مرمر القاسم
08-16-2010, 10:28 PM
بقلم: فارس بوحجيلة
أعترف أنه لم يكن بنيتي العودة طوعا لإثارة هذا الموضوع، لكوني أشعر بأنني كمن يحرث الماء أو كمن يضرب الرياح بالعصي، لكن "حوار" صحفية "الشروق اليومي" زهية منصر مع الابنة الصغرى للمفكر الراحل الدكتورة رحمة بن نبي (المنشور في العدد3015 ليوم: 04 /08/2010، ص 21) والذي جاء يحمل عنوانا في شكل نداء: "أنقذوا بيت والدي في تبسة الذي حول إلى مخمرة وبيت للدعارة" جعلني أعود للموضوع تحت ضغط التزام فكري وأخلاقي ينبع من وعي تاريخي واهتمامي ومتابعتي لآثار المفكر الراحل، إذ كنت تطرقت سابقا للموضوع في مقال بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لرحيله (1).
الحوار الذي تم تأجيل نشره من قبل الصحفية لأسباب لم تفصح عنها، كما لم تشر إلى تاريخ إجراءه والذي يرجح أنه تم بعد تأسيس دار النشر "سمر-samar" التي تعتبر الدكتورة رحمة بن نبي أحد المساهمين فيها، وهي الدار التي تديرها السيدة نورة بوزيدة التي شغلت منصب المكلفة بالاتصال على مستوى وزارة المساهمات وترقية الاستثمار أيام كان الوزير السابق نور الدين بوكروح على رأسها، كما يساعدها في التسيير أحد أبناء الدبلوماسي الراحل الأستاذ مختار عنيبة. هذه الدار تكفلت في بدايتها بنشر أعمال كل من الأستاذ أحمد بناسي، الكاتبة عفاف عنيبة، السيد نور الدين بوكروح، ومذكرات الأستاذ الراحل مالك بن نبي وبعضا من مؤلفاته باللغة الفرنسية.
بالعودة لنقاط الظل والتعتيم التي تضمنها الحوار والتي أجدها بحاجة للإيضاح، والمتعلقة في البداية بالحصار الذي تتعرض له كتب مالك بن نبي. بالنسبة لحق التصرف في الكتب، فالأستاذ الراحل كان قد عهد في وصيّة تركها في المحكمة الشرعية لطرابلس بلبنان سنة 1971 للمحامي والوزير السابق عمر مقساوي والتي يرفق صورة لنسختها الخطية في نهاية كتاب مالك بن نبي "من أجل التغيير" (دار الفكر، ط1 1997)، حيث تتضمن هذه الوصية الحق في المراقبة والإشراف على حقوق النشر والترجمة للكتب والمؤلفات باستثناء تلك التي تنشر باللغة الفرنسية في الجزائر أو فرنسا. هذه الأمانة التي ردّها إلى أهلها بتنازله عن هذه الحقوق للدكتورة رحمة بن نبي، حيث أشار إلى ذلك في مقدمة كتاب "من أجل التغيير" المؤرخة في 14 ديسمبر 1993، وبالتالي تكون حقوق النشر بالعربية والترجمة قد انتقلت إلى الدكتورة رحمة بن نبي، بالإضافة لاشتراكها مع بقية الورثة في حقوق نشر المؤلفات باللغة الفرنسية في الجزائر وفرنسا.
بغضّ النظّر عن كون كتب المفكر باللغة العربية لم يتم نشرها في الجزائر لحد اليوم بل يتم استيرادها وبيعها بأسعار مرتفعة نوعا ما الأمر الذي يحد من انتشارها و"تبسيطها للطلبة"، باستثناء المذكرات (في أجزائها الأربعة) التي تكفل الأستاذ نور الدين خندودي بترجمة جزء منها ونشرتها دار الأمة (2007) بتقديم من أحمد بن نعمان وتصدير عبد الرحمن بن عمارة، والتي تشير الأخبار إلى تعرض الناشر بسببها إلى مضايقات قضائية من طرف أسرة المفكر الراحل. فالاتهام التي تضمنه الحوار حول رفض لجنة الكتاب بتظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية لكتب المؤلف بحجة أن للجنة أولويات، هو الذي يحتاج إلى تحقيق في ظل وجود اتهام معاكس بأن الدكتورة رحمة بن نبي هي من أعاق نشر أربعة كتب للمؤلف في إطار هذه التظاهرة.
الدكتور زيدان خوليف الذي ترجم من الفرنسية الرواية الوحيدة للمفكر الراحل التي تحمل عنوان "لبيك، حج الفقراء" (دار الفكر، دمشق 2009) والتي عثر عليها أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه عن حياة وأعمال مالك بن نبي، في حوار أجراه مع الكاتب والصحفي سليم دريد نشرته أسبوعية "المحقق السري" في عددها الـ 154 (من 28 فبراير إلى 06 مارس 2009) والذي يحمل عنوان: "ابنة مالك بن نبي جمدت وأعاقت نشر كتبه"، تحدث عن مبادرة تمت بناء على اقتراح المرحوم الدكتور عبد القادر جغلول المستشار برئاسة الجمهورية بإعادة طبع أربع كتب هي: "شروط النهضة"، "وجهة العالم الإسلامي"، "الظاهرة القرآنية" و"لبيك حج الفقراء"، لكن العملية لم تتم نتيجة التدخل الذي قامت به ابنة المرحوم مالك بن نبي على مستوى مؤسسة النشر، فبحسب الدكتور زيدان خوليف دائما "السيدة رحمة ابنة المفكر بن نبي قامت بتجميد هذه الأعمال بادعائها أنها الوريث الشرعي لوالدها...".
تضمن حوار الدكتورة رحمة بن نبي كذلك دعوتها الموجهة إلى المقربين من الأستاذ الراحل من أجل "إضاءة بعض الجوانب المظلمة من سيرة المرحوم، وعليهم أن يفعلوا ذلك للتاريخ" لتستدرك الدكتورة أن "تلاميذ المرحوم هم من تتلمذ على كتبه حتى من الذين لم يعرفوه أو يلتقوه وهذا هو الأهم"، لكن الدكتورة قطعت الطريق أمام هؤلاء من خلال استحواذها على مخطوطات المفكر الراحل وتسليمها للسيد نور الدين بوكروح، حيث لم ير جلّها طريقه إلى النشر وما تم نشره كان بتصرف فيه كما حدث مع المذكرات في أجزائها الأربعة، إذ تم بتر أكثر من نصف الجزء الرابع والذي يغطي الفترة بين 1958 و1973 وهي فترة جد هامة في حياة المفكر، هذا البتر الذي يبرره السيد نور الدين بوكروح بحجة أن المادة المبتورة "لا تحمل أي دلالة، من خلال عدم تقديمه لمعلومات عن أفكاره أو عن أحداث بارزة في حياته لتعلقها بعلاقاته مع أصدقائه وعائلته أو متعلقاته اليومية...، وأخرى جرى التحفظ عليها نتيجة تعلقها بمسائل "تمس الدولة" أو انطباعاته الشخصية في حق أشخاص (مسؤولين سياسيين جزائريين وأجانب، طلبة يرتادون حلقته... لا تمت بصلة لحياته أو فكره"، إضافة إلى هذا البتر تم التصرف في المادة المنشورة من خلال إغفال أسماء الأشخاص الذين تمت الإشارة إليها بالأحرف الأولى فقط. وهو نفس الأسلوب الذي اتبعه الأستاذ عمر مقساوي عند نشره مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، وهو الكتاب الذي تعرض للمنع والمصادرة في الجزائر بعد نشره خارجها سنة 1970.
كنت قد نبّهت في مقال سابق بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل المفكر إلى هذه الرقابة المفروضة على مخطوطات المفكر الراحل من طرف ابنته بحجة الخصوصيّة العائلية ومن طرف تلميذه المقرّب بحجة "المساس بالدولة والشخصيّات". كما أشرت إلى غياب يوميات أو كتابات المؤلف التي تغطي الفترة المحصورة بين نهاية جوان 1954 وبداية فبراير 1958، والتي يشير المفكر إلى ضياعها في النقاط التي سجلها في مذكراته ليومي: 23 و24 جوان 1969. هذه الفترة تعتبر شديدة الحساسية في حياة ومسيرة المفكر الراحل كونها تتضمن أحداثا مهمة ابتداء من اندلاع الثورة التحريرية والتحاقه بالقاهرة مع نهاية شهر أبريل 1956 بعد رفضه لمنصب سياسي هام عرض عليه في حكومة "جي مولي" وهي المعلومة التي يورد تفاصيلها الدكتور صادق سلام، فبحسبه وأثناء إحدى الحلقات التي كان المفكر الراحل يقيمها بمنزله أسبوعيا ابتداء من سنة 1964 والتي تعتبر امتدادا للحلقات التي ابتدأها بالقاهرة سنة 1956، صرح المفكر بأن "الاستعمار عرض عليه القبول بمنصب لم يصل إليه أي من المسلمين قبلا"، هذا العرض الذي تم في إطار مساعي الحكومة الفرنسية لتكوين "قوة ثالثة" من المثقفين الجزائريين، وقد تم بالفعل إلحاق أحد الجزائريين هو المندوب السابق في المجلس الجزائري عبد القادر برقوق بالحكومة الفرنسية المشكلة في مايو 1957 في منصب كاتب دولة.
فبالرغم من ضياع الدفاتر التي تحوي هذا الجزء من المذكرات، المفكر الراحل ترك العديد من المخطوطات تتناول هذه الفترة من حياته، وهي المخطوطات التي يشير إليها السيد نور الدين بوكروح في كتابه عن حياة وفكر مالك بن نبي لكنها تظل بعيدة عن النشر، باستثناء "شهادة من أجل مليون من الشهداء" التي تحصّل عليها الدكتور صادق سلاّم فيما تحصل عليه من وثائق بواسطة صديق المفكر المرحوم صالح بن الساعي، والتي نشرها الرائد سي لخضر بورقعة في ملاحق كتابه "شاهد على اغتيال الثورة" (دار الأمة 2000) وأعيد نشرها مؤخرا (الخبر الأسبوعي عدد 588، ص 20-21). الاطلاع على هذه الشهادة يعطينا فكرة عن نوعية الأحكام التي أصدرها المفكر في حق العديد من الشخصيات الوطنية وكذلك موقفه من العديد من التقلبات والأحداث التي صاحبت الثورة الجزائرية والسنوات الأولى للاستقلال.
هذه المعلومات الهامة وغيرها لم يتسن لقلة من المهتمين الاطلاع عليها لولا مقال الدكتور الصادق سلام الذي تناول علاقة المفكر الراحل بجبهة التحرير الوطني والنظام الجزائري الناشئ (2)، وهي الدراسة التي لم تنل انتشارا واسعا في أوساط المهتمين بالرغم من صدورها سنة 2002. ففي تدخل موجز في إطار حفل اختتام جلسات منتدى المواطنة بمدينة العلمة بتاريخ 24 جويلية 2010 وهو الحفل الذي توج بتسليم جوائز مسابقة فنون القراءة والتلخيص حيث خصص موضوعها لمؤلفات مالك بن نبي، وهي بادرة ثمينة تستحق الالتفاف والتشجيع كونها تسعى لتبسيط مؤلفات المفكر الراحل أمام الطلبة والشباب، كنت قد أشرت إلى تعرض المفكر الراحل للخيانة بعد وفاته من طرف من يفترض بهم الوفاء لمواقفه وأفكاره، فهو المفكر الذي عاش يخوض وحيدا صراعا فكريا محتدما، وكان رافضا لأي توظيف سياسي من أي طرف كان، بحيث رفض الكثير من المناصب من بينها وزير في الحكومة الفرنسية وانتهاء بالمساومات التي تعرض لها نتيجة مواقفه النقدية من التحولات السياسية في جزائر الاستقلال، وهو الرفض الذي كلّفه غاليا.
أما النداء التي وجهته الدكتورة فيما والمتعلق بالبيت الذي عاش فيه المفكر فترات متقطعة من حياته، فالمفكر ينتمي إلى عائلة من أعرق عائلات مدينة قسنطينة، حيث ولد بها سنة 1905 ونتيجة لشغل والده منصب خوجة في البلدية المختلطة بتبسة أقام بها هذا الأخير، حيث يقيم أصهاره كذلك أي أخوال المفكر الراحل. فالبيت الذي تم التنبه إلى أنه تحول إلى مكان لممارسة الرذائل سنة 2007 وهو الحدث الذي أسال الكثير من الحبر في الصحف الوطنية، بحيث تدخلت مصالح الأمن واعتقلت الجناة، وقامت السلطات المحلّية لولاية تبسة بإغلاقه وهو ما تظهره الصورة المرفقة بحوار صحيفة الشروق، كما أن البيت حاليا تقابله ثلاث حانات في نفس الشارع. وبحسب مصادر من ولاية تبسة فقد تم إثارة الموضوع في إحدى دورات المجلس الشعبي الولائي، بحيث طلب من والي الولاية الموافقة على تحويل البيت إلى متحف أو مقر جمعية باسم المفكر الراحل، لكن الطلب قوبل بالرفض كون البيت يعتبر ملكية خاصة.
بحسب الوثائق التي اطلع عليها الدكتور زيدان خوليف، البيت عبارة عن ملكية خاصة مسجلة في ولاية قالمة باسم والدة المفكر الراحل، وكان البيت قد تعرّض للإهمال من قبل الورثة بعد وفاة والد مالك بن نبي سنة 1976. وكمبادرة أولية قام 500 مفكر وباحث من مختلف دول العالم عبر محور "طنجة-جاكرتا" بتوجيه عريضة إلى السيد رئيس الجمهورية للمطالبة بالحفاظ على هذا الإرث التاريخي. فبحسب هذه المعلومات ورثة والدة المفكر الراحل المتمثلون في بناته وأبناء شقيقاته هم من يتحمل الوضعية المزرية التي آل إليها هذا البيت والفرصة أمامهم لاتخاذ خطوات عملية فعلية لتسوية الوضعية القانونية للبيت وصيانته بدل ترك هذا المعلم التاريخي عرضة للضياع والاندثار.
إذا فالمفكر الذي ظلّ متيقظا لمخططات الدوائر الاستعمارية سواء قبل الاستقلال أو بعده، تعرّض بعد رحيله إلى إهمال من قبل الدوائر الرّسمية، وإلى توظيف مقيت من قبل من يفترض بهم الوفاء لأفكاره أو مواقفه. والدكتورة رحمة بن نبي أظنها ذهبت ضحية لهذا التوظيف ربما لحداثة سنّها بعد وفاة والدها، وكذلك ابتعادها عن الواقع الجزائري كونها تقيم برفقة زوجها السوري الجنسية بلوس أنجلوس الأمريكية منذ ما يزيد عن العشرين سنة. فالأستاذ الراحل عاد فعلا بعد ثلاثين سنة من رحيله لكن عودته كانت من خلال فرض الرقابة على سيرته ومواقفه، في محاولة لتدجينه ميتا بتواطؤ مريب من قبل مقربيه إما بالسكوت أو الخيانة.
فارس بوحجيلة
قسنطينة، في 07 أوت2010
أعترف أنه لم يكن بنيتي العودة طوعا لإثارة هذا الموضوع، لكوني أشعر بأنني كمن يحرث الماء أو كمن يضرب الرياح بالعصي، لكن "حوار" صحفية "الشروق اليومي" زهية منصر مع الابنة الصغرى للمفكر الراحل الدكتورة رحمة بن نبي (المنشور في العدد3015 ليوم: 04 /08/2010، ص 21) والذي جاء يحمل عنوانا في شكل نداء: "أنقذوا بيت والدي في تبسة الذي حول إلى مخمرة وبيت للدعارة" جعلني أعود للموضوع تحت ضغط التزام فكري وأخلاقي ينبع من وعي تاريخي واهتمامي ومتابعتي لآثار المفكر الراحل، إذ كنت تطرقت سابقا للموضوع في مقال بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لرحيله (1).
الحوار الذي تم تأجيل نشره من قبل الصحفية لأسباب لم تفصح عنها، كما لم تشر إلى تاريخ إجراءه والذي يرجح أنه تم بعد تأسيس دار النشر "سمر-samar" التي تعتبر الدكتورة رحمة بن نبي أحد المساهمين فيها، وهي الدار التي تديرها السيدة نورة بوزيدة التي شغلت منصب المكلفة بالاتصال على مستوى وزارة المساهمات وترقية الاستثمار أيام كان الوزير السابق نور الدين بوكروح على رأسها، كما يساعدها في التسيير أحد أبناء الدبلوماسي الراحل الأستاذ مختار عنيبة. هذه الدار تكفلت في بدايتها بنشر أعمال كل من الأستاذ أحمد بناسي، الكاتبة عفاف عنيبة، السيد نور الدين بوكروح، ومذكرات الأستاذ الراحل مالك بن نبي وبعضا من مؤلفاته باللغة الفرنسية.
بالعودة لنقاط الظل والتعتيم التي تضمنها الحوار والتي أجدها بحاجة للإيضاح، والمتعلقة في البداية بالحصار الذي تتعرض له كتب مالك بن نبي. بالنسبة لحق التصرف في الكتب، فالأستاذ الراحل كان قد عهد في وصيّة تركها في المحكمة الشرعية لطرابلس بلبنان سنة 1971 للمحامي والوزير السابق عمر مقساوي والتي يرفق صورة لنسختها الخطية في نهاية كتاب مالك بن نبي "من أجل التغيير" (دار الفكر، ط1 1997)، حيث تتضمن هذه الوصية الحق في المراقبة والإشراف على حقوق النشر والترجمة للكتب والمؤلفات باستثناء تلك التي تنشر باللغة الفرنسية في الجزائر أو فرنسا. هذه الأمانة التي ردّها إلى أهلها بتنازله عن هذه الحقوق للدكتورة رحمة بن نبي، حيث أشار إلى ذلك في مقدمة كتاب "من أجل التغيير" المؤرخة في 14 ديسمبر 1993، وبالتالي تكون حقوق النشر بالعربية والترجمة قد انتقلت إلى الدكتورة رحمة بن نبي، بالإضافة لاشتراكها مع بقية الورثة في حقوق نشر المؤلفات باللغة الفرنسية في الجزائر وفرنسا.
بغضّ النظّر عن كون كتب المفكر باللغة العربية لم يتم نشرها في الجزائر لحد اليوم بل يتم استيرادها وبيعها بأسعار مرتفعة نوعا ما الأمر الذي يحد من انتشارها و"تبسيطها للطلبة"، باستثناء المذكرات (في أجزائها الأربعة) التي تكفل الأستاذ نور الدين خندودي بترجمة جزء منها ونشرتها دار الأمة (2007) بتقديم من أحمد بن نعمان وتصدير عبد الرحمن بن عمارة، والتي تشير الأخبار إلى تعرض الناشر بسببها إلى مضايقات قضائية من طرف أسرة المفكر الراحل. فالاتهام التي تضمنه الحوار حول رفض لجنة الكتاب بتظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية لكتب المؤلف بحجة أن للجنة أولويات، هو الذي يحتاج إلى تحقيق في ظل وجود اتهام معاكس بأن الدكتورة رحمة بن نبي هي من أعاق نشر أربعة كتب للمؤلف في إطار هذه التظاهرة.
