حقاً.. إن المقدرة الفنية الفذة، تكمن عند الأديب المتمرِّس القادر على إيصال غاياته بتمامها نحو ذائقة القارئ، بوعيهِ ولا وعيهِ! بإصرار لغوي معنوي باهر! تأكيداً على تصوير رؤيته الأدبية، من خلالِ أعماقه الثَّرة، ثم تجسيدها أمام مخيلةِ القارئ.. ليلمس ويصغي ويرى مرامي الكاتب ماثلةً أمامه بمنتهى السلاسة والإتقان! هل كان الهروب إلى النومِ قصدُ أديبتنا الفذة، من خلالِ خاتمتها العميقةِ التي سلكتْ طريقاً منحنياً التفَّ من حيثُ بدأ البوح ذرفهُ العميق! حتَّى لكأنَّا عدنا من حيث بدأنا؟! في مدارٍ إهليليجي حولَ بؤرٍ شائكةٍ جداً! انتبجت جرَّاءَ انتقاعِها مرارةَ الواقع البهيم الأليم...؟ فتأتينا بمطلع بديعٍ لخَّص بحروفه المتوجعةِ صُعار ذاتٍ أوشكتِ الهباءَ تأسُّفاً!
"أوشكتُ أنْ أنامَ كما ينامُ النّهرُ عارياً من خلاخيلِ الشّفاه من نفسهِ المغسُولة بالأحزان ومن كلِّ الكفوف المُتدلّية من سُرة العوز" ***
اختيار النَّهر لم يأتِ عن عبثٍ أبدا! فالنهرُ قد يجفُّ ويضمحل، وقد يفيض ويجور، وفي حالاته الطبيعية هو هادئ وديع غنيٌّ بالفائدة! ولطالما قامت الحضارات على ضفاف الأنهار وازدهرت... إنه الماء.. إنه الحياة التي خلق منها كل شيء... تشبيهٌ مذهل! حيث اختارت أديبتنا النهرَ وشبهته بالنفس البشرية على اختلافِ أحوالها... وإذ أشارت للخلاخيل المتدلية من الشفاه! وأراه لمحٌ دلَّ في مضمونه على الملهيات الحسيِّة. فالنفس غير آبهةٍ بما يدور حولها من أمور.. إنها حزنى جراء الملمات المحيطة.. زاهدة زهد النهر بمائه حتى! ولو اختار التعري من كنهياته كلها.. من كونه كنهر بدلالاته المعنوية والتجريدية..! وأقف هنا متأملاً في الذات الكاتبة لهذه المقدمة المذهلة! أغرورقُ معها في مرامي رؤاها الماورائية، لأجدني محلقاً بلا وزن يذكر.. حيث انعدمت جاذبيَّةُ الإدراكِ حولي! وما عاد يسعفني إلا حروف أكَّدت لي هذياني السحيق!
"أوشكتُ أنْ أنامَ فلا ريحَ..، ولا صُراخَ..، ولا نُباحَ.. لا طفلَ طرياً يرتدي جسدَ الأسفلتِ في ثبات لا عربةَ حَلوى مُغمّسة بمرارةِ الأيام لابراقَ يُكافئ عينيّ بالقمرِ المُلتاع، ويحملني معهُ للمَسرّة ولا غيمةَ في جيبِ الوِسادة تغيّب الحُلم فيّ حتّى الصّباح البَعيد، البَعيد.." ***
التوكيد لما عبَّرنا عنه آنفاً، بلغ ذروته هنا...! (لا): هي ملاذُ الهروبِ الأخير الذي علقت الأديبة عليه همساتها الصارخة الآنفة لغات الحياة! بأية لغة كتبت شاعرتنا القديرة منية هذه اللاءاتِ إذن؟! وهي إذ تشيحُ بوجهها عن وقع تلك الملمَّاتِ الجسيمة، تؤكد انغماسها الوثيقَ بحيثيَّاتها! بمنتهى التوغلِّ والتأثر والانغماس! أوشكتْ أن تنام... ولم تنم! دلالة معنوية هائلة تحملنا تلك الأمداء الصاخبةَ التي رفرفت مشاعرها في آفاقها المدلهمة! النوم في عالمنا هذا، المليء بشتى أنواع القهر والحرمان محال... هذا ما دعتنا أديبتنا للإحساسِ به... كأنها تقول لنا: " كيف بربكم أنام وتقر عيني، وأنا محاطة بكل تيك الرزايا والمصائب الجسام؟! كيف؟؟؟! إذ أن لاستخدام (لا) هنا وقع توكيدي هائل، أسوة بالآيات الكريمة التي وردت في سورة القيامة كمثال: "لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة" والمعنى هنا: أقسم أشد القسم! أو بالغ القسم... وبالإشارات المعنوية التي مرت في هذا المقطع المدوي، والتي تكاملت في بينيَّاتها صورة الألم، ما تكابده ذات الكاتبة المجيدة، ما تريد إيصاله لنا... فالريح عاتية... والصراخ مجلجل... والنباح مدوي... والتشرد حال طبيعي لطفولة معذبة! حتى الحلوى مرٌّ مذاقها! وميض الأمل خافت ضئيل... والمسرة وهم... والمطر سراب... والجفاف قائم... والليل سرمد... والصباح أحجية لا حل لها! إنه لذو نفسية جبارة حقا، من استطاع الركون إلى حلم وردي في خضم هذا الوجع المستديم!!
أنامٌ إذن... وأحلم بإشراقة أمل ما، برغم فظاعاتٍ لئيمةٍ مضنية! إذ أن الحياة، ومهما طال أمد تصحُّرها وعنفها الفتاكِ، لابد أن تحمل في طيات أيامها تارة سبباً للنجاة؟! أهو الاستسلام لسياستها الفتنوية الشائكة؟! أم أنه التسليم للقضاء والقدر فيها؟! أم أنه التماهي ألماً مع مراميها، تهيئة لنهوضٍ آزف ووشيك؟! ولفت نظري هنا، ذكر الشهيد ذي الابتسامة الهادئة المعبرة! وفي إيراد أحواله هنا، دلالات بعدية أخرى... تأخذني نحو الأرض.. الوطن.. الظلم.. الجور.. الاستغلال.. العرض.. الشرف.. الإخلاص..... أليس هذا ما تكابده أمةٌ بأسرها؟ لعبت بمصيرها ومقدراتها وثرواتها باقي الأمم؟ حيث باتت لا حول لها ولاقوة، في ظل خيانات بعض أبنائها، وعمالتهم، و ضياعهم و .. و.. و... أليس هذا همُّ كل شريف بقلب حي خافق في صدره! وما قيمة الأدب حقاً إن لم ينصب بجله في هموم الوطن!؟
"للشمسِ وجهٌ لايريدُ أن ينْكشف للوطنِ أيضاً وجوهٌ مطويّة للأمانِ.. و الرخاءِ.. وللحرية للضمائرِ التي بِيعتْ في سوقِ النّخاسة للبَغيّةِ التي تبني هرمَ الخطِيئة لتفوزَ بالرّغيف لعروشِ الهاوية، وللبنادقِ العَمْياء للعدلِ الذي مَالَا شِقّيه بالمِيزان" ***
مكاشفة صريحة هنا.. وتوصيف دقيق لأمراض اجتماعية تعانيها أوطاننا في خضم هذا الهراء المحيط بها.. بيعت الذمم، وتلاشت المبادئ، وباتت البغايا على منابر الإعلام تسوس العقول بعريها ويخطب ودُّها! بات الإثم حقاً مشروعاً لكل مريد..! لا مانع من ارتكاب المحرمات... حريةٌ فاسدةٌ غُلِّفت بعين دجال العصر! انحلال أخلاقي لافت فاضح! مزاميرٌ تعزف ابتهالاً بتزاوج الفجور والطغيان...! بغيَّةٌ أخرى؛ تبيع شرفها للقمة العيش، أو لإطعام أولادها الذين ألقاهم أب غاضبٍ للشيطان! عروشٌ تنتحل عبادة الله توطئة لخدمة إبليس اللعين... وتقدم الوطن على مذبح التبعية قربانا... تضرب الشقيق بالشقيق، لتحمي عروشها الواهنة الواهمة بالأبدية الرعناء... والعدل هراء.. هراء! الأديبة هنا ألقت من جعبتها كلَّ الهموم... فردتها على طاولة البوح بمنتهى الوجدان... الوجدان دامٍ وكليم... يا له من وجع هائل حملته شاعرتنا بين جنبيها... أنَّتِ الحروف له، وتساقطت عن استقاماتها متون السطور...!
