سولاف هلال
11-06-2009, 03:47 AM
صدقوني
قاتمة تلك الليلة .. باردة .. مشحونة بالدخان ، تنذر بعاصفة مدمرة ، مجنونة أسقطت سنواتي في جب مظلم ليس له قرار ، ومضت دون أن تلتفت إلي .
قاس ومريع ذلك المشهد الذي كنت جزءا منه ، حملني هيكلي ، بل أنا دفعته إلى مسرح مقفر لألعب دورا رئيسيا يشاركني البطولة رجل ميت ،أنا الوحيدة التي تعرف سر موته .
تلك الليلة لم أنو الخروج ، لكن شيئا ما كان يدبر في مكان من الكون الفسيح ، ليجعلني الضحية .. مهلا .. هل أنا ضحية حقا ؟ أم إنني الجانية ؟!!
المطر .. البرق .. صوت الرعد ، ولدوا في أعماقي شعورا غامضا دفعني للخروج .
خرجت يرافقني هاجس مرعب لم أعره انتباها لأنني انشغلت بمداعبة حبات الماء المتناثرة ، التي أعادتني إلى زمن الطفولة والصبا ، تذكرت أشياء كثيرة كنت قد نسيتها، اندمجت مع الذكريات ، فساقتني قدماي إلى مكان يحوم الموت حوله .
لم أتردد في الصعود إلى الطابق الثاني ، رغم اتساع رقعة الظلام ، عاودتني الهواجس وأنا أرتقي السلالم قاصدة محل السيد حمدي ، سألت نفسي لماذا أنا هنا الآن ؟
حقا ما الذي دفعني للذهاب إلى هناك ؟ ليس ثمة ما يستدعي وجودي في ذلك المكان ، وفي ذلك الجو المضطرب ، ربما لأنني كنت بحاجة إلى من يفهمني ، وهذا الحلاق العجوز الذي أتم عامه الستين يعرف كيف ينتزع مني اعترافاتي ، فيزيح عن كاهلي كل الأعباء التي ترهق أعصابي ، كما أنه مولع بالثرثرة كغيره من الحلاقين ، وأنا بحاجة إلى أن أثرثر في تلك الليلة ، لذلك لذت به .
يالوحشة ذلك المكان ، إنه أشبه بمتاهة .. قطعت ممرا طويلا .. اخترقت العتمة مهتدية بالضوء الذي ينبعث من زجاج محله ، الباب مغلق ، لكني على يقين من أنه في الداخل فهو لم يعتد ترك الباب مفتوحا أبدا برغم أن محله يقع في ممر ضيق وليس هنالك من يجاوره على الإطلاق .
.. .. .. ..
أبواب الساعة الثامنة كانت تفضي إلى الجحيم ، أبواقها مازالت تنفخ في أذني ، إنها لساعة فاجرة ، خلعت عني ورقة التوت دونما حياء ، ثم وقفت تشهد انهياري .
تلك الليلة كنت أبحث دون أن أدري عمن أبث إليه وجعي ، لكنني سقطت في قاع آسن لوث اسمي وتاريخي ، يالهول تلك اللحظة ، ركضت .. صرخت .. تخبطت في الفراغ.
نزلت السلم ، لا لم أنزل السلم ، بل تدحرجت عليه ، فامتلأ جسدي برضوض وكدمات لم أشعر بها إلا فيما بعد .
استنجدت برجل كان يطوف في أحد الممرات ، إنه الحارس ، صعد معي .. دخل المحل بمفرده ، بينما وقفت أرتعد خوفا عند الباب .
باغتتني نظراته ، إنها كالحراب ، أما تعبيرات وجهه فزادتني رعبا فوق رعب .
اقتادني إلى مكتب مازالت أبوابه مشرعة ، في داخله يجلس ثلاثة رجال متدثرين بمعاطفهم ينتظرون انقطاع المطر بفارغ صبر .
رفع الرجل سماعة التليفون .. طلب الشرطة ، فاستفسر الجميع .
قال وهو يرمقني بنظرة حادة :
ـــ السيد حمدي ... مات
وثب الرجال .. ركضوا ليستطلعوا الأمر ، لكنه صاح محذرا :
ـــ لاتلمسوه ريثما تصل الشرطة ، فالوضع مريب .
