جزاك الله خير الجزاء على ماقدمته لنا من جهد
وتقبل الله منك هذا العمل المبارك وأقول نقلاً عن مصادر عدة لتعدد وجهات النظر وتلاقيها لتعم الفائدة التي نرجوها خدمة للجميع :
(وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بـِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)1
ما ينبغي للباحث أن يتنبّه له في المقام أنّ المسألة لم تخل عن الخلط والاشتباه من أوّل ما دارت بينهم ووقعت مورداً للبحث، فاختلط المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبئ به ما عنونّا به المسألة وقرّرنا عليه الخلاف وقول كلّ من الطرفين، لذلك أغضينا عن نقل حجج الطرفين؛ لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط.
والذي ينبغي أن يُقال: إنّ القرآن يدلّ على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، وأمّا هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.
أمّا الجهة الثانية: فإنّ الآية بقرينة صدرها وذيلها وما تتلوها من الآيات إنّما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم والمتشابه، وتفرّق الناس في الأخذ بها، فهم بين مائل إلى اتّباع المتشابه لزيغ في قلبه، وثابت على اتّباع المحكم والإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه. فإنّما القصد الأوّل في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم وطريقتهم في الأخذ بالقرآن ومدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين وطريقتهم وذمّهم، والزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأوّل، ولا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلاّ وجوه غير تامّة، فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله: وما يعلم تأويله إلاّ الله من غير ناقض ينقضه من عطف واستثناء وغير ذلك. فالذي تدلّ عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى واختصاصه به. لكنّه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدلّ على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب، قال تعالى: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إلاّ اللهُ)5 ، وقال تعالى: (إنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ)6 ، وقال تعالى: (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلاّ هُوَ)7، فدلّ جميع ذلك على الحصر. ثمّ قال تعالى: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبـِهِ أحَداً * إلاّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُول)8 ، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره وهو من ارتضى من رسول، ولذلك نظائر في القرآن.
أمّا الجهة الأولى وهي جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، فإنّه تعالى قال: (إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتاب مَكْنُون * لا يَمَسُّهُ إلاّ الْمُطَهَّرُونَ)9 ولا شبهة في ظهور الآيات في أنّ المطهّرين من عباد الله يمسّون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون والمحفوظ من التغيّر، ومن التغيّر تصرّف الأذهان بالورود عليه والصدور منه، وليس هذا المسّ إلاّ نيل الفهم والعلم، ومن المعلوم أيضاً أنّ الكتاب المكنون هذا هو أُمّ الكتاب المدلول عليه بقوله تعالى: (يَمْحُو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبـِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)10 وهو المذكور في قوله: (وَإنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ)11.
وهؤلاء قومٌ نزلت الطهارة في قلوبهم، وليس ينزلها إلاّ سبحانه، فإنّه تعالى لم يذكرها إلاّ كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى: (إنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)12، وقوله تعالى: (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)13، وما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلاّ منسوبة إلى الله أو بإذنه، وليست الطهارة إلاّ زوال الرجس من القلب، وليس القلب من الإنسان إلاّ ما يدرك به ويريد به، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها وإرادتها وزوال الرجس عن هاتين الجهتين، ويرجع إلى إثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقّة من غير ميلان إلى الشكّ ونوسان بين الحقّ والباطل، وثباته على لوازم ما علمه من الحقّ من غير تمايل إلى أتباع الهوى ونقض ميثاق العلم، وهذا هو الرسوخ في العلم، فإنّ الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلاّ بأنّهم مهديّون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة، فقد ظهر أنّ هؤلاء المطهّرين راسخون في العلم.
هذا، لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان، فإنّ المقدار الثابت بذلك أنّ المطهّرين يعلمون التأويل، ولازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم، لما أنّ تطهير قلوبهم منسوب إلى الله وهو تعالى سبب غير مغلوب، لا أنّ الراسخين في العلم يعلمون التأويل بما أنّهم راسخون في العلم، أي أنّ الرسوخ في العلم سبب للعلم بالتأويل فإنّ الآية لا تثبت ذلك، بل ربّما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: (يَقُولُونَ آمَنّا بـِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) وقد وصف الله رجالاً من أهل الكتاب برسوخ العلم ومدحهم بذلك وشكرهم على الايمان والعمل الصالح في قوله: (لكِنِ الرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بـِما أُنْزِلَ إلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ)14. ولم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب)15.
والحاصل أنّ الآية ليست بصدد إثبات أنّ الرسوخ في العلم سببٌ للعلم بالتأويل كما تصوّره القائلون بأنّ الواو للعطف، لذا لا يثبت أنّ كلّ راسخ في العلم عالم بالتأويل بالضرورة، وإنّما الثابت أنّ العلم بالتأويل سبب للرسوخ في العلم.
ــــــــــــــــــ
(5) النمل: 65.
(6) يونس: 20.
(7) الأنعام: 59.
(8) الجنّ: 26 – 27.
(9) الواقعة: 77ـ 79.
(10) الرعد: 39.
(11) الزخرف: 4.
(12) الأحزاب: 33.
(13) المائدة: 6.
(14) النساء: 162.
(15) الميزان في تفسير القرآن: ج3 ص49.
تقبل فائق التقدير والإحترام