فسحةٌ من أمل، بلى... الأمل بالله.. بقيامة الأرض... بنصر المستضعفين... بانبلاج نور الفجر من براثن الظلام... بانتصار الأوطان الحبيبة لأنها هي الحق والله مع الحق أبدا، وسيزهق الباطل مهما طال أمد الفجران... قلب الأديبة هنا بحجم وطنها المتألم! بل، وطنها هو قلبها الخافق بالحياة، في تماه أخاذ وبديع يحسب للأديبة الراقية منية الحسين! شعور دفاق ورقراق أدلت به بعفوية ميَّالةٍ للتفاؤلِ رغم كل شيء... وماكانت الرجاءات هنا، إلا محفزات خفقيَّة نبضيَّة هزَّت أركان الجور والظلم وعربدة المرابين أكَّدت نصر الأحياء على الأموات، والإشارة إلى وجه البتول -عليها السلام- إنما هو بادئة انتصارٍ أكيد، بعد انزياح سلطويَّةِ الخبثِ، ودمامةِ الرياء، وخذلانِ المنافقين... إذ؛ لا يصح إلا الصحيح...
"أنا ياقلبيَ الفَاني، أخافُ على الوَليد المُخبّأ في سُترةِ المَلائكة ولأنّي أخاف؛ سأنام، سأنام كما ينامُ النهرُ عارياً منْ دمعِ الغيمات." ***
الخاتمة هنا بدت بحلة مذهلةٍ ألمحت وأعادت لأذهان القراءِ فحوى النص الذي لخَّصته المقدمة! قلب الأديبة ليس فانٍ بالمعنى الحرفي الذي جاء في الجملة أعلاه! ولكنه متفانٍ في قلب الحق.. الوطن.. الضمير الحي... الخوف المشروع -وإن كان ظاهرُ المقطع يدل على التوجس- وكَّد حتمية السهد ما بين الأسطر! والنصر.. هو الوليد الشرعي الحتمي لتزاوج الحق والصبر... بلى! لكل شريف، نقي السريرة، فذ الوجدان أحقية الخوف على هذا الوليد الهائل والغالي... لهذا سهرت عليه قريحة أديبتنا الشاعرة منية الحسين، فأنتجت لنا هذه القطعة النثرية الفريدة المضامين! والتي آمل أنني أحطت بمكنوناتها القيمة قدر المستطاع... وعبَّرت في قراءتي المتواضعة هذه، عن مكامن رقيها وجماليتها حسب رؤيةٍ أرخت عليَّ طابعها انسياقاً لأفكار راودتني إبان قراءتي لهذا النص الفاخر، وعرفانا مني لكاتبته القديرة، أن حركت في أعماقي الرغبة لتذوقه والتغلغل في أعماقِ نفائسه البديعة، ولربما وجدتْ عند ذائقتكم بعض الاستحسان. فشكرا لكم أختي الطيبة...
رد: *قراءة في القصيدة النثرية (رحماك) لشاعرتها القديرة أ.منية الحسين
شاعرنا الكبير /ألبير ذبيان
بداية"أنا أهنئ نفسي بوقوفك المدهش على نصي وقراءتك الغنية، المستبصرة والتي ألمت بمكنونات النص واختلاجات الحروف وماورائيات الكلمات
بكل عمق و دراية ومهارة
أديبنا القدير /
قرأت وكأنك كتبت وسبرت وكأنك أحسست، وتوغلت في قلب الوجع..
نعم فعلت فالوجع طافح بأوطاننا والمشهد دموي فكلنا يريد التحلل من كم الألم، يريد الغياب أو الغروب
النوم أو الموت.. لافرق
الفرق
أن بالقلب بقعة ضوء لم تتلوث بالمشهد الدامي علينا أن ننميها
لانتركها تتلوث فتلوثنا فمهما توالت علينا النكبات..،
بنا إيمان عميق.. نوقن أن الله ناصر الحق ولو بعد حين
أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة
ولكن أين الحق.. أين العدل.. أين كرامة الإنسان لأخيه الإنسان
بعدما كرمه الله من فوق سبع سموات وأسجد له ملائكته الكرام.. ؟
،
مال ميزان العدل وانتهك الأخ كرامة أخيه الإنسان
وملئت الأرض بالجور والفجور والفساد والظلم والطغيان
لاتقولوا الله لم ينصفنا، وقولوا أنفسكم.. أصلحوها.. تمسكوا لما خلقتم من أجله..
