(3)
ماء البحر
(تراتيله سخط)
تعلّمتْ من البحر الذي ولدتْ في كوخ بالقرب منه الغدر والقسوة والجبروت، وتعلّمت منه بامتياز التقلّب والدّهاء، ونفسها تنطوي على ألف سرّ خبيء كبحر خرافي، وفي زرقة عينيها تسكن كلّ أسرار البحر، وفتنة عشقه، ولكن خلفهما تماماً يسكن خواء أسود عميق لا يعرف معناه إلاّ ضحاياها من المغدورين أو المقربين القلّة من الأصدقاء وشركاء العمل.
جمالها وبطش قلبها عماد عملها ، تبيع خدماتها لكلّ من يملك أن يشتري مواهبها في التجسّس،ولا تبالي بالأسباب أو الأهداف أو النتائج أو الضحايا أو الخيانة، وتتبجح قائلة أمام حاسديها في العمل إنّها على استعداد للتجسّس على والدها إن دُفع لها ثمن مناسب لذلك.
التجسّس عملها ومنهجها ومبدئها في الحياة، وكان من الممكن أن يظلّ سرّ سعادتها فضلاً عن ثرائها لو لم تقابله.
كانت مهمتها تنحصر في التقرّب منه، وإيقاعه في حبّها أو حتى في الرّغبة في جسدها، ثم تمكينه من مأربه للتمكّن من مأربها وصولاً إلى انتزاع كلّ المعلومات منه انتهاء بالنّكوص هرباً نحو المجهول، ولابأس في أنّه قد أُعطيت لها أوامر جديدة بالتخلّص به بسمٍّ زعاف من السّهل أن تدسّه في طعامه،وهو الذي بات مستسلماً لها، لا يعرف راحة أو هناء أو سعادة دونها.فذلك يعني زيادة في أجرها.
كم كان الأمر سيكون سهلاً لو أنّها لم تقع في حبّه، كم كان هذا الرّجل الوسيم المقيم في الرّوح سيغدو صيداً سانحاً لو أنّها لم تعشق الحياة معه. هو الحبّ المستحيل الذي لطالما داعب قلبها المقدود من الصّخر إلاّ من أمنية وحيدة عرجاء ، اسمها قلب رجل يعشقها دون القلوب، وهاقد جاء القلب العاشق، وجاء الرّجل، وتحقّقت الأمنية، وحضر الجزاء بلون أسود من جنس عملها، وعليها الآن أن تدسّ السّم في كأس الرّجل الوحيد الذي عشقتْ، ومن له أن يرفض أوامر الجهة التي تعمل لحسابها؟ إذن ستُسحق هي وأهلها ، وأيضاً سيطال الموت دون رحمة من أحبّتْ.
ليس عندها فسحة من الوقت لتقارع هواجسها، وتسكّن لواعج قلبها،عليها أن تكون كما شاءت أن تكون العبد المطيع مادامت قد استمرأت ذلك.وأجازت لنفسها أن تغدر من تحبّ بحكمة البحر وبجماله وببطشه، أعدّت حفلة بهيجة لكليهما، وارتدت الأزرق الذي يشبه شرخ روحها وأملس حجر عينيها، وأعدت عشاءً فاخراً، وراقصته طويلاً، واستمهلت الموت حتى يأخذ قسطه من الطّعام والرّقص والمسرّة، ثم قدّمت له كأس الشراب المسموم، وقرعته بفرح مصنوع بعناية بكأسها الذي أفرغت فيه نصف قارورة السّم، وكانت لها الرّشفة الأول التي استفدت نصف الكأس،وانسرحت مع صمت مستسلم تنتظر الموت الذي جاء يتبخطر على حرقة قلبها.
أمّا هو فبات يمسّد صمتها بربت خفيف حنون على كتفيها ،وهي تتكوّم كقطة شاميّة أليفة في حضنه،وتزفر آخر أنفاسها بصعوبة وحشرجة تفوق كتمها وصرّها. وفي يسراه كأسه المسموم الذي لم ينقص جرعة،فهو رجل بحر،لا يأمن أبداً لغيره، مادام الغدر طبعه الأصيل،ولو كان لقلب امرأة عشقته بصدق، وآثرت الموت معه إن لم تستطع الحياة له،ولهذا فهو أفضل جاسوس في بلده.