(4)
ماء البحيرة
(تراتيله بكاء)
جميلة هي البحيرة التي يسكنها صمت أزرق موغل في القدم، وترحل إليها الجنادل الصّغيرة، وتصادق صغار الحيوانات والبشر ومحبّي الصيد والطّيور المهاجرة وصبية الكشّافة دون غدر أو قسوة، قاعها قريب وإن كان بعيداً،وما تبتلعه تقدّمه قرباناً لجمالها.ولكّنها مأسورة،لا يسمح لها بالرّحيل أو الحركة، وكلّ ما يصبّ فيها من ماء الثلوج والجبال والجنادل يغدو مثلها مأسوراً حتى تبتلعه الشّمس بلهيبها المحرق صيفاً.
هو يشبه البحيرة،أو البحيرة تشبهه،أو كلاهما يشترك في أزمة الحصار والقيد،هو ليس من أهل هذا المكان وليس مجرماً أو شريراً أو مطارداً أو منفياً أو باعثاً عن متعة مترفة،ولكنّه مأسور هنا حتى يشفى. المرضى اللئام يهمسون دائماً له بأنّه لن يُشفى،ويقولون بثقة يمقتها: لا شفاء من داء الجذام.
مرضه مؤلم وغريب، ويفرض عليه عزلة مقيتة، كلّ من في هذا المكان إمّا مجذومون أو معالجون للجذام.لا يتذكّر والديه،فقد التهمهما الجذام في قريته التي ماعاد يذكرها،عندما سيق إلى هنا منذ أن كان صغيراً.
يحلم بأيّ مكان في هذه الدّنيا سوى أسره بالقرب من هذه البحيرة التي لطالما حرّضها على الثورة والهروب من مكانها دون جدوى، هي تستلم للتبخّر والنقصان أمام جبروت لهيب الشّمس، هي جبانة، وهو أيضاً جبان أمام مرضه،فهاهو يأكل أطرافه بعد أن يدميها دون أن يقول له لا، ويتذرّع بالدمع مآلاً لضعفه.
الدّولة تجبره ومن معه على الإقامة في هذا المكان وإلا الموت حرقاً أو رمياً بالرّصاص لمن يحدّثه عقله بالهرب منه، والعودة إلى الدّيار بهذا الوباء المرعب.ولكّنه يتمنّى الهروب من هنا رغم عقاب الموت الذي ينتظره،وفي جنباته يضجّ ماء البحيرة الحالم مثله بالهرب.
هذا الصّباح الماطر هو أفضل الفرص للهرب، السّماء تزمجر، وتلقي أحمالها من الماء بسخاء، والبحيرة تضطرب بالشآبيب التي تصّب بها بعشوائية، وروحه تعانق العتق، ينتعل الحلم، ويركض بعيداً لا يلوي على شيء، وصوت الكلاب التي تطارده تسبق خطواته في الغابة، والبحيرة تتضامن مع ثورته، وتفيض، ويتدفق ماؤها راكضاً خلفه وخلف الكلاب في الغابات.
في الصّباح كان الهدوء يخيم على الغابة وعلى الكلاب النائمة بعد ليلة مطاردة متعبة وعلى البحيرة التي عادتْ مكرهةً وابتلعت ماءها الملفوظ مع أوّل إشراقة شمس، وعلى جسد الصّغير المجذوم الذي قدُّم للنار لتأكله دون شهوة بعد أن أردته رصاصات حرّاس المصحّة في ليلة أمس الماطرة.