ذكريات
في بغداد
القسم الثاني عشر
في بغداد الحبيبة ، بحكم سلوكي ، وعلاقاتي الاجتماعية مع الناس اولا ، ونشاطي السياسي ثانيا اصبح لي اصدقاء من مختلف الطبقات الاجتماعية ، وكنت لا اميز بين هذا وذاك الا بسلوكية الفرد اولا ، وبدرجة ادراكه لواقع نعيش فيه من مختلف الوجوه . مهنة الفرد لا تلعب دورا كبيرا عندي ، بل اخلاقه ، وسلوكيته في علاقاته مع الاخرين ، هي التي تعكس لي ماضيه التربوي. كنت ناجحا والحمد لله في اختيار الاصدقاء ، ولحد هذه اللحظة لم اجد صديقا خانني ، داخل الوطن وخارجه.
في بغداد الحبيبة ، توسعت علاقاتي مع الناس ، بمختلف ارائهم ، وثقافتهم ، وأديانهم ، وقومياتهم ، وطبقاتهم الاجتماعية. نادرا ما اذهب لأي جهة من بغداد ، دون ان اجد لي اصدقاء ، او معارف ، والله اقولها بدون مبالغة.
التقيت صدفة بصديقي داوود الاطرقجي ، وكان حاكما (( في عهدنا نطلق كلمة حاكم لا كلمة قاضي ، لذا ارجو ان تعذروني ان وجدتموني استعمل كلمة حاكم نتيجة التعود ))
دعاني صديقي داوود ، في عطلة نهاية الاسبوع ، بعد صلاة الجمعة ، لتناول طعام الغداء في بيته. والده كان مسؤولا بارزا في الحزب الوطني الديمقراطي ، الذي كان يرأسه كامل الجادرجي رحمة الله عليه.
ذهبت حسب الموعد وتعرفت بوالده ، وبضيفه طبيب الاسنان مهدي محبوبة ، والذي اصبح احد معارفي ، وكنت ازوره في عيادته ، في شارع الرشيد ، بجانب سينما الحمراء ، ومحل دوندرمة ( ايس كريم ) اكسبريس فلسطين.
كما تعرفت في بيت صديقي داؤد الاطرقجي على خاله اسماعيل ، وكان ضابطا ( معاون ) ثلاث نجوم في مديرية أمن بغداد ههههههههه
بعد ثورة 14 تموز نقل الى الشمال ، وقتل في معركة مع الاكراد ، رحمة الله عليه ( لا انسى مواقفه المشرفة اتجاهي ، عندما يلقى القبض علي بسبب نشاطي السياسي ، وأنقذني مرتين من سجن محتم ).
التقيت يوما ، ونتيجة الصدف ، برئيس تحرير صحيفة العالم ، المحامي خليل العباسي ، في شارع الرشيد ، بمنطقة حيدرخانة ، كنا نتحدث ، وجاء الشاعر محمد مهدي الجواهري وسلم على المحامي خليل وبدوري تعرفت عليه ، وجلسنا في مقهى ، واخبره خليل باستلامي رسالة من الفيلسوف جورج برنادشو. ترجاني الجواهري ان اعمل صورة لها ، لأنه يحتاجها في مذكراته ، وعدته خيرا. بعد جلسة قصيرة ، ودعتهما بسبب ارتباطي بموعد مهم.
بغداد كانت تغلي سياسيا ، والنشاط السياسي على اوج عظمته ، واقوى تنظيم سري كان يتزعمه الحزب الشيوعي والذي انقسم على نفسه الى جماعتين : جماعة القاعدة ويرأسها بهاء الدين نوري ، واستقطبوا اكثرية الاعضاء ، وجريدتهم السرية تسمى (( القاعدة )) ، وجماعة الحقيقة يرأسها حسبما اتذكر المحامي عزيز شريف و صحيفتهم السرية هي الحقيقة ، ان لم تخني ذاكرتي . وكانوا يصدروا كراسا شهريا ، اعتقد باسم الحقيقة ايضا. من وجهة نظري كانوا يتحلوا بكادر مثقف ، أدسم علميا بكثير من القاعدة .
كانت تصلني نشراتهم السرية عن طريق المحامي حمزة سلمان ، وكنت اطلع عليها. كما كانت تصلني نشرات القاعدة بانتظام ايضا.
اما على صعيد المعارضة العلنية فهناك حزبان يتحليان بماضي نضالي معروف وهما:
1- حزب الاستقلال ، وهو حزب قومي ، واهم شخصياته : فائق السامرائي ، ومهدي كبة ، رحمة الله عليهما. وهما زعيمان ، لهما وزنهما ، وتاريخهما المشرف ، وكان الشارع بأيديهما.
2- الحزب الوطني الديمقراطي ، وكان يرأسه السياسي المخضرم كامل الجادرجي ، رحمه الله.
العراق كان يغلي سياسيا ، ومن وجهة نظري ، أي حركة من الجيش يكتب لها النجاح.
الحزبان المعارضان متفقان على تغيير الوضع ، ولا يعارضان أي حركة تظهر من الجيش ، او من الشعب ، ولهما في الجيش من يؤيدهما .
كان عدد الامية عندنا كبيرا ، يصل الى 80 % ، الشعب العراقي عاطفي ، وينجرف بسرعة وراء قياداته ، لذا ليس من السهل في حالة أي ثورة ، أن تسيطر على توجيه الجماهير الى ما يخدم مصلحتها ، ومصلحة الوطن.
