مع وديع فلسطين: الأديب والصحفي
حاوره: سعد العتيبي
ــــــــ
[نشر هذا الحوار في جريدة "المسائية" السعودية في العددين 4283 ، 4289 في 26 مارس 1996م، و2 أبريل 1996م].
(1)
يحار المرء عندما يود أن يقدم شخصية لها مكانتها الرفيعة في حياتنا الأدبية المُعاصرة، ذلكم هو الصحفي والأديب الأستاذ وديع فلسطين أحد الذين كانت لهم صولات وجولات في صحافة الأربعينيات من هذا القرن، فمن يتصفّح مجلدات "المقتطف" أو"الرسالة" أو"الأديب" سيجد أن الأستاذ وديع فلسطين كان من أبرز الكتاب وأغزرهم إنتاجا، كما شارك بمقالاته ودراساته في العديد من المجلات الأدبية والثقافية في مختلف أرجاء الوطن العربي، إضافة إلى ذلك فهو يتمتع بذاكرة عجيبة تستطيع أن تتذكر حوادث موغلة في القدم، وقد أطلق عليه أحد الأدباء لقب "سفير الأدب المعاصر"( )، ويقول عنه صديقه الأستاذ عبد العزيز الرفاعي: "والوديع كاتب عملاق، واسع الثقافة، رحب الاطلاع، قلّما يصدر كتاب ذو بال في اللغة العربية أو الإنجليزية إلا ولديه عنه علم، أو له به اطلاع، أو عليه فيه نقد أو تعريف".
كما أنه يعد من أصدقاء العقاد الخُلّص، وفي هذا اللقاء سوف نعرف رأيه في الذين يُحاولون النيل من الأستاذ العقاد، كما سنعرف رأيه في قضايا وموضوعات تشغل الساحة الثقافية. ومع أن الأستاذ وديع فلسطين لا يسعى إلى الأضواء إلا أننا استطعنا أن نظفر منه بهذا اللقاء الثري، والذي خص به جريدة "المسائية".
والأستاذ وديع فلسطين من مواليد 1923م في محافظة سوهاج بصعيد مصر، حصل من الجامعة الأمريكية بالقاهرة على درجة "البكالوريوس" في الأدب مع التخصص في الصحافة عام 1942م، وعمل بعد تخرجه في إدارة جريدة الأهرام، ثم انتقل إلى جريدة "المقطـم" حيث عمل في وظائف تحريرية مختلفة إلى أن اختير عضوا في مجلس تحرير وإدارة الجريدة ومعها مجلة "المقتطف"، وذلك إلى ما قبل إغلاقها عام 1953م، رأس تحرير مجلة "الاقتصاد والمحاسبة" التي كان يصدرها نادي التجارة الملكي، قام بتدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بين عامي 1948-1957م، أنشأ مع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجي "رابطة الأدباء" عام 1945م، اختير عضوا مراسلا لمجمعي اللغة العربية في دمشق وعمّان، وعمل مراسلا لمجلة "قافلة الزيت" السعودية، و"الأديب" البيروتية، وله أكثر من ستة عشر كتابا مطبوعا ما بين تأليف وتحقيق وترجمة.
حصل على جائزة فاروق الأول للصحافة الشرقية عام 1949م، ونيشان الاستحقاق المدني من طبقة كوماندور الممنوح من إسبانيا عام 1952م.
*الأستاذ وديع فلسطين، متى بدأت مشوارك مع الكلمة؟
-بدأت مشواري مع الكلمة منذ تخرجت من الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 1942م، وبيميني شهادة على أنني أحمل درجة البكالوريوس في الأدب مع التخصص في الصحافة، وهي شهادة لم يكن كثيرون يحملونها، لأن معاهد الصحافة في العالم العربي تأخر إنشاؤها، ولأن الصحافة في ذلك العهد كانت "صحافة اجتهاد" أكثر منها صحافة تأهيل جامعي في هذا التخصص بالذات. والواقع أنني جربت حظي في الكتابة حتى قبل التخرج لأنني نشرت وأنا طالب مقالات في جريدة "الدستور" اليومية، وفي مجلة "اللطائف المصورة" الأسبوعية، وفي مجلة "الطلبة" التي أصدرها طلاب الجامعات في ذلك الوقت، كما أن جامعتي اختارتني رئيسا لتحرير مجلتها "القافلة" فتمرست فيها على الكتابة.