توسلت إليه أن يدعني أذهب ، فلا ذنب لي بما حدث .
ـــ هل أنت مجنونة ؟ ألا تدركين خطورة الموقف ،على أية حال ، الأمر خرج من يدي والقرار سيكون لرجال الشرطة .
يطيب لي أحيانا أن أقرع نفسي وأقسو عليها ، لأنها أوقعتني في محنة لم تخطر لي على بال ، كان ينبغي أن أغادر المكان دون أن يلمحني أحد ، لكنني تصرفت بغباء فأثرت سحابة أمطرتني بوابل من الشك والظنون .
ثمة من يضحك .. ثمة من زحف بنظراته الوقحة على جسدي الذي بدا عاريا أمامهم وهنالك من أطلق للسانه العنان وراح يحدثني بشبق :
ـــ ماذا دهاك ؟ ألا تحسنين الاختيار ؟ ماذا أعجبك في ذلك العجوز ؟ هل يدفع بسخاء ؟
ها ؟ كان ينبغي أن تأتي إلى هنا ، أليس كذلك ؟
آثرت الصمت ولم أدافع عن نفسي .. لم أكذب ظنونهم ، فثمة مايمنعني ، كما أن الهيئة التي مات عليها الرجل تتهمني ، لقد كان عاريا تماما ، وعيناه متعلقتان بشئ ما في فضاء المكان ، لم أفعل شيئا مما رموني به ، لكنني لست بريئة ، رغم أن الشرطة قد أطلقت سراحي ، لأنها لم تجد مايبرر حبسي .
تسرب النبأ إلى جميع أرجاء الحي ، وإلى الأحياء المجاورة ، ما إن أطل الصباح .
لم أحزن على نفسي قدر حزني على الفقيد ، فلقد اتهمه الناس بالباطل وراحوا يلوكون سيرته بألسنة لاترحم ، حتى زوجته لم ترحمه ، وأبت أن تقيم له العزاء ظنا منها بأنه مات وهو يمارس الرذيلة .
لم يصدقني أحد ، الجميع أداروا لي ظهورهم ، بمن فيهم زوجي الذي صب علي لعناته وجردني من جميع حقوقي .
الهروب هو الحل الأمثل للتخلص من جحيم الآخرين .. نفيت نفسي بعيدا .. ذهبت إلى أقصى الجنوب .. عشت مع خالتي المسنة ، وضحت لها الحكاية أكثر من مرة ، لكنها لم تصدقني هي الأخرى .
لماذا لايصدقونني ؟ لماذا يصرون على تكذيبي ؟ أنا لم أرتكب فعلا مشينا كما يظنون ، لكنني اقترفت ذنبا أفظع ، لقد تسببت في موت الرجل ، نعم أنا السبب في موته ، رغم أن الكشف الطبي أكد أنه مات بالسكتة القلبية ، أنا السبب ، نعم أنا من تسبب في إيقاف نبض فؤاده .
كان ينبغي أن أطرق باب المحل قبل الدخول عليه ، لكني لم أفعل ، وما أن رآني حتى أصابه الهلع .. اكفهر وجهه وانتابته رعدة عنيفة .. لقد فاجأته .
كان عاريا تماما ، يقف تحت عمود الماء المنساب من صنبور معلق في سقف حمام ليس له باب .
ولست أدري ما الذي جعله يستحم في تلك الساعة المشؤومة رغم برودة الجو ، أهو قدره أم قدري ؟!
ظللت للحظات أتابع حركته المضطربة وهمهماته المكتومة ، يبدو أنه أراد أن يوبخني لأنني اقتحمت المكان دون استئذان ، حاولت أن أعتذر له ، لكنه سقط مغشيا عليه ، أو هكذا ظننت .
كلما استعدت الماضي زاد سخطي على الحياة.. على البشر.. وعلى نفسي أيضا.
مرت أعوام وأنا أعاني من الإحساس بالذنب تارة ، ومن المصير الذي صرت إليه تارة أخرى ، خسرت كل شىء، وسمعتي هي أفدح خساراتي ، لقد خسرتها دون جريرة مني وبرغم تقدم العمر ، مازلت أبحث عمن يصدقني ، لاأطمع الآن إلا في إيجاد من يصدقني ، هل صدقتموني ؟ ...................... أرجو ذلك .
