![]() |
جبل الدخان
القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة القصة لديوان ومنتديات النيل والفرات
جبل الدخان هُسسسسسسسْ .... سوف أتحدث همساً لئلا يسمعني أحد ، فأنا محاطة بالأوغاد ... خائفة أنا .. أرصد أيامي المتبوعة بالأذى وألتمس بقعة ضوء مسروقة من جسد ليل غمر نهاراتي كلها ، وأبى إلا أن يقيم فيها أمدا لا يحده زمان . منذ مدة وأنا أحاول أن أستعيد بعضا من صوابي ، لعلي أصل إلى الحدود التي تقف عندها نفسي .. نفسي التي ضلت الطريق إلى جسدي المستسلم لمشيئة هذا وذاك . أعاني كثيرا من ضعف جسدي المضطهد ، وعقلي الغائب ،من أثر تيارات الكهرباء التي أخضع لها رغما عني ، أفعالي التي أقوم بها وأحاديثي التي ينفر منها الجميع، ما هي إلا حقيقة يأبى تصديقها أقرب المقربون لأنهم لا يجرؤون على الوقوف أمام الحقيقة وجها لوجه . الآن وقبل أن أستجيب لرغبة عقلي المشوش التائه ، سوف أهديكم أسرار حكايتي التي لا يفقهها أحد غيري، فأنا متورطة حتى النخاع . رائحة البخور تثير حنق الرابض في أعماقي .. خلف الباب يقف مشعوذون وسحرة ، ينتظرون إطلالتي ، لينهالوا بعصيهم على جسدي المتهالك ، لكنني لا أنوي الخروج إليهم لأنني قررت أمرا ما ... كما قررت أن أقص عليكم حكايتي ، من أجل امرأة فقدت بياض أيامها وأرغمت على اعتناق السواد ، لقد تركتها هناك ، تصارع الدخان وتلهث بحثا عن نفق يوصلها إلي ، لكنها لم تنجح لأنني وكما أخبرتكم سلفا ، مازلت محاطة بالأوغاد . في ليلة اشتد البرد فيها حتى اخترق العظام ،قمت بإغلاق جهاز التلفاز وأطفأت الأنوار لألتحق بزوجي الراقد في الفراش منذ وقت باكر ، دسست جسدي تحت الغطاء ثم ألصقته بجسده الدافئ ، وقبل أن تذيب أنفاسه جليدا تكور تحت جلدي ، شعرت بانزلاق جسدي وكأن أيد خفية تحاول سحبه لتلقي به خارج السرير ، تشبثت بالملاءة، لكني لم أفلح ، كانت القوة التي تسحبني تفوق قدرتي على المقاومة بعشرات المرات. سمعت صوت ارتطام جسدي بالأرض ، نهضت هلعة.. تلفت ذات اليمين وذات الشمال .. لا أحد ! عدت إلى السرير وألصقت جسدي مرة أخرى بجسد زوجي المستغرق في نوم عميق ، حاولت إيقاظه ليمتص فزعا زلزل أنفاسي ، لكني أشفقت عليه . لا نوم .. لا جواب لسؤال يكرر نفسه : "من الذي سحبني من قدمي وأسقطني على الأرض"،مرت ساعات على هذا الحال ، وما بين الأرق والحيرة ، سمعت صوت خطوات تدنو من السرير ، رفعت بصري فاستقر على وجه مخلوق لا أعرف كيف تسلل إلى مخدعي ومن أين جاء ، وقبل أن تصدر عني أية ردة فعل أومأ إلي برأسه ، فتبعته دونما تفكير. في الممر المؤدي إلى قاعة الضيوف قال لي بصوت هامس، إن قومه ينتظرون تشريفي، وأنهم يقيمون الأفراح والولائم بمناسبة عقد قرانه بي ، جحظت عيناي وتقهقرت خطوات إلى الوراء ، لكنه سحبني من يدي بهدوء قائلا : " لا مناص من هذا يا حلوتي .. لا مناص .. نحن مخلوقات لا يرد لها قرار " وبطرفة عين وجدتني أقف أمام جبل يسمونه جبل الدخان ، كان لا بد أن أجتاز غلالة كثيفة من الدخان قبل أن أصل إلى قاعة الاحتفال التي تضم عددا غفيرا من المخلوقات المختلفة الأنواع والألوان ، أقزام .. عمالقة .. مخلوقات تشبهنا إلى حد كبير، وأخرى لا تمت لنا بصلة على الإطلاق .. كائنات لها بشرة صفراء وأخرى زرقاء.. مخلوقات لها جسد آدمي ورؤوس حيوانات ، ولها قرون مختلفة الأحجام والأشكال . أصبت بالدوار وأوشكت على السقوط مغشيا علي ، لكنه رفعني بكلتا يديه وحملني على ذراعيه ، ثم