وكان السؤال الذي واجهني عند تخرجي هو: من أين أبدأ؟ فالتجارب العملية مازالت محدودة إن لم تكن منعدمة، وميادين الكتابة تُحتم الإجادة أسلوبا وموضوعا، وهو ما لا يسعني فيه أن أُجاري فيه الفحول في ذلك الوقت، وثقافتي الأفرنجية جعلتني مبتدئا في فنـون الأدب العربي، فالتمست جوابا على هذا السؤال في الترجمة، أي أن آخذ مقالا أو عملا أدبيا لكاتب غربي راسخ القدم فأنقله إلى اللغة العربية مجوِّدا في أسلوبي قدر المُستطاع، ثم أبعث به إلى المجلات الأدبية بالبريد موقعا بعبارة "بكالوريوس في الصحافة" لإحداث الأثر المطلوب في رؤساء التحرير. وكنت أخاف من مواجهتهم بنفسي خشية أن يروا في صغر سني ما يزهدهم في نشر مقالاتي. وهكذا نشرت في "رسالة " الزيات أول مقال لي عام 1943م عن المسرحي النرويجي هنريك إبسن، ونشرت في مجلة "المقتطف" في السنة عينها أول قصة ترجمتها، وكان عنوانها "كف القرد"، وظللت أتوكأ على الترجمة وعلى رخصة "البكالوريوس" عامـين أو ثلاثة كنت في أثنائها أعكف على لغتي العربية بالإجادة والصقل، وأعكف على المُطالعات العربية حتى أُقيم ما يُمكن أن أُسميه "بالبنية الأساسية" اللازمة لمن يشتغل بالصحافة ويطل منها على ميادين الأدب الفسيحة. ومع الوقت، ومع الجهد والمثابرة، أفلحت في الدخول إلى عالم كنت أتهيبه، وبت أطل بوجهي على رؤساء التحرير عوضا عن التوسل بالبريد إليهم.
*في أواسـط الأربعينات عملت محررا في مجلة "المقتطف"، فكيف وجدت الفرق بين صحافة الأمس وصحافة اليوم؟ وهل لعبت "المقتطف" دوراً مهما في إثراء حياتنا الأدبية المُعاصرة؟
-مجلة "المقتطف" التي صدرت أصلا في بيروت في عام 1876م، ثم نقلت إلى القاهرة بعد ذلك سبقت في الصدور جريدة "المقطم" التي بدأ نشرها في القاهرة عام 1888م بثلاثة عشر عاما. وكانت الأولى مجلة شهرية تُعنى في المقام الأول بالعلوم والصناعة في حين كانت الثانية جريدة يومية مسائية جامعة، تعنى بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب، وكل ما تنشغل به جريـدة سيارة من أمور الحياة اليومية وأحداثها في الداخل والخارج.
وكانت المجلة والجريدة يصدران عن "دار المقتطف والمقطم" لأصحابها الدكتور فارس نمر باشا والدكتور يعقوب صروف وشاهين مكاريوس. وعندما عملت في هذه الدار في أول مارس 1945م ـ بعدما قضيت ثلاث سنين في جريدة "الأهرام" موظفا إداريا على رغبتي الشديدة في التحول إلى أقسام التحرير ـ وجدت في الدار شيوخا أجلاء اكتسبوا خبرة عريضة في فنون الصحافة وميادينها، فهناك الدكتور فارس نمر باشا الباقي على قيد الحياة من مؤسسي الدار، وهناك خليل تابت بك المدير العام للدار، وهناك الدكتور فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة "المقتطف"، وهناك كريم ثابت باشا رئيس تحرير "المقطم": هؤلاء الأعلام كانوا مدرسة حقيقية، وكل من عمل معهم استطاع أن يحصل من المعارف والتجارب وخبرة العمر الطويـل مالا يستطيع تحصيله في سنوات مديدة، وكان أربعتهم يؤمنون بتواصل الأجيال، فكانوا يحرصون دائما على نقل كل ما يعرفونه إلى مساعديهم، وذلك بتوجيههم الدائم، وتصويب أخطائهم، وتقديمهم إلى المسؤولين في الدولة لكي ييسروا لهم عملهم، ولم يكونوا يضنون عليهم بما يكسبهم القدرة على تولي المسـؤوليات بأنفسهم متى اكتملت لهم أدواتهم. كما كان لهؤلاء الشيوخ إشراف فعلي على كل صغيرة وكبيرة في الجريدة. بل إن خليل تابت بك كان يقوم بنفسه بتصحيح الإعلانات المبوبة والخطب الرسمية لكي يطمئن إلى خلوها من أي خطأ لغوي. فرسالة الصحافة عندهم كانت رسالة أمانـة يتوخون بها تثقيف القارئ، وتهذيب ذوقه، وتعويده على سلامة اللغة، وتبصيره بالحقائق المجردة من الهوى.
وكانت جريدة "المقطم" هي الثانية من حيث طول العمر بعد جريدة "الأهرام"، ولما سألت الدكتور فارس نمر باشا لماذا أطلق على جريدته اسم جبل "المقطم" قال إنـه أراد أن يوحي للقراء بأن جريدته هي الأصل، لأن الحجارة التي شُيدت بها أهرام الجيزة اقتطعت من جبل المقطم، ولم تكن بين الجريدتين منافسة؛ لأن "الأهرام" تصدر في الصباح، في حين أن "المقطم" تصدر بعد الظهر، ولكل منهما سوقها، وإن تكن سوقا واحدة تتمثل في موظفي الحكومة الذين يشترون "الأهرام" وهم ذاهبون إلى مكاتبهم في الصباح، ويشترون "المقطم" وهم منصرفون من مكاتبهم في الساعة الثانية بعد الظهـر. وفي حين كان الاهتمام الأول "للأهرام" منصبا على الأخبار، فإن "المقطم" كانت تركز على شرح هذه الأخبار في مقالات الصدر الضافية التي كان يكتبها خليل تابت يوميا، وتظهر على الصفحة الأولى، وتُنشر ذيولها في الصفحات الداخلية.
أما مجلة "المقتطف" فكانت مجلة علمية في بدايتها، ولم تلبث أن صارت تُعالج جميع الموضوعات الفكرية، وتتسع للشعر وللقصص ونقد الكتب الأدبية، وتحاول إرضاء أذواق المثقفـين أيا كانت اهتماماتهم، واجتذبت المجلة في تاريخها الطويل جميع أقلام الباحثين من أنحاء العالم العربي والمـهاجر، وفهارسها المنشورة في ثلاثة مجلدات ضخمة تشهد على أن كل الأعلام في عمرها الذي امتد إلى 77 عاما قد نشروا فيها نفثات أقلامهم.
وكانت صحافة تلك الأيام تُنضَّد إما بحروف منفصلة يتم جمعها من صندوق للحروف يضم المئات منها، وإما من آلات "اللينوتيب" التي أدخلت في مصر للمرة الأولى والتي كان لصاحب "الأهرام" جبرائيل تقلا باشا فضل إقناع شركات المطابع الألمانية بصنعها، بحيث تعمل من اليمين إلى اليسار لا العكس، وكان قد أعد نماذج للحروف العربية لتقوم المصانع الألمانية بإحلالها محل الحروف الإفرنجية. أما المطابع نفسها فكانت سرعتها بالمقارنة بسرعة المطابع الحالية بطيئة. وانفردت مطبعة "المقطم" بإخراج الجريـدة مطوية إلى ما يُعادل ربع الطية الآلية لمعظم الصحف، أي في مقاس كتـاب سهل الحمل، وكانت لكل جريدة شخصيتها الخاصة، كما كان لكل كاتب أسلوبه الذي يتميز به؛ بحيث يستطيع القارئ أن يُميِّز أسلوب خليل تابت عن أسلوب أنطون الجميل، وأسلوب عبد القادر حمزة وأسلوب الدكتور محمد حسين هيكل باشا، في حين انتشر اليوم ما يمكن تسميته "بالأسلوب الصحفي" الذي يتعاطاه جميع الصحفيين، فتصعب التفرقة بين كاتب وكاتب.
والمؤكد أن الصحافة تقدمت اليوم في المجالات الفنية والطباعة، وفي سرعة انتقال الأخبار والاستعانة بالأقمار الصناعية في إعداد طبعات دولية وإقليمية، وهو ما لم تعرفه صحافة الأربعينيات والخمسينيات، فصارت الصحف اليوم إمبراطوريات بالمقارنة بالصحف في النصف الأول من هذا القرن. أما التحدي الأكبر الذي يواجه الصحافة اليوم فهو أن تكون صحافة مستقلة لا صحافة تابعة، وأن تُدرك أننـا في عالم مكشوف لا تخفى فيه خافية، وأن تتوافر أساسا على خدمة القارئ ورعاية مصالحه، وتمكينه من رفع صوته تعبيرا عن رأي ارتآه، أو شكوى من جور لحق به.
وفيما يتعلق بمجلة "المقتطف" التي يسمونها "بشيخة المجلات" فقد حملت راية العلم والعرفان سبعة وسبعين عاما، وكان البعض يصفها "بالمجلة الأستاذ" لأنها وسعت جميع علوم العصر، ولم تضـق بفن من الفنون، وإن حرصت على اجتناب كل ما يتناول العقائد وكل ما يتنافى مع الأخلاق، حتى رفض أصحاب "المقتطف والمقطم" نشر الإعلانات "المجزية ماديا" عن الخمور، حرصا منهم على مكـارم الأخلاق، كما أن "المقتطف" لم تحاول أبدا الترخص في الموضوعات التي تعالجها، فقد تكتب عن السينما باعتبارها صناعةً وتطوراً تكنولوجيا، ولكنها لا تعنى بالمشتغلين بالسينما من ممثلين وممثلات بالغة ما بلغت شهرتهم، كما أنها قد تُعرِّف بالمذاهب السياسية ـ ولكنها لا تُروِّج لأي منها ـ وتوضح مزايا وعيوب كل مذهب.
لقد كانت المجلة سجلا أمينا للعصر بعلومه وفنونه ومكتشفاته وآرائه وأعلامه وفلسفته. ولعل هذه الجدية الصارمة هي التي قضت على المجلة في ديسمبر 1953م بعدما زحفت التيارات السوقية فأطاحت معها بمجلات "الرسالة" للزيات، و"الكاتب المصري" لطه حسين، و"الكتاب" لعادل الغضبان، و"الثقافة" لأحمد أمين، و"مجلة علم النفس" ليوسف مراد، وبئست هذه السوقية!
*بعد عودتك مؤخرا للكتابة كيف وجدت صدى كتاباتك؟
-يُفهم من هذا السؤال أنني كنت محتجبا عن الكتابة وأنني عدتُ إليها مؤخرا. وواقع الأمر أنني لم أحتجب عن الكتابة يوما واحدا منذ ما حملت القلم وإلى يوم الناس هذا. وإذا كنت أملك أن اكتب في الوقت الذي أرتئيه، فإنني لا أملك وسائل النشر لأنها في أيدي أقوام آخرين. وهؤلاء يتحكمون في النشر وفقا لاعتبارات لا أملك من أمرها شيئا، فقد يُرجئون النشر شهورا بل أعواما، وقد يرفضون النشر بعذر "دبلوماسي" أو بدون عذر، كما أنهم يقيسون قامة الكتاب بمقاييسهم هم، ورأيهم هو الأمر النافذ، وإذا كنت ممن يدينون بقول الشاعر:
عَرضنا أنفساً عزَّتْ علينـا عليكم ، فاستخفَّ بها الهَوانُ
ولوْ أَنًّا حفِظْناها لعَــزَّتْ ولكـنْ كلُّ معروضٍ مُهـانُ
ولعل "العودة" التي يُشير إليها السائل هي استئنافي لكتابة "الأحاديث المستطردة" عن الأعلام الذين عرفتهم، والتي بدأتها في مجلة "الأديب" اللبنانية منذ خمسة وعشرين عاما، والتي صارت تُنشر في جريدة "الحياة" اليومية التي تصدر في لندن، وقد استأنفت كتابتها نزولا على رغبة هذه الجريدة المحترمة وترحيبا بالحيز العريض في صفحاتها الذي أتاحتـه لي، وليس من باب التفاخر أن أذكر أن أستاذنا العلامة الكبير الدكتور صلاح الدين المنجد، منشئ معهد المخطوطات في الجامعة العربية قد أخبرني بأنه يحتفظ بملف يضم هذه الأحاديث المستطردة، وهي شهادة تفوق عندي كل نياشين الدنيا وجوائزها.
ولعل العودة التي يعنيها السائل هي صدور كتابين لي في الأوان الأخير، أحدهما طبعة ثالثة من كتابي القديم "قضايا الفكر في الأدب المعاصر" وقد نشرتها دار الجديد في لبنان، والثاني كتاب "مختارات من الشعر العربي المعاصر وكلام في الشعر"، وقد نشرته لي دار "الأهرام" عن مركزها للترجمة والنشر، والكتابان حصيلة مطالعات كثيرة في الأدب المعاصر ظلت حبيسة في الصدر إلى أن أُتيحت لها فرصة الظهور ببادرة كريمة من الدارين الناشرتين، ولولا هذه المبادرة لظلت هذه الحصيلة حبيسة مع سواها مما لم تتح له أسباب النشر.
ومما يُؤسف له أن معظم الناشرين قد انحسر نشاطهم في النشر لاعتبارات شتى، منها ارتفاع تكاليف النشر، وما يُصاحب ذلك من ارتفاع أسعار الكتب فيتعذر عـلى طالبيها شراؤها، ومنها العقبات التي تعترض تسويق الكتب في البلاد العربية؛ ومنها الرسوم والضرائب المفروضة على عمليات تجهيز الكتب ومستلزماتها. ولو أنك طفت بكتاب تريد نشره على دور النشر المختلفة لقوبلت بالصدِّ حتى دون معرفة موضوع الكتاب، حتى لقد شكا لي أدباء كبار مثل محمــد عبد الغني حسن وعلي أدهم وحسن كامل الصيرفي ـ رحمهم الله ـ بأنهم لا يجدون لكتبهم ناشرا.
*ماذا عن كتاب "مختارات من الشعر العربي المعاصر وكلام في الشعر"؟
-في محاولة من مركز الأهرام للترجمة والنشر لتحقيق التواصل والألفة بين الأدباء العرب، أصدر من نحو عامين كتابا يضم مختارات من القصص كتبها أدباء من جميع البلدان العربية، وقدم لها أستاذنا الدكتور الطاهر أحمد مكي، وإزاء نجاح هذه التجربة ارتأى المركز إصدار كتاب يضم مختارات من الشعر المُعاصر من جميع الأقطار العربية، وأُسندت إليّ مهمة إعداده، فانصرفت إلى مراجعة بضع مئات من دواوين الشعر لعدد كبير من شعراء البلدان العربية لانتقاء القصائد الملائمة، وإني راعيت فيها عدة اعتبارات هي: تنوع الأغراض، وتباين الشعراء من حيث انتماءاتهم، وتمثيل جميع البلدان العربية ـ إن كان هذا مُستطاعا ـ. وبعد اختيار القصائد ترجمت لكل شاعر ترجمة موجزة، ثم علقت على كل قصيدة مُنتقاة وفقا لذوقي الخاص، ثم أعددت للكتاب مقدمة تبين رأيي في الشعر، وهو رأي يرفض كل ما خرج على نواميس الخليل تحت أي أسماء أو مسميات؛ فإذا أنت أردت أن تلعب كرة القدم ـ مثلا ـ فللكرة قواعد لابد من احترامها، وإلا أُخرجت من ساحة اللعب. فلماذا تُستباح إذن قواعد الشعر بدعوى التجديد أو الحداثة أو الإبداع؟
ولإعطاء فكرة عن الكتاب، أُورد بعض الأرقام المتعلقة به: فهو يقع في 400 صفحة، وفيه نماذج شعرية لخمسة وثلاثين شاعرا من 19 بلدا عربيا، ويضم النص الكامل لمئة واثنتي عشرة 112 قصيدة، مع تعليق على كل منها.
ومع أنني عرفت شخصيا عددا غير قليل من شعراء المملكة العربية السعودية فقد وقع اختياري على الشاعر أحمد سالم باعطب لأنه يمثل صوتا جديدا متميزاً، وإن لم أعرفه شخصيا.
*ما الفرق بين الترجمة والتعريب؟ وهل تعتقد أن الترجمة تراجعت في الوقت الحاضر؟
-الترجمة هي نقل نص من لغة إلى لغة أخرى بحرفيته.أما التعريب فهو في الألفاظ، يعني إسباغ ثوب عربي على لفظة أجنبية، كتعريب لفظة "ستالايت" وتعني القمر الصناعي إلى "سواتل".
والتعريب في النصوص هو أن آخذ مسرحية أجنبية مثلا وأستبدل بشخوصها الأجانب شخوصا عربية وأُغيِّر أسماء المواقع والمـدن إلى أسماء عربية، وأصوغ الحوار صياغة عربية لا يشترط فيها أن تُطابق النص الإفرنجي، والمسرحيات التي يُقال عنها إنها "مقتبسة" هي في حقيقة الأمر مُعرَّبة، أي أسبغ عليها طابع عربي بعد تجريدها من كل ما يدل على أصلها الإفرنجي.
ولا ريب في أن الترجمة تُعاني من ردة الآن بعد أن كانت مزدهرة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن. وقد يُقال إن سبب انحسار الترجمة هو أن كثرة من القراء باتت تُجيد اللغات الأجنبية، وآثرت بالتالي قراءة النصوص الإفرنجية عن النصوص المنقولة إلى اللغة العربية. وهذا القول ليس صحيحا على إطلاقه، لأن الكثرة الكاثرة من القراء تعتمد أساسا على الكتاب العربي لا الإفرنجي الذي ارتفع سعره ارتفاعا شاهقا، وكانت سوقه تقتصر على طلاب الجامعات وأساتذتها لاسيما في فروع الطب والعلوم وغيرهما من المواد التي مازالت تدرس باللغة الإنجليزية. وقد مرَّ علينا وقت كان فيه أساتذة وقفوا كل عمـرهم على الترجمة، مثل محمد بدران في مصر، وعادل زعيتر في فلسطين، ومنير البعلبكي في لبنان، وكانت هناك مؤسسات متخصصة في ترجمة الكتب مثل مؤسسة فرنكلين، ومشروع "الألف كتاب" في إصداره الأول، وكان هناك مترجمون أفذاذ يُقبلون على التـرجمة باعتبارها رسالة حيوية مثل: فؤاد صروف، وزكي تجيب محمود، وعلي أدهم، وإبراهيم زكي خورشيد، ودريني خشبة، وفؤاد أندراوس، ومحمد عوض محمد .. وغيرهم. ولكن هذه الطبقة الراقية انقرضت وتركت فراغا ضخما في دُنيا الترجمة.
وقد جد اعتبار جديد أسهم في انحسار حركة الترجمة الأدبية والعلمية، وهو انفتاح الأبواب على كل مصاريعها للترجمات التجارية أو الوثائقية أو القانونية الخاصة بالمُعاملات في دنيا المال والأعمال، وقضايا التحكيم وما إليها، فاجتذبت هذه الأعمال بما فيها منظمات الأمم المتحدة جملة كبيرة من الذين يُجيدون الترجمة، ووجدوا في جزائها المادي المعجل مالا يُقارن بأي جزاء يتقاضونه من ترجمة شكسبير، فحدث بسبب ذلك تفريغ للطاقة المُترجِمة التي كان يمكن حشدها في نقل الكتب الأدبية والعلمية.
وهناك اعتقاد خاطئ أن من يعرف لغتين يستطيع الترجمة من لغة إلى الأخرى، ذلك لأن الترجمة ليست عملا آليا يجتهد في أدائه كل صاحب لسانين، بل إن الترجمة علم وفن له قواعده وأصوله وله بالتالي خبراؤه الذين تمرسوا فيه طويلا على أيدي مشرفين وأساتذة كبار حتى استقامت لهم أدواتهم. أقول هذا من واقع التجربة؛ فقد طُلِب إليّ ذات مرة أن أُراجع نصا طبيا ترجمه طبيب متخصص يُجيد اللغتين الإنجليزية والعربية، فألفيته معيبا أشد العيب، واضطررت إلى صياغته من جديد بعد إبقاء المصطلحات الطبية دون تغيير.
وإذا عرفنا أن الكتب الجديدة التي تصدر في فروع المعرفة باللغات المختلفة تصل إلى عشرات الآلاف في كل سنة، عرفنا مدى ضخامة المهمة التي يتعيّن النهوض بها إذا ما أُريدت مُلاحقةُ هذا الحجم الهائل من ثمرات المطابع.
(2)
*ما رأيك في الرسائل الأدبية؟
-الرسائل ـ سواء أكانت أدبية أم غير أدبية ـ هي "مكاتيب" يتبادلها الناس لغاية معينة؛ فالرسالة التي يُوجهها أب إلى ابنه الغائب تمثل لهفة هذا الأب على أخبار ابنه، ونصائحه له، وتشتمل على أخبار الأسرة وزملائه. والرسالة التي يوجهها رجل أعمال إلى شركة أو مصرف هي رسالة تُقضى بها المصالح، وبعضها يُترجم إلى الملايين من الدولارات، والرسالة التي يُوجهها حبيب إلى حبيبته هي وعاء للتعبير عن مشاعره تجاه صاحبته، يبثها فيها كل لواعج قلبه، والرسائل التي يتبادلها الأدباء ـ وهم بشر كأصحاب الرسائل التي تقدمت الإشارة إليهم ـ يُراد بها التعارف، أو تبادل الرأي في قضايا الأدب، أو نقل الأخبار الأدبية، أو استيضاح أمر، أو طلب المشورة في إعداد بحث، وهلم جرا.
ولا تخلو هذه الرسائل ـ طبعا ـ من أمور شخصية، تتوقف درجة المُصارحة فيها على مـدى ما بين الطرفين من وُثقى الصلات. والرسائل الأدبية ـ شأنها شأن الرسائل الأخرى ـ تُرتجل ارتجالا، فهي ليست مقالا معدا للنشر يتعين على كاتبه أن يُراجعه مرة واثنتين وربما أكثر تدارُكا لأي عيب أو نقص فيه، وإنما هي كلام مُرسل، ومفروض ألا يخرج عن دائرة صاحبيه (المُرسل والمستفبِل).
ولا ريب في أن للرسائل بجميع أنواعها خصوصية مطلقة، بحيث لا يصح التلصص عليها، أو الاطلاع على فحواهـا، إلا إذا سمحت بذلك طبيعتها. ولا تخلو الرسائل الأدبية من هذه الخصوصية التي يتحتم معها إبقاؤها في الدائرة المحصورة بين صاحبيها ولاسيما لأن ذيوعها قد يسيء إلى طرفيها أو إلى الأشخاص الذين ترد أسماؤهم في هذه الرسائل.
ولهذا كله كنت ومازلت أعتقد أن من الأصوب إبقاء هذه الرسائل الأدبية ـ إن وُجدت ـ طي الكتمان، فلا يُؤذن بنشرها بدعوى خدمة الأدب، أو للاستعانة بها في تفسير أو تعليل بعض الظواهر الأدبية. وعندما نشر صديقي الشيخ محمود أبو ريّة "رسائل الرافعي" في طبعتها الأولى، اضطـر إلى استبعاد بعض الرسائل، وإلى إخفـاء بعض الأسماء التي وردت في سياقها، حتى لا يتأذى من نشرها من وردت أسماؤهم فيها. وعندما حان موعد نشر الطبعة الثانية كانت دواعي الحرج قد زالت، فنشر أبو ريّة كل ما لديه من رسائل، حتى ما كان استبعده أصلا، ثم وضع الأسماء في مواضعها دون حذف. وهو مايؤكد أن أبا ريّة استشعر حرجا شديداً وهو ينشر هذه الرسائل، وإن كان انتهى قراره إلى نشرها ناقصة ثم كاملة.
وفي اعتقادي أن قيمة الرسائل الأدبية ـ إن كانت لها قيمة ـ هي قيمة ثانوية جدا، بحيث يصعب استخلاص نتائج منها تُفيد الأدب أو تاريخه، أو تلقي أضـواء جديدة على شخصيات كتابها. والرسائل تختلف عن المذكرات أو اليوميـات التي يكتبها صاحبها، فهذه يجوز نشرها إن كانت ذات قيمة حقيقية، وإن لم يكن فيها ما يُسيء إلى أشخاص أحياء.
وصفوةُ القول إنني ما فتئت أرى أن تُدفن رسائل الأدباء بإكرام، وألاّ يُعتبر ما نُشِر منها وثيقة أدبية أو تاريخية يُعَوَّل عليها.
*احتفل مجمع اللغة العربية بدمشق ـ وأنت عضو مراسل به ـ بيوبيله الماسي في أواخر شهر نوفمبر الماضي (1995م)، فهل لك أن تحدثنا عن هذه المناسبة؟
-اليوبيل الماسي هو انقضاء 75 عاما على إنشاء هذا المجمع الموقر على يدي العلامة محمد كرد علي في عام 1919م، وهذه مناسبة لا تتكرر في حياة الأفراد وإن كان يُرجى أن تتكرّر في حياة المجامع. ومجمع دمشق يُلقّب "بأبي المجامع العربية"، لأنه سبـق إلى الوجود جميع المجامع الغربية الأُخرى في مصر والعراق والأردن وتونس والمغرب والسودان وفلسطين.
وقد ارتأى مجمع دمشق برئاسة الدكتور شاكر الفحام أن يحتفل بهذا العيد الماسي احتفالا أكاديميا وشعبيا أيضا يليق بهذه المناسبة الفريدة، فدعا إلى احتفال حظي بالرعاية السامية للرئيس حافظ الأسـد، وشارك فيه ممثلون من معظم البلدان العربية، ولوحظ تخلف ممثلي العـراق والأردن ربما لأسباب غير مجمعية، وعقد المجمع في عيده جلسات صباحية ومسائية تعاقب فيها المحدثون حول المحاور الرئيسية التي تم تحديدها سلفا، وكلها تُعنى بالأوضـاع المجمعية في الماضي والحاضر والمستقبل، والتحديات التي تُواجه المجامع في القرن المقبل.
وأُقيمت هذه الندوات في القاعة الكبرى بمكتبة الأسد، وكانت الدعوة إليها عامة، فشارك فيها جمهور غفير من عشاق الثقافة من الجنسين إسباغا للطابع الشعبي فضلا عن الأكاديمي على هذه المناسبة الفريدة.
ولوحظ في الأحاديث الجانبية التي دارت بين وفود المشاركين أن هناك بلدانا عربية لم تزل تفتقر إلى قيام مجامع فيها، على الرغم من أن لديها قاعدة كبيرة من رجال العلم والأدب يُستطاع بحشدهم تكوين نواة لمـشروع مجمعي، وقد أبديت للزملاء في هذه الأحاديث الجانبية دهشتي لأن السعودية مثلا قد تأخر قيام مجمع لغوي فيها على الرغم من أن فيها كوكبة كبيرة من قادة الفكر، مثل: حمد الجاسر، وعبد الله بلخير، وعبد الله عبد الجبار، ومحمد حسن فقي، وعبد العزيز الخويطر، وأحمد الضبيب، وعبد الله حمد الحقيل، وحسـن عبد الله القرشي، وعلي عبد الله الدفاع، ومحمود عارف، وعبد الله بن إدريس، وعبده يماني، وغازي القصيبي، وفؤاد عبد السلام فارسي، وعبد الله بن خمـيس، وعزيز ضياء، وعبد الله العثيمين، وعبد العزيز التويجري، وعبد المقصود خوجة. ولا ريب في أن قيام مجمع سعودي على أكتاف هؤلاء العلماء يمثل خطوة واسعة في سبيل النهوض بلغة الضاد ومشاركة المجامع اللغوية الأخرى في أعمالها الرامية إلى سك المصطلحات العلمية وتوحيدها، ومعالجة قضايا اللغة العربية، وتحقيق كتب التراث، وغير ذلك من الأنشطة المجمعية.
*هل بقي شيء عن العقاد ـ بعد انقضاء ثلاثين عاما على وفاته ـ مازال مجهولا للناس؟
-كثيرون تناولوا العقاد بعد وفاته ممن كانوا على اتصال وثيق به؛ فظهرت كتب وفصول لمحمد خليفة التونسي، وطاهر الجبلاوي، والعوضي الوكيل، وعامر العقاد، وأنيس منصور، عدا المسلسل التليفزيوني الذي أساء إلى العقاد أعظم إساءة. وكأنما كان هناك سباق بين حواريي العقاد على ظهور كل منهم بمظهر الأقرب للعقاد من سواه والأكثر وقوفا على أسراره وحياته الشخصية من جميع الذين عرفوه.
والعقاد الذي كان يوصف بالكاتب الجبّار والعملاق، هو إنسان يسري عليه ما يسري على أي إنسان آخر من حب وبغض، وفرح وحزن، ونجاح وفشل، وصحة ومرض، وهلم جرا.
وليس من الصواب أن يركز كاتب على ناحية من نواحي العقاد ليرسم له صورة، هي بالتأكيد صورة شائهة، في أذهان القراء. فالتركيز مثلا على "غراميات العقـاد" فيه ظلم شديد لهذا الكاتب العبقري الذي أخرج من نفائس الكتب أكثر من عدد سني عمره. فلسنا ننكـر أن في حياة العقاد "غراميات"، ولعل عددا من الذين كتبوا عنه كانت لهم بدورهم "غراميات". ولكن الإلحاح في هذا الجانب، والتوسع في إيراد أسماء النسـاء اللائي عرفهن العقاد، هو في اعتقادي ابتذال لايصح، مهما قيل من أن الحياة الشخصية للأدباء هي حياة عامة مباحة أسرارها للكافة.
فإن كان هناك شيء مازال خافيا في حياة العقاد ولا يعرفه الناس عنه، فإنني أوثر بقاء هذا الشيء مطويا حتى لا يُساء إلى هذا العملاق بأكثر مما أُسيء إليه. فلنقل لعارفي الأسرار الحقيقيين أو المزيفين: اتقوا الله في الحديث عن أعلامنا، واتركوا الناس يستشفُّون صورهم من كتاباتهم وآثارهم المنشورة، أو فلنقل لهم: من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة!
واليوم يتعرض بيت العقاد للهدم، والقضايا تُتداول في المحاكم لإخلاء البيت من ساكنيه بعد وفاة عامر العقاد وزوجته، وإقامة ناطحة سحاب في مكانه. أما مشروعات تحويل البيت ـ بعد ترميمه ـ إلى متحف للعقاد، فهي مشروعات يُسمعُ عنها ولا يُرى منها شيء عملي.
وإن الباقين على قيد الحياة من أصدقاء العقاد ـ وهم قلة ـ ليأسون لأن الرجل العظيم لا يكاد يكون مذكورا في حياتنا اليومية باستثناء ذلك الشارع العريض الذي أُطلق عليه اسم العقاد في مدينة نصر، وانتشرت فيه المتاجر الضخمة فطغت شهرتها على شهرة العقاد. ولو سُئل الناس اليوم عما يعرفونه عن العقاد لقالوا إنه الشارع الذي يقع فيه متجر كذا، أو مطعم كذا، أو محل أحذية كذا.