قاتمة تلك الليلة .. باردة .. مشحونة بالدخان ، تنذر بعاصفة مدمرة ، مجنونة أسقطت سنواتي في جب مظلم ليس له قرار ، ومضت دون أن تلتفت إلي .
قاس ومريع ذلك المشهد الذي كنت جزءا منه ، حملني هيكلي ، بل أنا دفعته إلى مسرح مقفر لألعب دورا رئيسيا يشاركني البطولة رجل ميت ،أنا الوحيدة التي تعرف سر موته .
تلك الليلة لم أنو الخروج ، لكن شيئا ما كان يدبر في مكان من الكون الفسيح ، ليجعلني الضحية .. مهلا .. هل أنا ضحية حقا ؟ أم إنني الجانية ؟!!
المطر .. البرق .. صوت الرعد ، ولدوا في أعماقي شعورا غامضا دفعني للخروج .
خرجت يرافقني هاجس مرعب لم أعره انتباها لأنني انشغلت بمداعبة حبات الماء المتناثرة ، التي أعادتني إلى زمن الطفولة والصبا ، تذكرت أشياء كثيرة كنت قد نسيتها، اندمجت مع الذكريات ، فساقتني قدماي إلى مكان يحوم الموت حوله .
لم أتردد في الصعود إلى الطابق الثاني ، رغم اتساع رقعة الظلام ، عاودتني الهواجس وأنا أرتقي السلالم قاصدة محل السيد حمدي ، سألت نفسي لماذا أنا هنا الآن ؟
حقا ما الذي دفعني للذهاب إلى هناك ؟ ليس ثمة ما يستدعي وجودي في ذلك المكان ، وفي ذلك الجو المضطرب ، ربما لأنني كنت بحاجة إلى من يفهمني ، وهذا الحلاق العجوز الذي أتم عامه الستين يعرف كيف ينتزع مني اعترافاتي ، فيزيح عن كاهلي كل الأعباء التي ترهق أعصابي ، كما أنه مولع بالثرثرة كغيره من الحلاقين ، وأنا بحاجة إلى أن أثرثر في تلك الليلة ، لذلك لذت به .
يالوحشة ذلك المكان ، إنه أشبه بمتاهة .. قطعت ممرا طويلا .. اخترقت العتمة مهتدية بالضوء الذي ينبعث من زجاج محله ، الباب مغلق ، لكني على يقين من أنه في الداخل فهو لم يعتد ترك الباب مفتوحا أبدا برغم أن محله يقع في ممر ضيق وليس هنالك من يجاوره على الإطلاق .
.. .. .. ..
أبواب الساعة الثامنة كانت تفضي إلى الجحيم ، أبواقها مازالت تنفخ في أذني ، إنها لساعة فاجرة ، خلعت عني ورقة التوت دونما حياء ، ثم وقفت تشهد انهياري .
تلك الليلة كنت أبحث دون أن أدري عمن أبث إليه وجعي ، لكنني سقطت في قاع آسن لوث اسمي وتاريخي ، يالهول تلك اللحظة ، ركضت .. صرخت .. تخبطت في الفراغ.
نزلت السلم ، لا لم أنزل السلم ، بل تدحرجت عليه ، فامتلأ جسدي برضوض وكدمات لم أشعر بها إلا فيما بعد .
استنجدت برجل كان يطوف في أحد الممرات ، إنه الحارس ، صعد معي .. دخل المحل بمفرده ، بينما وقفت أرتعد خوفا عند الباب .
باغتتني نظراته ، إنها كالحراب ، أما تعبيرات وجهه فزادتني رعبا فوق رعب .
اقتادني إلى مكتب مازالت أبوابه مشرعة ، في داخله يجلس ثلاثة رجال متدثرين بمعاطفهم ينتظرون انقطاع المطر بفارغ صبر .
رفع الرجل سماعة التليفون .. طلب الشرطة ، فاستفسر الجميع .
قال وهو يرمقني بنظرة حادة :
ـــ السيد حمدي ... مات
وثب الرجال .. ركضوا ليستطلعوا الأمر ، لكنه صاح محذرا :
ـــ لاتلمسوه ريثما تصل الشرطة ، فالوضع مريب .
