يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا النساء (1)
هذه الآية هي أول آية في سورة النساء ، وسورة النساء هي السورة الرابعة في المصحف ، سورة الفاتحة ثم سورة البقرة ثم سورة آل عمران ثم هذه السورة وهي سورة النساء ، النصف الثاني من القرآن يبدأ من سورة مريم ، والسورة الرابعة من النصف الثاني من القرآن هي سورة الحج ، مريم ثم طه ثم الأنبياء ثم الحج ، وسورة الحج أول آية فيها { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }الحج1 ، فكلتا الآيتين أمرتا بالتقوى ، وأمرتا من ؟ أمرتا الناس .
الآية التي في سورة النساء أمرت بالتقوى من حيث مبدأ الإنسان
{ الَّذِي خَلَقَكُم } هذا هو الابتداء ، سورة الحج أُمر فيها بالتقوى من حيث نهاية الإنسان {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } ، فدل هذا على أن العبد مأمور بتقوى الله عز وجل من حيث المبدأ إلى أن يتوفاه الله عز وجل ، لم ؟ لأن التقوى هي نجاته ، ولذا نادى الجميع { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } من هم الناس ؟
نحن البشر ، لماذا سُمِّينا بالناس ؟ سُمِّينا بالناس لثلاثة معاني :
المعنى الأول : من النسيان ، ونحن ننسى ، وقد نسي أبونا آدم عليه السلام ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( نسي آدم فنسيت ذريته ) قال عز وجل {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }طه115 ، والنسيان يجري للجميع ، وقد جرى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصلاة كما في الصحيحين فقال ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني )
المعنى الثاني :
مأخوذ من الحركة ، ولذا أم زرع لما أثنت على أبي زرع من أنه كريم ، قالت ( أناس من حلي أذني ) يعني أعطاها من الحلي إلى درجة أن الحلي الذي يكون في أذنها يتحرك إذا مشت ) والحركة فينا ، ولذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله " إن الإنسان متحرك بطبعه ، لابد أن يتحرك إما إلى خير وإما إلى شر ، يتحرك إما بالقول وإما بالفعل ، ولذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم ( أصدق الأسماء حارث وهمَّام ) لماذا حارث وهمَّام هما أصدق الأسماء ؟
لأنه ما من أحد إلا ويهم ويحرث ، يعني يهتم بشيء ثم هذا الشيء يخرجه في واقعه ، ولذلك عبارة السلف ( النفس إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية ) ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله " إن النفس كالرحى الدائرة التي لا تقف "
ولذلك كان معنى الحركة في الناس مناسبا .
المعنى الثالث :
أنه مأخوذ من الأنس ، لأن بعضنا يأنس ببعض ، ونسأل الله عز وجل أن يبلغنا إلى الأنس الذي هو أعظم وأعظم وهو الأنس بذكر الله عز وجل وطاعته ، ابن آدم يأنس بأخيه أو بصاحبه ، وهناك من البشر ممن وفقه الله عز وجل يأنس بربه ، معه أحد من البشر أو لم يكن معه أحد ، يأنس بالله عز وجل وهذه أعلى المقامات .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ } هذا نداء لجميع الناس { اتَّقُواْ رَبَّكُمُ }
ما هي التقوى ؟
التقوى هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره واجتناب نواهيه .
وقال بعض العلماء – وهو داخل في هذا المعنى – هي ترك الذنوب ، كما قال الشاعر :
خلِّ الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك هو التــقوى
واعمل كماشٍ فوق
أرض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصــى
وقال بعض العلماء :
"هي أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وتترك المعصية على نور من الله تخاف عقاب الله "
والتقوى لو نظرنا في كلام الله عز وجل لوجدنا أن لها آثارا ومنافع كثيرة طيبة ، أذكر لكم بعض الأشياء وإنها لكثيرة جدا ، حين نقلب المصحف من أجل أن ننظر إلى الآيات المتعلقة بالتقوى سنجد أن هناك ثمارا وفوائد كثيرة ، فمن فوائد التقوى مما ذُكر في كلام الله عز وجل أن الإنسان ينتفع بالقرآن ويهتدي به ، قال عز وجل { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }البقرة2
ومن فوائد التقوى :
العلم ، قال عز وجل { وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ }البقرة282 ،
وقال تعالى {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ }الأنفال29
ومن فوائد التقوى :
تيسير الأمور ، قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً }الطلاق4.
ومن فوائد التقوى :
مغفرة الذنوب ، قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً }الطلاق5.
ومن فوائد التقوى :
وجود المخرج من الهموم والمشاكل والمشاغل ، قال تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً }الطلاق2
ومن فوائد التقوى :
نزول البركات ، قال تعالى { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ }الأعراف96
ومن فوائد التقوى :
معية الله عز وجل التي يعين بها العبد وينصره ويؤيده { وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ }البقرة194
ومن فوائد التقوى :
أنهم أهل الصدق ، قال تعالى {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }الزمر33
ومن فوائد التقوى :
العاقبة الطيبة ، قال تعالى { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }الأعراف128
ومن فوائد التقوى :
أنها سبب للفلاح ، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }آل عمران130
وفوائد التقوى كثيرة ، لكن تحتاج إلى أن تقرأ بتأمل .
وهذه التقوى أمر الله عز وجل بها من كان قبلنا ، قال تعالى { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ }النساء131، وما من رسول كما في سورة الشعراء إلا ويقول لقومه { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }الشعراء108.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ } يعني من ربَّاك ، من أعطاء ، من منحك ، هو الذي يستحق أن يُتقى ، ومن أحسن إليك فإنك تقابله بالإحسان ولا تقابله بالإساءة ، وقد أحسن الله عز وجل إلى الخلق ، ولا يمكن أن ينفك أحدٌ عن التقوى ، فكل إنسان تقي ، كيف ؟ من لم يتق الله عز وجل اتقى غيره ، ولذا كان لزاما على العبد أن يتقي الله عز وجل حتى يسلم من تقوى غيره ، لأن تقوى غيره لا خير فيها ولا بركة ، وإنما فيها الذل والهوان والخسران .
من هو هذا الرب ؟ { الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } ما هي ؟ آدم عليه السلام ، والخلق على أربعة أصناف :
أولا : من لم يُخلق لا من أم ولا من أب ، وهو آدم عليه السلام .
ثانيا : من خُلق من أب دون أم ، وهي حواء عليها السلام ، خلقت من آدم عليه السلام ، كما قال عليه الصلاة والسلام كما عن مسلم ( إن المرأة خُلقت من ضِلع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه )
ثالثا : مَنْ خُلق مِن أم دون أب ، وهو عيسى عليه السلام .
رابعا : وهم بقية البشر خلقوا من أم وأب .
{ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }
فكلنا مخلوقون من آدم عليه السلام ، هل هناك فضل لأحد على أحد من حيث النسب ؟ لا ، الآية تقول إن الكل يرجع إلى آدم عليه السلام ، إذاً كيف يفضل بعض الخلق على بعض ؟ بما ذُكر في أول الآية { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ} ولذلك لما ذكر عز وجل الشعوب والقبائل { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13 ، فكلما كان الإنسان تقيا كلما كان كريما عند الله عز وجل ، وإذا أكرمه الله عز وجل فإنه سبحانه وتعالى يذلل قلوب عباده لإكرامه
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }
يعني خلق من تلك النفس زوجها وهي حواء ، فهي خُلقت من آدم عليه السلام ، وهي تُعد زوجة له ، وإذا كانت المرأة خلقت من الزوج فما هو واجب الزوج تجاه زوجته ؟
أن يُحسن إليها لأنها خلقت منه {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }الروم21 ، ففي هذا دعوة للأزواج أن يحسنوا إلى زوجاتهم ، لأنهن مخلوقات منهم من حيث الأصل ، ثم أيضا فيه دعوة للبشر أن يتآلفوا وأن يتحابوا فإنهم أخوة ، لم ؟ لأنهم خلقوا من نفس واحدة ، ولما كانوا من آدم وتألفوا منه عليهم أن يتألفوا جميعا وأن يتعاونوا على ما أُمروا به في أول الآية وهي تقوى الله عز وجل { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى }المائدة2
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء }
يعني نشر وفرَّق في الأرض ، كما قال تعالى { وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ } ثم ماذا ؟ { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }المؤمنون79 ، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ }الروم20 ، لكن المرد إلى الله عز وجل .
{ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء }
نكَّر الرجال ليدلل على الظهور والبروز ، ولذلك وصف الرجال بأنهم كُثر { رِجَالاً كَثِيراً } ثم قال {وَنِسَاء} يعني نساء كثر .
ويمكن أن لم يأت بقوله ( ونساء كثيرا ) مع أنه حسب الإحصائيات يقولون إن عدد النساء في هذه السنوات أكثر من عدد الرجال بأربعة أضعاف .
فلم يقل ( نساء كثيرة ) إما لأن الكلمة الأولى تدل على الثانية .
أو أن ذِكر ( كثيرا ) فيما يتعلق بالرجال من باب أن يبين أن الرجال هم الذي يظهرون ويبرزون ويخرجون للناس ، بينما النساء عليهن أن يسكن في بيوتهن وأن يستترن ، ولذلك لم يذكر بأنهن نساء كثيرة
ثم قال عز وجل :
{ وَاتَّقُواْ اللّهَ }
كرر التقوى لأهميتها .
يتبع