*في الذكرى السنوية الثانية لرحيل الأديب عبد العزيز الرفاعي، ما ذكرياتك عنه؟
-كنـت في السبعينيات أنشر سلسلة من المقالات في مجلة "الأديب" اللبنانية عن "الأدب والأحذية"، وهي سلسلة امتدت ست سنين تقريبا، وكنت في أثنائها أنبش في دواوين الشعراء وكتب النثر عن نوادر تدور حول الأحذية أو إشارات إليها على ألسنة الشعراء. وكنت وقتها أتلقى تعليقات كثيرة من أدباء أعرفهم أو أجهلهم، وكل منهم يرفدني بما وقع عليه من سير الأحذية في الكتب، وكان مما تلقيته نسخة من كتاب "فارس مدينة القنطرة" لصديقي القاص السوري الكبير عبد السلام العجيلي مهداة لا منه بل من عبد العزيز الرفاعي مع تنبيه بمراجعة أقصوصة عنوانها "مذاق النعل"، فكانت تلك بادرة أولى من الرفاعي توالت بعدها هداياه من سلسلة "المكتبة الصغيرة" ومطبوعات دار الرفاعي. وكان طبيعيا أن أتجاوب مع هذا الأديب الأريحي بالرسائل المنتظمة التي وقفت منها على سعة اطلاعه وعلى ما اتصف به من أخلاق كأخلاق النبلاء.
أما اللقاء الأول معه فكان من ترتيب المصادفات الجميلة إذ دخلت مكتبة في القاهرة لانتقاء بعض الكتب، فصادفت فيها الشيخ عبد القدوس الأنصاري والأستاذ أحمد الملائكة، وكنت أعرفهما فتبادلت التحية معهما، أما الشخص الثالث الذي كان يُرافقهما فلم أعرف هويته. فبادر الأنصاري بتقديمه إليّ، وكان عبد العزيز الرفـاعي. فتعانقنا ثم تبادلنا حديثا موجـزا وذلك لارتباط كل منا بمواعيد، وحدث بعد ذلك أن الأديب عزيز ضياء قرأ مقالا لي في مجلة "عالم الكتب" السعودية فعلّق عليه في جريدة "عكاظ"، وتساءل في بدايته عما إذا كنت فلسطينيا كما يوحي اسمي بذلك، وبادر الرفاعي بالرد عليه بكلمة كريمة في نفس الجريدة عنوانها: "وديع فلسطين ليس فلسطينيا"، روى فيها قصة هذا اللقاء الأول معه ومع الأنصاري والملائكة.
وتَوَاصَل البريد بيننا دون توقف حتى وهو يصطاف في أسبانيا أو هو يعالج في الولايات المتحدة، بل لقد هاتفني من أسبانيا للاطمئنان على أحوالي أثر الزلزال المدمِّر الذي أصاب مصر، كما تفضل بكتابة كلمة أُخرى عني في مجلة "الفيصل" أجرى فيها موازنة بيني وبين الدكتور زكي مبارك على ما بيننا من بون شاسع.
وكان من دواعي سروري أن أعلم بأنه اختير عضوا مراسلا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة لأن من شأن هذا أن يتيح لنا فُرصا سنوية للقاء بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي للمجمع الذي يشهده الأعضاء المراسلون، ولكن العمر لم يسمح له إلا بحضور مؤتمر وحيد قبل عامين تماما، وأصرّ يومها على أن أزوره في الفندق حيث جمعتنا جلسة جميلة مع أستاذنا الدكتور بدوي طبانة والصديقين العزيزين الدكتور يوسف عز الدين والدكتور إبراهيم السامرائي. ولما هممت بالانصراف أصرّ الرفاعي على أن يكمل الجلسة في مطعم الفندق، فأكلنا معا "عيشا ولحما" كما نقول في لغتنا اليومية تأكيداً لأواصر الأخوة والصداقة بين "الآكلين".
وإذا كنت قد ألمعت إلى مكرمات فاضت بها أريحية الرفاعي تجاهي، فقد أبديت له دهشتي من أنه يحرم نفسه من مكرماته، بل يظلمها ظلما شديدا، فقد كان ضنينا بنشر كتبه مؤثرا عليها كتب سواه، وكان يتواضع في الحديث عن كتبه فيسميها "محاولات". أما وقد آلت دار الرفاعي إلى نجليه علاء وعمار، فلعلهما يبادران بإخراج المخطوط من آثار الرفاعي ويحرصان على التقاليد الطيبة التي وضعها في انتقاء الكتب ونشرها، فالسمعة الطيبة التي كان الرفاعي يتمتع بها على الصعيد العربي كله هي تراث يحسن بالنجلين الكريمين أن يُحافظا عليه وفاءً لأبيهما وتشبها به.
وأعرف من مبرات الرفاعي ما أُوثر كتمان خبره، فقد كان جوّادا يُذكرنا بحاتم الطائي، وإن كان جوده قد ترامى إلى ما وراء البحار.
ولا أظنني مغالياً إذا قلت إن عبد العزيز الرفاعي كان بشخصه مؤسسة أدبية خيرية بلا حدود، وقد بكينا بفقده كثيرًا من الفضائل التي اجتمعت لديه وحببته لمن عرفوه عن قرب ولمن لم يعرفوه، وكذا يكون الرجال العظام.