توسلت إليه أن يدعني أذهب ، فلا ذنب لي بما حدث .
ـــ هل أنت مجنونة ؟ ألا تدركين خطورة الموقف ،على أية حال ، الأمر خرج من يدي والقرار سيكون لرجال الشرطة .
يطيب لي أحيانا أن أقرع نفسي وأقسو عليها ، لأنها أوقعتني في محنة لم تخطر لي على بال ، كان ينبغي أن أغادر المكان دون أن يلمحني أحد ، لكنني تصرفت بغباء فأثرت سحابة أمطرتني بوابل من الشك والظنون .
ثمة من يضحك .. ثمة من زحف بنظراته الوقحة على جسدي الذي بدا عاريا أمامهم وهنالك من أطلق للسانه العنان وراح يحدثني بشبق :
ـــ ماذا دهاك ؟ ألا تحسنين الاختيار ؟ ماذا أعجبك في ذلك العجوز ؟ هل يدفع بسخاء ؟
ها ؟ كان ينبغي أن تأتي إلى هنا ، أليس كذلك ؟
آثرت الصمت ولم أدافع عن نفسي .. لم أكذب ظنونهم ، فثمة مايمنعني ، كما أن الهيئة التي مات عليها الرجل تتهمني ، لقد كان عاريا تماما ، وعيناه متعلقتان بشئ ما في فضاء المكان ، لم أفعل شيئا مما رموني به ، لكنني لست بريئة ، رغم أن الشرطة قد أطلقت سراحي ، لأنها لم تجد مايبرر حبسي .
تسرب النبأ إلى جميع أرجاء الحي ، وإلى الأحياء المجاورة ، ما إن أطل الصباح .
لم أحزن على نفسي قدر حزني على الفقيد ، فلقد اتهمه الناس بالباطل وراحوا يلوكون سيرته بألسنة لاترحم ، حتى زوجته لم ترحمه ، وأبت أن تقيم له العزاء ظنا منها بأنه مات وهو يمارس الرذيلة .
لم يصدقني أحد ، الجميع أداروا لي ظهورهم ، بمن فيهم زوجي الذي صب علي لعناته وجردني من جميع حقوقي .
الهروب هو الحل الأمثل للتخلص من جحيم الآخرين .. نفيت نفسي بعيدا .. ذهبت إلى أقصى الجنوب .. عشت مع خالتي المسنة ، وضحت لها الحكاية أكثر من مرة ، لكنها لم تصدقني هي الأخرى .
لماذا لايصدقونني ؟ لماذا يصرون على تكذيبي ؟ أنا لم أرتكب فعلا مشينا كما يظنون ، لكنني اقترفت ذنبا أفظع ، لقد تسببت في موت الرجل ، نعم أنا السبب في موته ، رغم أن الكشف الطبي أكد أنه مات بالسكتة القلبية ، أنا السبب ، نعم أنا من تسبب في إيقاف نبض فؤاده .
كان ينبغي أن أطرق باب المحل قبل الدخول عليه ، لكني لم أفعل ، وما أن رآني حتى أصابه الهلع .. اكفهر وجهه وانتابته رعدة عنيفة .. لقد فاجأته .
كان عاريا تماما ، يقف تحت عمود الماء المنساب من صنبور معلق في سقف حمام ليس له باب .
ولست أدري ما الذي جعله يستحم في تلك الساعة المشؤومة رغم برودة الجو ، أهو قدره أم قدري ؟!
ظللت للحظات أتابع حركته المضطربة وهمهماته المكتومة ، يبدو أنه أراد أن يوبخني لأنني اقتحمت المكان دون استئذان ، حاولت أن أعتذر له ، لكنه سقط مغشيا عليه ، أو هكذا ظننت .
كلما استعدت الماضي زاد سخطي على الحياة.. على البشر.. وعلى نفسي أيضا.
مرت أعوام وأنا أعاني من الإحساس بالذنب تارة ، ومن المصير الذي صرت إليه تارة أخرى ، خسرت كل شىء، وسمعتي هي أفدح خساراتي ، لقد خسرتها دون جريرة مني وبرغم تقدم العمر ، مازلت أبحث عمن يصدقني ، لاأطمع الآن إلا في إيجاد من يصدقني ، هل صدقتموني ؟ ...................... أرجو ذلك .