جهاد بدران
06-03-2021, 12:07 AM
النّص : إحتطاب الثلج
النّاص : خالد صبر سالم
القراءة : جهاد بدران
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص :
ــــــــــــــــــ
لا تـَنـْفخي
ما ظـَلَّ جَمْرٌ عندَ مَوْقدَةِ الهوى
فـَلـْتـَسْتريحي
بالنـَفـْخِ قدْ ثارَتْ عواصفُ مِنْ رمادٍ طائشٍ عَضِلٍ قبيحِ
فتـَوقـَفي
ما عادَ نـَفـْخـُكِ بالمُريحِ
***
سنواتـُنا إنـّي احْتـَطـَبْتُ لدِفـْئِها عُمْري
وكانَ الجَمْرُ روحي
وبَقيتِ تمْثالاً جَليديَّ المشاعرِ
ما احْتـَطـبْتِ لجَمْرةٍ
ورَفضْتِ دَوْما أنْ تـُريحي
لمْ تأتِ لي عَندَ اللقاءِ لمرْةٍ إلّا أتـَيْتِ
على جروحي
***
مَعْصومةٌ!!
لمْ تـُخـْطِئي حتـّى وإنْ حارَبْتِ شِعْري
واعْتـَديْتِ على طموحي !!
وبريئةٌ!!
لمْ تجْنـَحي لخطيئةٍ حتـّى وإنْ يوماً رقـَصْتِ
على ضريحي!!
كمْ كنـْتِ ظالمةً على رجلٍ أحَبَّكِ مخلصٍ سَمِحٍ نـَصوحِ!
لكنـَّما سِكـّينُ حِقـْدِكِ مَرْكبٌ
دوْماً يُجَدِّفُ في دَمي
ويَغوصُ في عُنـُقي الذبيحِ
لا تـُنـْكري
غـَطـَّيْتني بالثلجِ يُودِعُ صبْحَهُ للثلجِ بالعُرْي الصريحِ
وبقـيْتُ أصبرُ
ما شكوْتُ
ولمْ أكـُنْ غيرَ الصَفوحِ
***
عَينايَ تـَبْرقُ فيهما لغةُ العذابِ
وما اطـّلـَعْتِ على الشروحِ
والآنَ ثارَ الارْتِجافُ باضْلعي
ساُغادرُ العَصْرَ الجَليديَّ المُقيمَ على سفوحي
واُعيدُ ثانيةً
لقدْ كنـْتُ احْتـَطـَبْتُ الروحَ بالجَمْرِ الجَموحِ
لكنـَّما أنتِ احْتـَطـبْتِ الثلجَ لاهِيةً ونافخةً
على ثـَلـْجٍ بَليدٍ مُسْتـَبيحِ
فخـُذي عصوراً مِنْ جليدكِ
واذهبي
ولـْتـَتـْركي عُمْري مُريحاً واسْتريحي
ـــــــــــــــــــــــــــ
القراءة :
يا لهذا الجمال في النسج والنقش على حرير الشعر.. قصيدة بارعة النظم ممتلئة بالألفاظ المبهرة وتجاويفها المتقنة ..
هي لوحة فنية تلمع حروفها ويشتد بريقها عند كل قراءة لها..
قصيدة لها مميزات غنية بألوان الإبداع.. ثرية بالصور المنحوتة بإتقان في جدار الأدب ومرصعة بألفاظ جزلة وتصاوير سحرية..
مررت كثيرا على رياض هذا الحرف وقاموس هذا الشاعر لأتعلم منه فنون النظم ..إلا أن مثل هذا النسج له شيفرته الخاصة وريشته المبدعة..
احتطاب الثلج...
عنوان مثقل بالجمال مطرز بالإبداع..يثير المتلقي للدخول لمعالمه والكشف عن أسرار جماليته والتنقيب عن عمقه..
توظيف الشاعر لكلمة احتطاب الثلج..فيه فنية وذوق وسمة مميزة خاصة به..تحمل كل معالم السحر ..وتفتح غرفات الفكر لأوسع مدى في التعمق بين أسرار هذا الإبداع..
كلمة احتطاب..هي من الحطب..والحطب تتم فيه عملية القطع.. والقطع هي البتر عن بكرة أبيه.. لتصل إلى الموت.. وهذا إسقاط على وجود آلام وقهر ووجع.. لما في الإحتطاب من قطع الحياة وعدم التواصل بتاتاً..رمزية الحزن وانطلاقة الآهات تعليلاً على وجود عوائق حالت بين استمرارية الحياة..
وأما الثلج..ترمز للبرودة والجفاف وانتزاع الدفء والمشاعر وتعرية القلب من النبض..إذ هو مبعث الدفق العاطفي والدفء الشعوري في مراتب الحياة المختلفة..
وسنرى كيفية استغلال مصطلحات الطبيعة في غريزة النفس لتعطي عمق الحس الذي يتحلى به الشاعر لتصل لنا الصورة على أكمل وجه بتأثيراتها العميقة لتغلغل في النفوس وتطرب الذائقة الشعرية لدى المتلقي...
يبدأ الشاعر باستخدام الألوان المغرية بالتعبير الجمالي للحرف.. من خلال أولى كلماته الصادحة بقوله:
لا تـَنـْفخي
ما ظـَلَّ جَمْرٌ عندَ مَوْقدَةِ الهوى
فـَلـْتـَسْتريحي
بالنـَفـْخِ قدْ ثارَتْ عواصفُ مِنْ رمادٍ طائشٍ عَضِلٍ قبيحِ
فتـَوقـَفي
ما عادَ نـَفـْخـُكِ بالمُريحِ...
يبدأ اللوحة الفنية بعملية النهي والأمر لمن يقصدها الشاعر (محبوبته).. لا تنفخي.. والنفخ هو ما يثير من عملية الإتقاد التي ذهبت رمزيتها للوجع الذي يكمن في داخل الشاعر..
وكلمة جمر وموقدة وعواصف ورماد ..إنما باعثة لعملية الغليان والإحتراق والتعذيب...
ولمجرد توظيف مثل هذه الصور ورسم حدودها بنار الهوى..هذا دليل على قمة الوجع التي تغلي خصاله على موقدة البعد واحتراق المشاعر ...
يطلب الشاعر منها أن تتوقف عن تعذيبه من خلال اشعالها لنار الهوى ..إذ انتهت جمراته وهي تتقلب بالوجع على ما كان وانتهى حدوده..
في هذه الألفاظ صورة حية قد جسدها الشاعر بحس عالي من خلال القوى العقلية الواعية بتراكيب جديدة ترتدي ثوب التغيير في النظم لرسم دلالاته البليغة المبدعة ليبرز لنا حبال الوجع وهي تنكوي بمرارة لما وصل بينهما..
وينتقل الشاعر لصور جديدة أخرى قد تفرد بها وبجماليتها..بقوله:
سنواتـُنا إنـّي احْتـَطـَبْتُ لدِفـْئِها عُمْري
وكانَ الجَمْرُ روحي
وبَقيتِ تمْثالاً جَليديَّ المشاعرِ
ما احْتـَطـبْتِ لجَمْرةٍ
ورَفضْتِ دَوْما أنْ تـُريحي
لمْ تأتي لي عَندَ اللقاءِ لمرْةٍ إلّا أتـَيْتِ
على جروحي
الصور هنا غاية في السحر والجمال.. مصور حسي بارع..يلبسها تشابيه عذبة تدل على براعة الشاعر..
يشير من خلالها إلى بؤرة الألم وقمة الأزمة
التي فجرت بداخله حمم البوح لتكون لوحة تدفقية للمشاعر المجروحة.. عن طريق التدفق الشعري المميز لتحقق الغرض الشعري.. بعد عملية الإلحاح التي نخرت أدوات الكتابة لديه
وامتشقت مفتاح الجمال بألفاظه البارعة..
مما تدل على موقع الشاعر من البلاغة والفصاحة ومما يفتح الآفاق للسبح بين ظلالها الوارقة من عمق بالفكر وتغليف للأفكار لتثبيتها في نفس القارئ .. ولتوقظ عواطفه بلغته التصويرية المتقنة المؤثرة..ودلالاته المعبرة عن تأجج الحزن في دائرة ألمه..