كنت على موعد مع شخص في محلة راغبة خاتون. كما علمت انه مرسل من قبل الحزب الشيوعي ( جماعة القاعدة ) ، التقيت به وسلمني مناشير تدعو الى مظاهرات خاطفة سيعلن عن مكان المظاهرة من قبل احد الرفاق.
الشخص كان يزودني بكل نشرات وأدبيات الحزب. الشخص اسمه نعوم ذا شاربين شبيهة بشاربي ستالين ، وله دكان صغير في محلة الحيدر خانة ، وهو خريج مدرسة الصنائع.
في احدى لقاءاتي معه ، قال لي : انت يجب ان تتصل بخط الطلبة وضرب لي موعدا في مكان معين في محلة الفضل ، وقال في الوقت المعين ، سيلتقي بك رفيق ويقول لك كلمة السر : الجو حار ، وأنت اجبه بكلمة طشت وسيتم اتصالك بخط طلبة الجامعات. ودعته ملتزما بقوله ، وفي الوقت المعين ، والمكان المعين ، جاء شخص يبلغ من العمر حوالي 28 او 30 عاما ، متوسط الطول ، اسمر اللون ، مملوء الجسم ، وقال لي : الجو حار. الله ينعل الشيطان نسيت أن اقول له طشت قلت له قروانه !!!! وجدته استمر في سيره مسرعا ، وظهر عليه الارتباك. انا كنت اعرف ، أن كلمة السر ترمز الى احدى ادوات المطبخ ، الا اني نسيت الطشت. مشيت باتجاهه بسرعة لأصلح خطئي ، و تقربت اليه وهو مرتبك ومسرع في مشيته ، قلت له جفجير ، ولم ار الا اصبح غزالا في الركض ، خائفا مرعوبا ههههههههههههههههه
ركضت وراءه وصحت ملعقة ، لم اجد الا واصبح طيارة ، انا كنت غارقا بالضحك ، وصحت طنجرة وتوقعت انه سيغمى عليه هههههههه
في الفضل هناك صعود الى البيوت القديمة صحت خاشوكه وهو يركض ، صحت جدرية صار يتعثر وغاب عن نظري وانا غارق بالضحك . وقفت قرب محل وقلت مع نفسي: هل هذا الطرطور وأمثاله يحررون العراق؟ !!!!!!!!!!!!!!!!!!!
ذهبت الى نعوم ( الرفيق المسؤول في الحيدر خانة ) وحدثته بالأمر ، وضرب معي موعدا اخر. التقيت به مرة اخرى ، وقال الحزب بحاجة الى تثقيف ماركسي ، وخولوك ان تلقي محاضرة حول النظرية الماركسية في الاسبوع القادم ، في اجتماع سري موسع. سألته ما تقصد بالاجتماع الموسع ؟ اجابني اربع خلايا او خمسة يجتمعون سوية ، ونريد منك اولا ان تشرح لهم افتتاحية جريدة الحزب (( اتحاد الشعب )) ثم كلمة تثقيفية منك حول الماركسية اللنينية. اجبته خيرا ، واتفقنا على موعد قرب ساحة حافظ القاضي في يوم ووقت حدده هو.
قرأت مقدمة جريدة القاعدة وفهمتها ، وفكرت ان اشرح لهم حول الحركة البروليتارية ومقوماتها بعد ثورة اكتوبر. التقيت حسب الموعد بصاحبي ، ومشيت معه قليلا ، وقال في هذا البيت الطابق الارضي على اليسار دق الباب ، وسيفتح رفيق الباب وودعني. دخلت البيت وطرقت الباب حسب وصفه لي ، فتح شاب طويل القامة الباب ورحب بي ، دخلنا غرفة كبيرة فوجدت حوالي 20 شخصا ، حييتهم ورحبوا بي بحرارة. وجدت الشجاعة مرسومة على وجوههم ، ويبان عليهم لا يخافوا الموت. شعرت في داخلي بالفخر لوجود ابطال علم وشجاعة ، وازداد تفاؤلي.
الغرفة الواسعة التي اجتمعنا بها فيها شباكان كبيران يطلان على صحن البيت ( الحوش )
بدأت في المحاضرة ، شارحا لهم بشكل مبسط افتتاحية جريدة القاعدة ، ثم حول الحركة البروليتارية ومقوماتها بعد ثورة اكتوبر. ابان الشرح لم اجد الا احدهم يرمي نفسه من الشباك ويهرب ، وتبعه الاخر ، ثم الاخر ، وحدث ارتباك مخيف. حالا عرفت ان البيت كبس من قبل الشرطة ، وقفزت من الشباك ، وقلت يا ربي نجنا من هذه الورطة هههههههه ولم اجد الا عوينات تحت قدمي لاحد الرفاق ، واتجهت للباب الرئيسي ، لأنجو بنفسي ، بيد اني لم اجد اثرا للشرطة !!! ورأيت المسؤول الذي فتح لي الباب و سألته ما جرى ؟ اجابني كنا نصغي لك ، وصدفة عطس احدهم واعتقدنا أن الشرطة داهمتنا ، ولكن الحمد لله لم يصب احدنا بسوء والجميع بأمان.
قلت له:
أأنتم سوف تحرروا العراق يا طراطير ؟!! تركتهم اضحك على الحدث وعلى نفسي ههههههه
اخوكم ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع