قصيدة يممت بيروت بعد الشام في سفري / جميل صدقي الزهاوي
يممت بيروت بعد الشام في سفري
جميل صدقي الزهاوي
*****
يممت بيروت بعد الشام في سفري
أجلو بأوجه أمجادٍ بها بصري
شاهدت من أَهلها الأجواد عارفة
ما شاهدت مثلها عيناي في عمُري
قد عاملوني بما توحي سريرتهم
إني بما عاملوني جد مفتخر
وكرَّموني وما لي ما أقابلهم
سوى ثناء على تكريمهم عطِر
آباء بيروت للأبناء قد غرسوا
فذاقَ أبناءٌ بيروت من الثمَر
رأَيت أبناءها قوماً أولي هممٍ
ما في عزائمهم شيء من الخور
يا أَهل بيروت لا أَنسى حفاوتكم
إذ جئت أدلف في بيروت من كبري
يعيش شعب إذا ما كانَ مرتقياً
في ذمة العلم بعد الصارم الذكر
حيّ الرئيس به حفت غطارفة
كما تحف نجوم الليل بالقمر
حيّ النجوم وحيّ الليل يطلعها
ما زينة الليل غير الأنجم الزهر
أماثل من ذرى بيروت قد لمعوا
في جو ليل من الأحداث معتكر
إني بحملي إلى بيروت في سفري
شعراً كمستبضع تمراً إلى هجر
ما الشعر إلا شعور المرء يعرضه
على الأنام بلفظ غير ذي عكر
جم لعمري الألى للشعر قد قرضوا
وَلَيسَ من برزوا فيه سوى نفر
لَقَد تَعاطاه ناس لا ابتكار لهم
والكل قد ضربوا منه على وتر
الشعر فن إلى ذي العلم مفتقر
وَلَيسَ للشعر ذو علم بمفتقر
إن رمت تفقه معنى الشعر مكتنهاً
فاسأل عن الشعر أَهل العلم والنظر
والشعر إن لم يفد معنى يخلده
فإنما هو معدود من الهذر
ولا يجيد سوى من كان مبتكراً
وَلَيسَ كل أخي شعر بمبتكر
أَينَ الَّذي يتقصى ما يشاهده
وينظم الشعر فيه نظم مقتدر
الشعر بحر خضم لا قرار له
ما كل من غاص فيه جاء بالدرر
لا يكبر الشعر مالم تُبق روعتُه
في نفس سامعه شيئاً من الأثر
وهذه صورة للشعر أعرضها
على الَّذين يرون الشعر ذا صور
حللت في روضة كانَ الكنار بها
مغرداً فوق غصن ناعم نضر
وَكانَ يلبس أَرياشاً مزوقةً
كأَنَّه زهرة صفراء في الشجر
وَقَد رآني أدنو منه مسترقاً
ففضَّل الصمتَ فعل الخائف الحذر
نزا يطير نفوراً فوق أيكته
فقلت ريثك لا ترهب ولا تطر
الزم مكانك لا تحذر مقاربتي
فَلَيسَ مني عليك اليوم من خطر
غرد فانت إذا غردت منفجراً
فجَّرت منِّيَ دمعاً غير منفجر
أنت المثير بأنغام ترجِّعها
للشجو في الناس والأطيار والزهر
لأنت شاعر هذا الروض أجمعه
وأنت تنطق إما قلت بالغرر
إني كما أنت للأطيار قاطبة
لشاعر قد أغني الشعر للبشر
لا بد للقلب من عطف على كلمي
إلا إذا كانَ مقدوداً من الحجر
لَيسَ الَّذي سنه من فرحة ضحكت
كمن بكى من صروف الدهر والغير
الكون للمرء يستقريه مدرسة
والكون للمرء مملوء من العبر
وَلَيسَ يُيئس أَرواحاً مفكرة
شيء كحقٍّ مضاع أَو دم هدر
لَقَد تجادل ناس حول منزلتي
من خاذل مكثر ذمي ومنتصر
كانَت حياتيَ في بغداد تسعد من
لبانة كنت أَقضيها ومن وطر
وتلك أَيامي الأولى الَّتي اختلفت
مما أُقاسيه عن أَيامي الأخر
من بعد شربيَ كأس العيش صافية
قد صرت أَشربها طيناً مع الكدر
لَقَد كفرت بنعمى كنت أَملكها
وقد يغص الفتى بالبارد الخصر
لا خير في الماء يأتيني بلا تعب
وإن كفاني عناء الورد والصدر
في البحر مد وجزر يعبثان به
والمد والجزر مفعولان للقمر
إن الحياة لحرب لا انقضاء لها
وليس إلا لأهل الصبر من ظفر
لا تهربن من النار الَّتي اضطرمت
وإن رمتك فنالَت منك بالشرر
لا يكبر الناس في عصر نعيش به
من لم يجادل ولم ينفع ولم يضر
الحازمون رأوا في السعي مسعدة
فَلَم يكونوا من الأعمال في ضجر
والجاهلون قعود في مجالسهم
فلا اعتماد لهم إلا على القدر
-----**-------
التوقيع
لا يكفي أن تكون في النور لكي ترى بل ينبغي أن يكون في النور ما تراه