سار بي في موكب مهيب ، وعند عرش الملك والملكة أنزلني، وقدمني إليهما قائلا : هذه "زان زينار " محبوبتي. كنت أريد أن أقول له أن هذا ليس اسمي ،فإذا به يهمس في أذني رغم أني لم أتفوه بحرف، هذا هو اسمك من الآن ،لكني سأناديك "زينار" أعلنت الملكة بدء الاحتفال ، وأمرت الفرقة الموسقية بقرع الطبول ، في هذه الأثناء انطلقت الألعاب النارية لتضيء سماء جبل الدخان . وبعد فترة وجيزة من بدء الاحتفال ، انتقل الملك والملكة يصحبهم بعض الأشراف إلى البهو المجاور لتبدأ مراسيم عقد القران ، وكنا على رأسهم بالطبع . لم تبهرني مساحة البهو الشاسعة والمفروشة بأرقى أنواع الأثاث بقدر انبهاري بالحركات البهلوانية التي قام بها بعض الأقزام على سقف البهو وجدرانه احتفاء بقدومنا. ثم ساد الصمت حين تقدم رجل قصير القامة يتدحرج كما الكرة تسبقه إلينا لحيته الطويلة البيضاء، حيى الملك والملكة بانحناءة مبالغ فيها ، ثم شرع بإلقاء خطبة طويلة قبل أن يقوم بعقد الزواج ، ورغم أن حالتي لم تكن مهيأة للتركيز أو الإصغاء ، إلا أنني تمكنت من التقاط بعض عبارات خرجت بصعوبة من فمه الواسع والخالي من الأسنان ، قال إن قانونهم لا يسمح بالزواج من مخلوقات إنسية إلا إذا تعذر على السلطان إقناع أحد أفراد مملكته بالعدول عن قراره ،وإذا ما تم هذا الزواج فلا انفصال ، ثم تلا بعض الكلمات غير المفهومة بالنسبة لي، فتعالت الأصوات المهنئة والمباركة لهذا الزواج ، وصدحت الموسيقى في أرجاء المكان . حملني الأمير ثانية، لكن إلى مخدعه هذه المرة، ليمارس حقه الذي منحه إياه كائن لم يسألني إن كنت موافقة على هذا الزواج أم لا ،وأنا لم أتفوه بكلمة لأني كنت خائفة . عند شروق الشمس ،كنت في غرفتي ،أنام على سريري بالقرب من زوجي ، كيف عدت .. متى جئت .. لا أتذكر ؟ تنفست بعمق ، وتمنيت أن يكون ما مر بي مجرد حلم ، رغم أني أدرك تماما أن ما مررت به لم يكن حلما . في اليوم الأول وخلال النهار لم يحدث شيء غير معتاد ، فقد قمت بطهي طعام الغداء لزوجي وتناولناه معا ،وكذلك العشاء ،وعندما ذهبنا إلى النوم بدأت المعاكسات . حين بدأ زوجي بتقبيلي، شعرت بيد تسحبني من قدمي بقوة ،وكان زوجي يردد في هذه الأثناء ، ما هذا .. ما بك .. ما الذي يحدث ، وقد حاول الإمساك بي بكل ما أوتي من قوة ، لكن الطرف الآخر سحبني ورماني خارج السرير كما فعل في المرة الأولى ، لأنه يتمتع بقوة خارقة ، إن كنتم تعلمون . لم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل راح يزداد ضراوة كلما حاول زوجي لمسي أو الاقتراب من جسدي ، فصرت كما الحبل في لعبة "جر الحبل" هذا يشد وذلك أيضا والغلبة للأقوى ، ولا يهم إن انقطع الحبل أو تهرأ ، فنشوة الانتصار غاية تبرر الوسيلة ، ولا مفر من العواقب التي ستترتب على هذا النزال . انسحب زوجي من حياتي بهدوء ، قال لشقيقتي الكبرى أنه لا يرغب في استئناف حياته مع امرأة مجنونة ، تحدث نفسها ليل نهار، تدخل في اشتباك مع الهواء ، تهدهد طفلا وهميا، وتخرج ثديها أينما كانت لترضعه، ناهيك عن امتناعها عني وانزلاقها من بين يدي بطريقة لا أعرف كيف أصبحت تتقنها إلى هذا الحد ، إنها مجنونة،مجنونة، ولابد أن تدخل مصحة عقلية، وإلا ستتسبب بكارثة لا يعلمها إلا الله، اللهم أني بلغت، اللهم فاشهد ، ثم أرسل لي ورقة الطلاق بعد أيام . أنا لا أحدث نفسي ولا أتعارك مع الهواء ، أنا أتحدث إلى "أنيمار" والد ابني ، وأتشاجر معه لأنه لا يدعني أرى طفلي