استفحلت علامات الاستفهام في رأسي، فتقدمت بضع خطوات، ونظرت إليها بإمعان؛ لعلي أستوضح إن كانت هي أو غيرها..
اقتربت أكثر.. رأيت خصلة شعر هربت من تحت طرحتها، قد اختلطت بالبياض، تعجبت من فعل السنين! ونظرت للماضي بعمق.. فشعرت بحنين جارف؛ لا أدري إن كان ضل أم صدق؟ ما أطول السنين الخوالي! الذي بلغت عشرا وازدادوا خمسا؛ تلك السنين التي عقدت فؤادي في سرة محكمة الوثاق، وحجبت عنه زينة الحياة، وحجبت عواطف النساء، من بعد فراقك يا غالية، وما أعجب هذه الحقبة! تلك التي حرفت معالم الجمال، ووضعت العينين النجلاوين بين تجاعيد بدأت بالزحف، ووضعت القوام الرشيق في كيس من اللحم والشحم.. ولكن يا ترى هل هي عواطف؟
لم تمهلني أكمل بحثي عنها؛ ومضت..
مشيت خلفها، وعلامات الاستفهام تحاول خداعي، ولكني كنت حريصا أن أستدل عليها من سحنتها؛ لا بغريزة الحب التي حيرتني.
ما زلت ملتحما في ظلها حتى قصدتْ باحة خضراء، منحصرة بين زحام المدينة؛ وقبل أن تجلس على المقعد الخرساني، لمحتها تنظر في كل الجهات خلسة، فاطمئن قلبي مع نظراتي المتسائلة..
جلست قبالتها، وأطلت النظر في عيونها الشاردة، كنت حالما لبضع دقائق في دفء جميل، مستلهما ذكرياتنا من لب الماضي البعيد، أتفقدها منظرا تلو منظر، وكأني أشاهد شبابنا وملاعب أفراحنا عبر شريط دار الخيالة.
انتقلت إلى جوارها، وقربت رأسي منها، وهمست لها بثقة:
– كيف حالك يا عواطف؟
تأزمت نفسي، وتقهقر الدفء عني، حينما رأيتها تتعجب من أمري! ولا تقر لي بوصال.
اعتذرت لها... وتزحزحت عنها، وخفضت رأسي.. وبينما أدفن خذلاني في الأرض: وقعت عيناي على علامة في أصبع قدمها.. عدت إلى جوارها مستبشرا.. وأعدت همسي:
– أرجوك تكلمي.. ألست قدرك المعلق؟
– كلا. معلق عندك.. في عالمك الذي اخترته بإرادتك..
– علمتني الأيام والسنين.. وأحرقتني الوحدة، وبعادك..
– تقصد أحرقك الاستهتار واللامبالاة. أما كنت الناصح لزلاتنا، والمبرأ من العيب؟
– الله غفور رحيم، أما عندك غفران؟
– أما عندك أنت ما يرد خسراني، ويعيدني إلى عزي قبل مداهمتك حياتي؟
– عندي ما يرفعك إلى رأسي، تعتلين عن كل ما يزعجك، ويجعلك أميرة، تسكنين في أرقى خدور مهجتي، ليس عليك إلا أن تطلبي، وعلي القبول. ألا يسرك أن أعود لك جديدا، بعقل مغسول بالنور، وقلب مغسول بالماء والثلج والبرد؟
– حرام عليك..........
– لا تبكي يا حبيبتي
مددت يدي، فتلهفت كحمامة عطشى، تشرب من نضح كفها الدافئ.. أصابعنا متشابكة في عناق شديد.. ومضينا على الطريق الترابي نتمايل مع الأشجار الوارفة، نزف البشرى في أحلامنا الجديدة.. تلاعب أفراحنا خطواتنا المترنمة..
وعلى باب الدار: تهلل وجه الأولاد فرحا، وامتلأ البيت أنسا وبهجة.. وامتلأت الأوقات سمرا ودفئا.. وجاء الليل ليلفنا بأستاره، وهي متربعة فوق عرش الجمال بكل دلالها ولآلئ محياها.. تشع بهاء وأنوثة.. شهية.. بلا حد للوصف..
وفي اليوم التالي عادت من عملها قبل موعدها، لتفاجئني بهدية ثمينة، عرفت ذلك من غلافها، وهي محمولة بين ذراعيها وابتسامتها العريضة..
وعلى باب الغرفة سقطت الهدية، ووقفت متجمدة أمامي، ورائحة المخدرات - كالسابق - تملأ المكان.
___________
عبد الله عيسى