لتعود كلمة الحق تدوي..
ليعود النهر يجري بالرخاء.. تعود الأرض خضراء، رابية
هنا سيلتفت الله لكم بنظرة رحمة ويجركم مما أنتم فيه
من هوان.. (رحماك)
فرحمة بنا وبالمستضعفين ياالله
بعد قولك وقراءتك المدهشة لم يبق لي غير وابل من شكر وامتنان لا أظنه يفي حق شكرك
...
بستان شكر لهديتك القيمةالتي أسعدتني كثيرا
والتي ربت بها الكلمات فأنضجت ثمارها كلها دفعة واحدة..
كل التقدير والإحترام أخي الفاضل
وكل العرفان لما أتحفتنا به من قراءة باذخة الجمال 🌹
رد: *قراءة في القصيدة النثرية (رحماك) لشاعرتها القديرة أ.منية الحسين
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة منية الحسين
شاعرنا الكبير /ألبير ذبيان
بداية"أنا أهنئ نفسي بوقوفك المدهش على نصي وقراءتك الغنية، المستبصرة والتي ألمت بمكنونات النص واختلاجات الحروف وماورائيات الكلمات
بكل عمق و دراية ومهارة
أديبنا القدير /
قرأت وكأنك كتبت وسبرت وكأنك أحسست، وتوغلت في قلب الوجع..
نعم فعلت فالوجع طافح بأوطاننا والمشهد دموي فكلنا يريد التحلل من كم الألم، يريد الغياب أو الغروب
النوم أو الموت.. لافرق
الفرق
أن بالقلب بقعة ضوء لم تتلوث بالمشهد الدامي علينا أن ننميها
لانتركها تتلوث فتلوثنا فمهما توالت علينا النكبات..،
بنا إيمان عميق.. نوقن أن الله ناصر الحق ولو بعد حين
أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة
ولكن أين الحق.. أين العدل.. أين كرامة الإنسان لأخيه الإنسان
بعدما كرمه الله من فوق سبع سموات وأسجد له ملائكته الكرام.. ؟
،
مال ميزان العدل وانتهك الأخ كرامة أخيه الإنسان
وملئت الأرض بالجور والفجور والفساد والظلم والطغيان
لاتقولوا الله لم ينصفنا، وقولوا أنفسكم.. أصلحوها.. تمسكوا لما خلقتم من أجله..
لتعود كلمة الحق تدوي..
ليعود النهر يجري بالرخاء.. تعود الأرض خضراء، رابية
هنا سيلتفت الله لكم بنظرة رحمة ويجركم مما أنتم فيه
من هوان.. (رحماك)
فرحمة بنا وبالمستضعفين ياالله
بعد قولك وقراءتك المدهشة لم يبق لي غير وابل من شكر وامتنان لا أظنه يفي حق شكرك
...
بستان شكر لهديتك القيمةالتي أسعدتني كثيرا
والتي ربت بها الكلمات فأنضجت ثمارها كلها دفعة واحدة..
كل التقدير والإحترام أخي الفاضل
وكل العرفان لما أتحفتنا به من قراءة باذخة الجمال 🌹
*************************
**
*
العفو أختي الطيبة
إنما هو واجبنا تقصي حقائق النصوص المتميزة بحق
ونبش مكنونات دررها، لا سيما وهي ترمي للوطن الغالي والجريح بمراميها
وكلنا في الهم سواء مع ما نمر به من ظروف مؤسفة مخيبة للآمال
ولكن يبقى أملنا بالله، وبنهوضنا من مستنقعات أحوالنا المزرية.. فنسأله العون والثبات.
فالشكر لكم مجددا هذه القصيدة الجميلة والموحية
والعذر عن أي تقصير ورد في قراءتها
تقديري والاحترام
دمتم بألق
أخوكم
رد: *قراءة في القصيدة النثرية (رحماك) لشاعرتها القديرة أ.منية الحسين
الله..
أكلّ هذا الجمال هنا ولم أعلم
تعجبني وقفاتك أيها الرائع وأنت تعطي الكلمات بعداً أكثر مما توحيه
في نصّ لا يمكن إلاّ أن ينم عن شاعرة بيضاء القلب معشوشبة اليدين
أنحني هنا انبهارا لحرفيكما