الدكتور زيدان خوليف الذي ترجم من الفرنسية الرواية الوحيدة للمفكر الراحل التي تحمل عنوان "لبيك، حج الفقراء" (دار الفكر، دمشق 2009) والتي عثر عليها أثناء إعداده لرسالة الدكتوراه عن حياة وأعمال مالك بن نبي، في حوار أجراه مع الكاتب والصحفي سليم دريد نشرته أسبوعية "المحقق السري" في عددها الـ 154 (من 28 فبراير إلى 06 مارس 2009) والذي يحمل عنوان: "ابنة مالك بن نبي جمدت وأعاقت نشر كتبه"، تحدث عن مبادرة تمت بناء على اقتراح المرحوم الدكتور عبد القادر جغلول المستشار برئاسة الجمهورية بإعادة طبع أربع كتب هي: "شروط النهضة"، "وجهة العالم الإسلامي"، "الظاهرة القرآنية" و"لبيك حج الفقراء"، لكن العملية لم تتم نتيجة التدخل الذي قامت به ابنة المرحوم مالك بن نبي على مستوى مؤسسة النشر، فبحسب الدكتور زيدان خوليف دائما "السيدة رحمة ابنة المفكر بن نبي قامت بتجميد هذه الأعمال بادعائها أنها الوريث الشرعي لوالدها...".
تضمن حوار الدكتورة رحمة بن نبي كذلك دعوتها الموجهة إلى المقربين من الأستاذ الراحل من أجل "إضاءة بعض الجوانب المظلمة من سيرة المرحوم، وعليهم أن يفعلوا ذلك للتاريخ" لتستدرك الدكتورة أن "تلاميذ المرحوم هم من تتلمذ على كتبه حتى من الذين لم يعرفوه أو يلتقوه وهذا هو الأهم"، لكن الدكتورة قطعت الطريق أمام هؤلاء من خلال استحواذها على مخطوطات المفكر الراحل وتسليمها للسيد نور الدين بوكروح، حيث لم ير جلّها طريقه إلى النشر وما تم نشره كان بتصرف فيه كما حدث مع المذكرات في أجزائها الأربعة، إذ تم بتر أكثر من نصف الجزء الرابع والذي يغطي الفترة بين 1958 و1973 وهي فترة جد هامة في حياة المفكر، هذا البتر الذي يبرره السيد نور الدين بوكروح بحجة أن المادة المبتورة "لا تحمل أي دلالة، من خلال عدم تقديمه لمعلومات عن أفكاره أو عن أحداث بارزة في حياته لتعلقها بعلاقاته مع أصدقائه وعائلته أو متعلقاته اليومية...، وأخرى جرى التحفظ عليها نتيجة تعلقها بمسائل "تمس الدولة" أو انطباعاته الشخصية في حق أشخاص (مسؤولين سياسيين جزائريين وأجانب، طلبة يرتادون حلقته... لا تمت بصلة لحياته أو فكره"، إضافة إلى هذا البتر تم التصرف في المادة المنشورة من خلال إغفال أسماء الأشخاص الذين تمت الإشارة إليها بالأحرف الأولى فقط. وهو نفس الأسلوب الذي اتبعه الأستاذ عمر مقساوي عند نشره مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي، وهو الكتاب الذي تعرض للمنع والمصادرة في الجزائر بعد نشره خارجها سنة 1970.
كنت قد نبّهت في مقال سابق بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لرحيل المفكر إلى هذه الرقابة المفروضة على مخطوطات المفكر الراحل من طرف ابنته بحجة الخصوصيّة العائلية ومن طرف تلميذه المقرّب بحجة "المساس بالدولة والشخصيّات". كما أشرت إلى غياب يوميات أو كتابات المؤلف التي تغطي الفترة المحصورة بين نهاية جوان 1954 وبداية فبراير 1958، والتي يشير المفكر إلى ضياعها في النقاط التي سجلها في مذكراته ليومي: 23 و24 جوان 1969. هذه الفترة تعتبر شديدة الحساسية في حياة ومسيرة المفكر الراحل كونها تتضمن أحداثا مهمة ابتداء من اندلاع الثورة التحريرية والتحاقه بالقاهرة مع نهاية شهر أبريل 1956 بعد رفضه لمنصب سياسي هام عرض عليه في حكومة "جي مولي" وهي المعلومة التي يورد تفاصيلها الدكتور صادق سلام، فبحسبه وأثناء إحدى الحلقات التي كان المفكر الراحل يقيمها بمنزله أسبوعيا ابتداء من سنة 1964 والتي تعتبر امتدادا للحلقات التي ابتدأها بالقاهرة سنة 1956، صرح المفكر بأن "الاستعمار عرض عليه القبول بمنصب لم يصل إليه أي من المسلمين قبلا"، هذا العرض الذي تم في إطار مساعي الحكومة الفرنسية لتكوين "قوة ثالثة" من المثقفين الجزائريين، وقد تم بالفعل إلحاق أحد الجزائريين هو المندوب السابق في المجلس الجزائري عبد القادر برقوق بالحكومة الفرنسية المشكلة في مايو 1957 في منصب كاتب دولة.
فبالرغم من ضياع الدفاتر التي تحوي هذا الجزء من المذكرات، المفكر الراحل ترك العديد من المخطوطات تتناول هذه الفترة من حياته، وهي المخطوطات التي يشير إليها السيد نور الدين بوكروح في كتابه عن حياة وفكر مالك بن نبي لكنها تظل بعيدة عن النشر، باستثناء "شهادة من أجل مليون من الشهداء" التي تحصّل عليها الدكتور صادق سلاّم فيما تحصل عليه من وثائق بواسطة صديق المفكر المرحوم صالح بن الساعي، والتي نشرها الرائد سي لخضر بورقعة في ملاحق كتابه "شاهد على اغتيال الثورة" (دار الأمة 2000) وأعيد نشرها مؤخرا (الخبر الأسبوعي عدد 588، ص 20-21). الاطلاع على هذه الشهادة يعطينا فكرة عن نوعية الأحكام التي أصدرها المفكر في حق العديد من الشخصيات الوطنية وكذلك موقفه من العديد من التقلبات والأحداث التي صاحبت الثورة الجزائرية والسنوات الأولى للاستقلال.
هذه المعلومات الهامة وغيرها لم يتسن لقلة من المهتمين الاطلاع عليها لولا مقال الدكتور الصادق سلام الذي تناول علاقة المفكر الراحل بجبهة التحرير الوطني والنظام الجزائري الناشئ (2)، وهي الدراسة التي لم تنل انتشارا واسعا في أوساط المهتمين بالرغم من صدورها سنة 2002. ففي تدخل موجز في إطار حفل اختتام جلسات منتدى المواطنة بمدينة العلمة بتاريخ 24 جويلية 2010 وهو الحفل الذي توج بتسليم جوائز مسابقة فنون القراءة والتلخيص حيث خصص موضوعها لمؤلفات مالك بن نبي، وهي بادرة ثمينة تستحق الالتفاف والتشجيع كونها تسعى لتبسيط مؤلفات المفكر الراحل أمام الطلبة والشباب، كنت قد أشرت إلى تعرض المفكر الراحل للخيانة بعد وفاته من طرف من يفترض بهم الوفاء لمواقفه وأفكاره، فهو المفكر الذي عاش يخوض وحيدا صراعا فكريا محتدما، وكان رافضا لأي توظيف سياسي من أي طرف كان، بحيث رفض الكثير من المناصب من بينها وزير في الحكومة الفرنسية وانتهاء بالمساومات التي تعرض لها نتيجة مواقفه النقدية من التحولات السياسية في جزائر الاستقلال، وهو الرفض الذي كلّفه غاليا.
أما النداء التي وجهته الدكتورة فيما والمتعلق بالبيت الذي عاش فيه المفكر فترات متقطعة من حياته، فالمفكر ينتمي إلى عائلة من أعرق عائلات مدينة قسنطينة، حيث ولد بها سنة 1905 ونتيجة لشغل والده منصب خوجة في البلدية المختلطة بتبسة أقام بها هذا الأخير، حيث يقيم أصهاره كذلك أي أخوال المفكر الراحل. فالبيت الذي تم التنبه إلى أنه تحول إلى مكان لممارسة الرذائل سنة 2007 وهو الحدث الذي أسال الكثير من الحبر في الصحف الوطنية، بحيث تدخلت مصالح الأمن واعتقلت الجناة، وقامت السلطات المحلّية لولاية تبسة بإغلاقه وهو ما تظهره الصورة المرفقة بحوار صحيفة الشروق، كما أن البيت حاليا تقابله ثلاث حانات في نفس الشارع. وبحسب مصادر من ولاية تبسة فقد تم إثارة الموضوع في إحدى دورات المجلس الشعبي الولائي، بحيث طلب من والي الولاية الموافقة على تحويل البيت إلى متحف أو مقر جمعية باسم المفكر الراحل، لكن الطلب قوبل بالرفض كون البيت يعتبر ملكية خاصة.
بحسب الوثائق التي اطلع عليها الدكتور زيدان خوليف، البيت عبارة عن ملكية خاصة مسجلة في ولاية قالمة باسم والدة المفكر الراحل، وكان البيت قد تعرّض للإهمال من قبل الورثة بعد وفاة والد مالك بن نبي سنة 1976. وكمبادرة أولية قام 500 مفكر وباحث من مختلف دول العالم عبر محور "طنجة-جاكرتا" بتوجيه عريضة إلى السيد رئيس الجمهورية للمطالبة بالحفاظ على هذا الإرث التاريخي. فبحسب هذه المعلومات ورثة والدة المفكر الراحل المتمثلون في بناته وأبناء شقيقاته هم من يتحمل الوضعية المزرية التي آل إليها هذا البيت والفرصة أمامهم لاتخاذ خطوات عملية فعلية لتسوية الوضعية القانونية للبيت وصيانته بدل ترك هذا المعلم التاريخي عرضة للضياع والاندثار.
إذا فالمفكر الذي ظلّ متيقظا لمخططات الدوائر الاستعمارية سواء قبل الاستقلال أو بعده، تعرّض بعد رحيله إلى إهمال من قبل الدوائر الرّسمية، وإلى توظيف مقيت من قبل من يفترض بهم الوفاء لأفكاره أو مواقفه. والدكتورة رحمة بن نبي أظنها ذهبت ضحية لهذا التوظيف ربما لحداثة سنّها بعد وفاة والدها، وكذلك ابتعادها عن الواقع الجزائري كونها تقيم برفقة زوجها السوري الجنسية بلوس أنجلوس الأمريكية منذ ما يزيد عن العشرين سنة. فالأستاذ الراحل عاد فعلا بعد ثلاثين سنة من رحيله لكن عودته كانت من خلال فرض الرقابة على سيرته ومواقفه، في محاولة لتدجينه ميتا بتواطؤ مريب من قبل مقربيه إما بالسكوت أو الخيانة.
فارس بوحجيلة
قسنطينة، في 07 أوت2010