه به وأبقى شيئا من لوازمه على سبيل الإستعارة المكنية ) ..ولا يخفى على المتلقي جمال التصوير في قوله أن الجرح يعصره ...وما تبع هذه الصورة من صور مركبة تركيبا مدهشا ، الجرح تحنط الهدف في محرابه ...
فالمحراب المكان الذي يقف فيه الأمام ...وهذا الجرح الذي يعصره هو عندما يُصاب القدوة والقائد بالتحنيط فلا يبقى منه سوى الجسد ويغيب العقل والقرار الحكيم و....كل هذا كان مدعاة ً ليعصر قلب الشاعر .
قُدّي قميصَك َ خلف َ الباب ِ وانتظري
لا ينزلُ البدرُ حتى تُغلَقَ الغرَفُ
قدّي قميصك : إشارة رائعة لقصة القميص في سورة يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ...وهي قصة الكل يعرفها ...
وهنا الشاعر يطلب منها أن تقد ّ قميصها وتنتظر القائد الملهم الذي يصدق ان قميصها قد تم تمزيقها في محاولة الإعتداء عليها ...وهنا نجد الشاعر ساخرا ً من الحال التي وصلنا إليه .
والضمير الكاف يعود على الأمة العربية التائهة الضائعة ، ويؤكد ذلك ما سيأتي في البيت التالي :
أرى رجالك ِ تحت َ ( الشمعدان ِ ) جثوا
وذي نساؤك ِ في أعرافهم تُحف ُ
تصوير دقيق للواقع ، ونظرة فاحصة ، فرجال الأمة قد ركعو على ركبهم أمام يهود ، والشمعدان مفردة رمز بها الشاعر لهم ، وهو توصيف دقيق للتهافت العربي للحصول على رضا يهود والتطبيع وما شابه ذلك فيما عُرف بالهرولة ....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر صبحي ياسين : شاعر مطبوع ، يجيد ُ كتابة القصيدة التي نريد ، فيبهرنا النشيد ،وقد حاولت تقديم هذه القراءة لهذه الباذخة ربما أكون قد قدمت للقاريء المهتم قراءة تليق بهذه القصيدة ، وربما أكون قد استطعت تسليط الضوء على جوانب فيها ...
فإن كنت ُ قد وفقت ُ فما توفيقي إلا من الله سبحانه في علاه ، وأما غير ذلك فمني ومن الشيطان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الى اللقاء بحول الله في الجزء التالي من قراءة لهذه القصيدة
الوليد
نابلس