يصور لنا الشاعر كيف يحتطب عمره مقابل الآخر ليهبه الحب الصادق.. ويقع التصوير على قمة التضحية بسنوات العمر ليحظى برضى من يحب.. وكيف يجعل من روحه جمراً يوقدها لمن يحب..كناية عن اللا حدود للإخلاص والنبل والوفاء.. ومقابل ذلك يلقى الجفاء والبعد وعدم الإكتراث من محبوبته التي رهن عمره لها... حتى وصفها بوصف بليغ مؤثر..على أنها تمثال جليدي.. كناية عن موت المشاعر والأحاسيس...
يكمل الشاعر لوحته الفنية بقوله:
مَعْصومةٌ!!
لمْ تـُخـْطِئي حتـّى وإنْ حارَبْتِ شِعْري
واعْتـَديْتِ على طموحي !!
وبريئةٌ!!
لمْ تجْنـَحي لخطيئةٍ حتـّى وإنْ يوماً رقـَصْتِ
على ضريحي!!
كمْ كنـْتِ ظالمةً على رجلٍ أحَبَّكِ مخلصٍ سَمِحٍ نـَصوحِ!
لكنـَّما سِكـّينُ حِقـْدِكِ مَرْكبٌ
دوْماً يُجَدِّفُ في دَمي
ويَغوصُ في عُنـُقي الذبيحِ
لا تـُنـْكري
غـَطـَّيْتني بالثلجِ يُودِعُ صبْحَهُ للثلجِ بالعُرْي الصريحِ
وبقـيْتُ أصبرُ
ما شكوْتُ
ولمْ أكـُنْ غيرَ الصَفوحِ
صور متتابعة لأفق الجمال وهو ينوع في تشكيلة لغوية قوية العمق ..
تلك الصورة التي رسمها بإتقان ..حين صوّر عمق وجعه وحزنه.. سكين حقدها يجدف في دمه ويغوص في عنقه الذبيح..
وما كان منه إلا الصفح.. دليل على معدن الشاعر وإخلاصه الكبير.. وصبره الواسع..
وتأتي نهاية قصيدته الرائعة المليئة بمقومات الجمال..بقوله:
عَينايَ تـَبْرقُ فيهما لغةُ العذابِ
وما اطـّلـَعْتِ على الشروحِ
والآنَ ثارَ الارْتِجافُ باضْلعي
ساُغادرُ العَصْرَ الجَليديَّ المُقيمَ على سفوحي
واُعيدُ ثانيةً
لقدْ كنـْتُ احْتـَطـَبْتُ الروحَ بالجَمْرِ الجَموحِ
لكنـَّما أنتِ احْتـَطـبْتِ الثلجَ لاهِيةً ونافخةً
على ثـَلـْجٍ بَليدٍ مُسْتـَبيحِ
فخـُذي عصوراً مِنْ جليدكِ
واذهبي
ولـْتـَتـْركي عُمْري مُريحاً واسْتريحي..
وهنا ينتهي عصر الجليد بينهما ..بعد أن يأمرها بالرحيل..
صور مكثفة وتشابيه جميلة ..يصف لغة العذاب في عيونه وهي تبرق الألم..
وينتهي به إلى القناعة التامة بتركها وإخراج ما تبقى منها من حسه للأبد...
قصيدة متقنة لها مميزات ذات جمالية في النسق والتفرد بلون جديد يثريها تلك التشابيه والصور البليغة التي أشارت لقدرة الشاعر وطيّه للحروف كيف شاء مما يزيد من براعته ويشير لقوة ألفاظه... عدا عن ذلك الخيال الواسع الذي استطاع به أن يوظف ألفاظه الجزلة بطريقة الدهشة مما استدعى الفكر للتأمل والغوص في مكنونات جماليته..
الشاعر الكبير المبدع
أ.خالد صبر سالم
شكراً لإثرائكم للأدب بهذه اللوحة الفاخرة ولحرفكم المميز
وفقكم الله ورعاكم وزادكم من العلم والخير والنور الكثير..
.
.
