الشعاع الكاذب
ربما كانت المرة الأولى أو الثانية التي يقرر أن يتخذ من القطار وسيلة نقل تُقلّهُ في طريق العودة من القاهرة للمنصورة ، ذلك أنه كان يميل إلى سيارة البيجو التي تختصر الساعات الثلاث إلى النصف أو يزيد قليلا ...
وبعد أن أنهى شاكر الإجراءات التي من أجلها أمضى يومه في القاهرة مع ساعات الصباح الأولى ... عاد إلى محطّة ( رمسيس ) المكتظة دائما ، أو دائمة الإكتظاظ ، المزدحمة بالناس واللاناس ، كيف لا وهي الميناء الذي ترسو به سفن الوافدين من شتّى بقاع مصر ،.
توجه إلى شباك التذاكر شاكراً الصدفة السعيدة التي وضعته وراء رجل احتفظ بمكانه القريب من شباك التذاكر ، وبلا أيّ عناء معتاد حصل على تذكرة العودة للمنصورة ، تلك المدينة الجميلة الوادعة على ضفاف النيل الخالد المنساب برقة وعذوبة ، مدينة بناتها لعب ، ورجالها صفوة المثقفين عربيا ، ومنها خرج الرّواد في مختلف المجالات والفنون والآداب ، أو كما يحلو لأهل مصر أن يدعوها مدينة الفن والجمال .
وصل شاكر إلى مقعده في المقطورة الثانية ، أرجَعَ رأسه للخلف قليلا ، مُهيئاً نفسه للنوم أو الإسترخاء بحثاً عن راحة تزيل عناءَ ومشقة ذاك اليوم الذي بدأه مبكرا ...لكنَّ هذه الرغبة سرعان ما تلاشت عندما سمع صوت أقدام تخرج كقطعة موسيقية ، فنظر أمامه وإذا بفتاة تتكؤ عليها امرأة ضحك عليها الزمان وسرق منها سنين العمر ، فتاةٌ كل ما فيها مُنسّق ومُرَتَّب ، قوامها رشيق ، شعرها أسود فاحم غجري يسافر في دروب الصمت مخلّفاً أريج أرقى أنواع العطور الباريسية ، وامرأة تبدو أنها تجاوزت السبعين من عمرها ، ورحلة الأيام الطويلة بادية على محيّاها من خلال التجاعيد المنتشرة ...كل من في المقطورة قفزَ من الوضع الرتيب ، ونظرات متعاقبة يتبعها ألف رجاء وأمنية أن تكون خطوات هذه الفاتنة والعجوز تنتهي بهما إلى مقعده ...نعم ، كل من رآها تمنّى أن تجاوره في الجلوس ، أو حتى إن لم يكن كذلك فلتكن في مقعد قريب منه ، فالرحلة طويلة والفتاة فائرة الجمال ، وجمالُها يسلب العقول....
حتى ذلك العجوز الذي يجلس في آخر المقطورة ، كان يبدو من نظراته المتصلة المسافرة إلى جسد الفتاة ، أنه استردًّ شبابه المفقود ، واستعاد عهد الصبا الراحل ، فتاة من هذا النوع من الفتيات تستطيع أن تقود انقلابا على الصمت ، وأن تطيح بعرش السكون والملل الذي يسيطر على المقطورة ، قبل أن تقتحمها ببراعة القادة المنتصرين الواثقين من ولاء أهل البلاد المفتوحة ......
كل هذا حصل ...وشاكر لم يقدّم لهذه الحسناء المحلقة في سفينة الحسن والجمال سوى النظرة التي يختفي في طيّاتها قدر من الإعجاب .
وتمضي العجوز برفقة الفتاة ، وتمضيان صوب مقعد لا شكَّ أن صاحبه كان في بُرْج سَعْده ، كيف لا ، وكل منّا يصبو لرفقة فتاة أثناء السفر ، ولو لمسافة قصيرة ، فكيف ان كانت الرحلة قوامها ثلاث ساعات وعبر قطار ...!!
ومن فوائد رفقة الفتاة ــ أي فتاة ــ في السفر ، أنك تتحاشى الكثير من سلبيات صحبة رجل ، يكفي أنك تتجنب رائحة التدخين والخوض في نقاش غالبا ما يكون جدلا بيزنطيا ينتهي بوصولك وألف صداع يطرق رأسك ، ناهيك عن الضيق الذي يلحق بك من مثل هذه الصحبة . وكيف إذاً صُحبة فتاة ليست كأي فتاة ، بل قُلْ جنيّة ، أو فاتنة من الفاتنات اللواتي يملكن أجسادا تنوب عن ألسنتهن في الحديث والحوار ....وها هو عامل القطار ( الكومسري ) يقدم طاعته لتقديم خدماته في الحصول على وظيفة الدليل القائد للمقعد ، وعبارات كثيرة تخرج بعفوية منه عن أي خدمة تطلبها هذه الأميرة .
ويغزل القدر خيوط الحظ ببراعة ودقة ، عندما اختارت هذه الفاتنة ، أو قُلْ أن مكانها حسب ترتيب أرقام المقاعد كان في مقعد شاكر بصورة مواجهة له تماما ......وما أن جلست عليه ، استحال المقعد عرشاً تعتليه ملكة غاية في الحسن والجمال ...
حتى أن العجوز استحالت إلى وصيفة لهذه الملكة الفرعونية ...عينان واسعتان حولهما إطار من الكحل يسلب العقول ، وجه أبيض مستدير مشع ، يتوسطه أنف دقيق وفم صغير به شفتان يكسوهما أحمر الشفاه الغير مفرط في وضعه ...شعر طويل يتطاير بفعل النسيم المتدفق من الشباك ...نسيم الهواء يجعله يتموج فكيف لو تحول النسيم إلى هواء أكثر قوة ...
كل هذا وشاكر بدى منشغلا في مراقبة اللاشئ ، من خلال شباك القطار ، ربما أراد ذلك حتى يختلق المفاجأة عند التقاء النظرة الأولى بها ، أو ربما أراد أن يهرب من نقمة بقية الركاب الذين كان يثق في كلامهم حول حظه وسعده وغير ذلك من عبارات الحسد....
لم ينتظر شاكر كثيرا ، التفتَ إليها ، فوجدها تحدق به ، نظر لها واستمرت تنظر اليه ، أشاح بوجهه وعاد لكنها بقيت تحدق به ، بل لم يتزحزح مسار نظرها ...ومضى القطار في رحلته صوب المنصورة ، وكلاهما ينظر للأخر ، شاكر يبتعد قليلا في نظره ، وهي كما هي لم تبتعد بنظرها عنه ...هذا بدأ الإضطراب يعرف الطريق لقلبه ، وتلك تحدق صوبه دون كلل أو ملل ...وأسئلة كثيرة بدأت تخترق وجدانه مثل لماذا وكيف ومن تكون ولم تنظر لي و...و...و....
احمرَّ وجهه أو كاد ، تصبَّبَ عرقه قليلا ، حركات بدأت تخرج منه بلا رتابة أو قصد ، هل هذه علامات الحب وإرهاصاته ...هو لا يدري !!! فليس من أهل الذكر ليعلم بذلك .ويمضي القطار ، والوقت يمر ، وتمضي هي بنظرها له ...نظر مستمر لم يتخلله رمشة جفن واحدة ، ربما حتى لا يغيب عن ناظريها ...هل من الممكن أن وقعت في حبه ، أو قل وجدت به الفارس الذي تحلم به ، هل وجدت من مواصفاته فتى الأحلام المنشود ...أفكار كثيرة كانت تتسلل لقلبه ...ولكن حكاية فارس الأحلام هذه باتت حكاية عتيقة قديمة لا تروق لفتيات الجيل ...