إلا عندما يحين وقت رضاعته، وسرعان ما ينتزعه من صدري حالما يفلت الطفل حلمتي ، ولا أعود أراه إلا بين الرضعة والرضعة. أخبرت شقيقتي بكل التفاصيل ، لكنها لم تصدقني ، حتى عندما أخرجت لها ثديي ورأت بأم عينها ، كيف يتدفق الحليب منه بغزارة ، لم تصدقني أيضا ، وأصرت على إخضاعي لعلاجات نفسية وعصبية دون جدوى ،ثم اهتدت إلى جلسات التعذيب التي أرهقت جسدي ،على أيد زمرة المتخلفين الذين ينتظرونني الآن خلف هذا الباب ، لكني لا أنوي الخروج إليهم كما اتفقنا،لأنني مازلت مصرة على تنفيذ ما اعتزمت القيام به. سأنسحب الآن .. لا بد من الانسحاب ، لكني لن أنسحب لوحدي بل .......... أمهلوني لحظة ..... يا الله ... قطرات البنزين تشعرني بالنشوة .. أين الكبريت .. هاهو الكبريت .... إذن ... هُسسسسسسسسْ ... سيختفي كلانا إلى الأبد . |
رد: جبل الدخان
قصة جميلة تستحق الفوز
تحياتي |
رد: جبل الدخان
في يوم القيامة سأطالب ببناء مقصلة شاهقة لكتاب القصة القصيرة... و لن أحضر خلال مراسيم الشنق طبعا. يوجد من يضغطون بأصابعهم المتورمة على قطعة الفلين كي تستقر في أسفل الماء إنهم يدعون أنهم لا يعرفون أن الفلين يطفو فوق الماء... نص قصصي عميق للمبدعة المقتدرة سولاف كل التقدير |
رد: جبل الدخان
الغالية سولاف هلال مساء يرفل بالمحبة والهناء وقوافل الفرح هنيئا لقلمك فوزه من خلال هذه القصة الرائعة .. وهنيئا لنا بك وبه .. مزيدا من التفوق والتقدم والعطاء .. قرأتها \ ك والصور الكثيرة تمر أمامي .. فأجمل ما في القاص أن ينقل مشاهداته ويحولها لنسيج يتنامى بإتقان فيحقق السرد الغاية الكامنة خلف الكلمات .. وهذا ما وجدته هنا .. أثبتها بكل اعتزاز .. مع تقديري لك ولقلمك الجميل و أسلوبك السامق مودتي المخلصة سفـــــانة |
رد: جبل الدخان
اقتباس:
أهلا ومرحبا بك مجددا شكرا لمرورك الكريم تحياتي |
رد: جبل الدخان
اقتباس:
الأستاذ القدير هشام برجاوي ردك كان أعمق وقد احتفظت به في ذاكرتي لا حرمنا الله من حضورك المؤثر دمت لنا محبتي |
رد: جبل الدخان
يقول اليوت:"إن مركز القيمة قائم في الانموذج الذي نصنعه من مشاعرنا وليس في مشاعرنا نفسها " والطريقة الممكنة ولعلها الوحيدة في التعبير عن المكنون الانساني وذلك عبر إكتشاف المعادل الموضوعي، أي سلسلة من الأحداث تكون هي الصيغة او الإطار الذي توضع فيه الأحداث عبر احداث مغايرة على المستوى الحدث العادي وعلى مستوى الرؤيا الدامغة التي تريدنا الساردة ان نعيشها وفق معطياتها البلاغية والصورية، ولعل الختمة توضح الكثير مما يمكن ان تقوله الساردة لنا.
محبتي جوتيار |
رد: جبل الدخان
الغالية سولاف
كان النص يستحق الفوز بجداره قيمته وأنا لا أعرف كاتبة وسعدت أن أكون أحد أفراد لجنة التحكيم وكنت أنتظر بشوق التعرف على إسم الكاتب وسعادتي كانت كبيرة جداً عندما عرفت ان النص لكِ وهذا ليس بغريب على قلمك عندما يرسم الصور ويغوص في العمق تمنياتي لك بالتوفيق الدائم دمت بألق محبتي |
رد: جبل الدخان
اقتباس:
الغالية سفانة أسعد الله أوقاتك هنيئا لي وجودك هنا وتهنئتك العزيزة على قلبي شكرا لك غاليتي محبتي |
رد: جبل الدخان
اقتباس:
الأستاذ القدير جوتيار تمر أسعد الله أوقاتك شكرا لقراءتك العميقة التي تعني لي الكثير شكرا لحضورك الجميل تحية من القلب |
الساعة الآن 02:42 PM. |
Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 3
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.