.
.
جهاد بدران
فلسطينية
النّاص : خالد صبر سالم
القراءة : جهاد بدران
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النص :
ــــــــــــــــــ
لا تـَنـْفخي
ما ظـَلَّ جَمْرٌ عندَ مَوْقدَةِ الهوى
فـَلـْتـَسْتريحي
بالنـَفـْخِ قدْ ثارَتْ عواصفُ مِنْ رمادٍ طائشٍ عَضِلٍ قبيحِ
فتـَوقـَفي
ما عادَ نـَفـْخـُكِ بالمُريحِ
***
سنواتـُنا إنـّي احْتـَطـَبْتُ لدِفـْئِها عُمْري
وكانَ الجَمْرُ روحي
وبَقيتِ تمْثالاً جَليديَّ المشاعرِ
ما احْتـَطـبْتِ لجَمْرةٍ
ورَفضْتِ دَوْما أنْ تـُريحي
لمْ تأتِ لي عَندَ اللقاءِ لمرْةٍ إلّا أتـَيْتِ
على جروحي
***
مَعْصومةٌ!!
لمْ تـُخـْطِئي حتـّى وإنْ حارَبْتِ شِعْري
واعْتـَديْتِ على طموحي !!
وبريئةٌ!!
لمْ تجْنـَحي لخطيئةٍ حتـّى وإنْ يوماً رقـَصْتِ
على ضريحي!!
كمْ كنـْتِ ظالمةً على رجلٍ أحَبَّكِ مخلصٍ سَمِحٍ نـَصوحِ!
لكنـَّما سِكـّينُ حِقـْدِكِ مَرْكبٌ
دوْماً يُجَدِّفُ في دَمي
ويَغوصُ في عُنـُقي الذبيحِ
لا تـُنـْكري
غـَطـَّيْتني بالثلجِ يُودِعُ صبْحَهُ للثلجِ بالعُرْي الصريحِ
وبقـيْتُ أصبرُ
ما شكوْتُ
ولمْ أكـُنْ غيرَ الصَفوحِ
***
عَينايَ تـَبْرقُ فيهما لغةُ العذابِ
وما اطـّلـَعْتِ على الشروحِ
والآنَ ثارَ الارْتِجافُ باضْلعي
ساُغادرُ العَصْرَ الجَليديَّ المُقيمَ على سفوحي
واُعيدُ ثانيةً
لقدْ كنـْتُ احْتـَطـَبْتُ الروحَ بالجَمْرِ الجَموحِ
لكنـَّما أنتِ احْتـَطـبْتِ الثلجَ لاهِيةً ونافخةً
على ثـَلـْجٍ بَليدٍ مُسْتـَبيحِ
فخـُذي عصوراً مِنْ جليدكِ
واذهبي
ولـْتـَتـْركي عُمْري مُريحاً واسْتريحي
ـــــــــــــــــــــــــــ
القراءة :
يا لهذا الجمال في النسج والنقش على حرير الشعر.. قصيدة بارعة النظم ممتلئة بالألفاظ المبهرة وتجاويفها المتقنة ..
هي لوحة فنية تلمع حروفها ويشتد بريقها عند كل قراءة لها..
قصيدة لها مميزات غنية بألوان الإبداع.. ثرية بالصور المنحوتة بإتقان في جدار الأدب ومرصعة بألفاظ جزلة وتصاوير سحرية..
مررت كثيرا على رياض هذا الحرف وقاموس هذا الشاعر لأتعلم منه فنون النظم ..إلا أن مثل هذا النسج له شيفرته الخاصة وريشته المبدعة..
احتطاب الثلج...
عنوان مثقل بالجمال مطرز بالإبداع..يثير المتلقي للدخول لمعالمه والكشف عن أسرار جماليته والتنقيب عن عمقه..
توظيف الشاعر لكلمة احتطاب الثلج..فيه فنية وذوق وسمة مميزة خاصة به..تحمل كل معالم السحر ..وتفتح غرفات الفكر لأوسع مدى في التعمق بين أسرار هذا الإبداع..
كلمة احتطاب..هي من الحطب..والحطب تتم فيه عملية القطع.. والقطع هي البتر عن بكرة أبيه.. لتصل إلى الموت.. وهذا إسقاط على وجود آلام وقهر ووجع.. لما في الإحتطاب من قطع الحياة وعدم التواصل بتاتاً..رمزية الحزن وانطلاقة الآهات تعليلاً على وجود عوائق حالت بين استمرارية الحياة..
وأما الثلج..ترمز للبرودة والجفاف وانتزاع الدفء والمشاعر وتعرية القلب من النبض..إذ هو مبعث الدفق العاطفي والدفء الشعوري في مراتب الحياة المختلفة..
وسنرى كيفية استغلال مصطلحات الطبيعة في غريزة النفس لتعطي عمق الحس الذي يتحلى به الشاعر لتصل لنا الصورة على أكمل وجه بتأثيراتها العميقة لتغلغل في النفوس وتطرب الذائقة الشعرية لدى المتلقي...
يبدأ الشاعر باستخدام الألوان المغرية بالتعبير الجمالي للحرف.. من خلال أولى كلماته الصادحة بقوله:
لا تـَنـْفخي
ما ظـَلَّ جَمْرٌ عندَ مَوْقدَةِ الهوى
فـَلـْتـَسْتريحي
بالنـَفـْخِ قدْ ثارَتْ عواصفُ مِنْ رمادٍ طائشٍ عَضِلٍ قبيحِ
فتـَوقـَفي
ما عادَ نـَفـْخـُكِ بالمُريحِ...
يبدأ اللوحة الفنية بعملية النهي والأمر لمن يقصدها الشاعر (محبوبته).. لا تنفخي.. والنفخ هو ما يثير من عملية الإتقاد التي ذهبت رمزيتها للوجع الذي يكمن في داخل الشاعر..
وكلمة جمر وموقدة وعواصف ورماد ..إنما باعثة لعملية الغليان والإحتراق والتعذيب...
ولمجرد توظيف مثل هذه الصور ورسم حدودها بنار الهوى..هذا دليل على قمة الوجع التي تغلي خصاله على موقدة البعد واحتراق المشاعر ...
يطلب الشاعر منها أن تتوقف عن تعذيبه من خلال اشعالها لنار الهوى ..إذ انتهت جمراته وهي تتقلب بالوجع على ما كان وانتهى حدوده..
في هذه الألفاظ صورة حية قد جسدها الشاعر بحس عالي من خلال القوى العقلية الواعية بتراكيب جديدة ترتدي ثوب التغيير في النظم لرسم دلالاته البليغة المبدعة ليبرز لنا حبال الوجع وهي تنكوي بمرارة لما وصل بينهما..
وينتقل الشاعر لصور جديدة أخرى قد تفرد بها وبجماليتها..بقوله:
سنواتـُنا إنـّي احْتـَطـَبْتُ لدِفـْئِها عُمْري
وكانَ الجَمْرُ روحي
وبَقيتِ تمْثالاً جَليديَّ المشاعرِ
ما احْتـَطـبْتِ لجَمْرةٍ
ورَفضْتِ دَوْما أنْ تـُريحي
لمْ تأتي لي عَندَ اللقاءِ لمرْةٍ إلّا أتـَيْتِ
على جروحي
الصور هنا غاية في السحر والجمال.. مصور حسي بارع..يلبسها تشابيه عذبة تدل على براعة الشاعر..
يشير من خلالها إلى بؤرة الألم وقمة الأزمة
التي فجرت بداخله حمم البوح لتكون لوحة تدفقية للمشاعر المجروحة.. عن طريق التدفق الشعري المميز لتحقق الغرض الشعري.. بعد عملية الإلحاح التي نخرت أدوات الكتابة لديه
وامتشقت مفتاح الجمال بألفاظه البارعة..
مما تدل على موقع الشاعر من البلاغة والفصاحة ومما يفتح الآفاق للسبح بين ظلالها الوارقة من عمق بالفكر وتغليف للأفكار لتثبيتها في نفس القارئ .. ولتوقظ عواطفه بلغته التصويرية المتقنة المؤثرة..ودلالاته المعبرة عن تأجج الحزن في دائرة ألمه..
يصور لنا الشاعر كيف يحتطب عمره مقابل الآخر ليهبه الحب الصادق.. ويقع التصوير على قمة التضحية بسنوات العمر ليحظى برضى من يحب.. وكيف يجعل من روحه جمراً يوقدها لمن يحب..كناية عن اللا حدود للإخلاص والنبل والوفاء.. ومقابل ذلك يلقى الجفاء والبعد وعدم الإكتراث من محبوبته التي رهن عمره لها... حتى وصفها بوصف بليغ مؤثر..على أنها تمثال جليدي.. كناية عن موت المشاعر والأحاسيس...
يكمل الشاعر لوحته الفنية بقوله:
مَعْصومةٌ!!
لمْ تـُخـْطِئي حتـّى وإنْ حارَبْتِ شِعْري
واعْتـَديْتِ على طموحي !!
وبريئةٌ!!
لمْ تجْنـَحي لخطيئةٍ حتـّى وإنْ يوماً رقـَصْتِ
على ضريحي!!
كمْ كنـْتِ ظالمةً على رجلٍ أحَبَّكِ مخلصٍ سَمِحٍ نـَصوحِ!
لكنـَّما سِكـّينُ حِقـْدِكِ مَرْكبٌ
دوْماً يُجَدِّفُ في دَمي
ويَغوصُ في عُنـُقي الذبيحِ
لا تـُنـْكري
غـَطـَّيْتني بالثلجِ يُودِعُ صبْحَهُ للثلجِ بالعُرْي الصريحِ
وبقـيْتُ أصبرُ
ما شكوْتُ
ولمْ أكـُنْ غيرَ الصَفوحِ
صور متتابعة لأفق الجمال وهو ينوع في تشكيلة لغوية قوية العمق ..
تلك الصورة التي رسمها بإتقان ..حين صوّر عمق وجعه وحزنه.. سكين حقدها يجدف في دمه ويغوص في عنقه الذبيح..
وما كان منه إلا الصفح.. دليل على معدن الشاعر وإخلاصه الكبير.. وصبره الواسع..
وتأتي نهاية قصيدته الرائعة المليئة بمقومات الجمال..بقوله:
عَينايَ تـَبْرقُ فيهما لغةُ العذابِ
وما اطـّلـَعْتِ على الشروحِ
والآنَ ثارَ الارْتِجافُ باضْلعي
ساُغادرُ العَصْرَ الجَليديَّ المُقيمَ على سفوحي
واُعيدُ ثانيةً
لقدْ كنـْتُ احْتـَطـَبْتُ الروحَ بالجَمْرِ الجَموحِ
لكنـَّما أنتِ احْتـَطـبْتِ الثلجَ لاهِيةً ونافخةً
على ثـَلـْجٍ بَليدٍ مُسْتـَبيحِ
فخـُذي عصوراً مِنْ جليدكِ
واذهبي
ولـْتـَتـْركي عُمْري مُريحاً واسْتريحي..
وهنا ينتهي عصر الجليد بينهما ..بعد أن يأمرها بالرحيل..
صور مكثفة وتشابيه جميلة ..يصف لغة العذاب في عيونه وهي تبرق الألم..
وينتهي به إلى القناعة التامة بتركها وإخراج ما تبقى منها من حسه للأبد...
قصيدة متقنة لها مميزات ذات جمالية في النسق والتفرد بلون جديد يثريها تلك التشابيه والصور البليغة التي أشارت لقدرة الشاعر وطيّه للحروف كيف شاء مما يزيد من براعته ويشير لقوة ألفاظه... عدا عن ذلك الخيال الواسع الذي استطاع به أن يوظف ألفاظه الجزلة بطريقة الدهشة مما استدعى الفكر للتأمل والغوص في مكنونات جماليته..
الشاعر الكبير المبدع
أ.خالد صبر سالم
شكراً لإثرائكم للأدب بهذه اللوحة الفاخرة ولحرفكم المميز
وفقكم الله ورعاكم وزادكم من العلم والخير والنور الكثير..
.
.
.
.
جهاد بدران
فلسطينية