حكاية هجرت عصرنا المتخم بالكذب والخداع والنفاق ....
هل أحبها شاكر ...كيف أحبها وهو لم يسمع صوتها ، كيف أحبها وهو لم يسمع بها ولم يرها من قبل ...ثم انه لم ينس بعد قصة صديقه سعيد مع حبيبته غادة ، الذي كان يعتقد أنه الوحيد ــ كما أخبرته ــ وإذا به يقع في صدمة لم يفق منها حتى الآن حين اكتشف انه لم يكن سوى رقما في مذكرة هاتفها ...كان ضحية من مجموعة ضحايا ...
وربما يكون عدد الضحايا بحجم جمال المحبوبة ...نعم سعيد صديقه كان ضحية من بين ضحايا تسارعت ولهثت خلف جمال غادة ...حسناء تركض خلفها كلاب جائعة في المنصورة ...ويعود شاكر ويقول في نفسه : لا ...هذه مختلفة تماما ...هذه هادئة جميلة تبدو أنها من عائلة ذات حسب ومكانة ...
وها هو الإعجاب في قلب شاكر يتحول لإحساس أعمق ...أعمق ربما الحب ، مرت الساعة الأولى من الرحلة ومشاعره تنمو وصراع في وجدانه يزداد ...ربما استمرارها في النظر اليه وسط جمالها الفائر ، جعله يشعر أنها استلطفته ، وهي التي لم تُبْعده عن ناظريها طوال الرحلة .
حتى العجوز التي تجلس بجوارها لم تنشغل معها بأي نوع من الحديث ، وكأن ثمّة اتفاق أبرم بينهما أن لا تشغلها عنه ...أسئلة كثيرة اخترقت نفسه وقلبه ، لكنه كان بارعا في ايجاد الأجوبة التي يريد ،
ولكن ها هي المنصورة تقترب ، وما أسرع عقارب الساعة عندما نكون في لحظات السعادة وما أبطأها في الصورة المغايرة .
المنصورة تدنو ، والقطار يسرع يلتهم المسافات التهاما ، ودقائق تفصل القطار عن محطة الوصول ، في ميدان ( أم كلثوم ) ولسانه لا زال مربوطا لم ينطق بكلمة واحدة ، بل لم يعرف أبسط الأشياء عنها كاسمها وعنوانها ومن تكون ... ...
هنا قرر شاكر أن يجمع كل تفاصيل الشجاعة ويتقدم للحديث معها مُدركاً إن لم يفعل فسيفقدها ، بل من المؤكد أن الزمان لن يجود عليه بلقائها ولو من قبيل الصدفة ...
وبخطوة الواثق ، دنى منها ، قلب يرتجف ، وخطى واثقة ، كلمات كثيرة تتسابق في قلبه وفكره لتنال شرف السفر عبر سفينة الجملة المتوجهة إلى ميناء أذنها في سبيل الإقامة الأبدية في قصور قلبها الذي يحلم به كل من رآها ...
دنى شاكر ...وألقى التحية ، ولم يكترث كثيرا لعدم الرد عليه ، وقف أمامها ثم جثى على ركبة ونصف كأنه ينحني أمام صاحبة الجلالة ، معرفاً بنفسه سائلاً عن اسمها ...ونظرت اليه العجوز فأسرع لها قائلاً : إنني أرغب في خطبة ابنتك ، وإنني ............ولكن العجوز قاطعته بردٍّ تخللّه ضحكة ممزوجة بالحسرة وحكمة كبار السن ، والشفقة على هذا الشاب المندفع ...وقالت له : ( يا بني ، دعك من ابنتي وشأنها ، فهي صمّاء عمياء ...)
وكادَ شاكر أن يسقط مغشياً عليه من هول المفاجأة التي جعلته ضحية أمام هذا الشعاع الكاذب .
وليد دويكات
نابلس المحتلة
