وقفت هنادي أمام المرآة كعادتها كل صباح لترى وجهها قبل أن تخرج لزبائنها ، تعودت أن لا يرها أحد ٌ بوجه عبوس ، وهي تقدم له طبق الكشري بيدها ، اعتادت أن يراها زبائنها بوجه صبوح ضاحك ، منذ أن وطئت بقدماها الصنعه ومارستها عن قرب وهي ملتزمة بزيها ومظهرها العام غير متبرجة ..فقد صارت حديث الناس في الحارة والأماكن المجاورة وذاع صيتها وانتشر اسمها ( كشري هنادي ) وبات الناس يألفونها ويأتونها من كل فج ٍ عميق وأماكن بعيدة عنها ، يتناولون طبق الكشري من صنع يدها ، لذلك كان على هنادي أن لا تخرج إلا منهدمة ، لها بريق وضياء ، فتصافح بوجهها المرآة كل صباح قبل أن تصافح بوجهها الزبائن .. أخذتها اللحظة وركض بها الخيال واختطفها من حاضرها لتسافر عبر القطار ليرسو بها حيث كان الماضي وهي ترى صورتها وهي تركض خلف الحمار يحمل الروث على ظهره وجهها مغبرٌ ، حافية القدمين ، لتعزز الخصوبة بالأرض فتأتي بثمار وفيرة ، تجرى تحت أقدام الحمار مثل القطار فوق القضبان ، ولا أحد يألوها بالاً ،، جائعة كانت أو يكاد يقتلها الظمأ .. يقذفها الخيال فوق رصيف الماضي ويرجع بها للخلف ، وتطوف بها الذكريات .. فتذكرت حين كانت تود أن تخرج بعد أن كبرت واستدارت وبان على جسدها أثر أنثوتها والبلوغ ، فحجبت عن الأعين فلا يسمح لها بالخروج ولا يسمح لها برفع صوتها ، فتطلب الخروج أحياناً همساً من أمها وخفاء ، وهي تتضور وتتشفع لأمها كي تسمح لها بالخروج ، فإن أبدت أمها موافقة لها بالخروج لا تخرج إلا وهي معها ، مغماه ملفوفة إلا من عيناها اللتان تبصران بهما يبرقان تحت نقابها حتى تكاد لا ترى الطريق ، فلا يرى منها إلا جبهتها من وجهها و قدميها في نعليها ...يوم أسود لو قابلها أحد من الجيران في الطريق وتعرف عليها ، تظل ترتعش ويكسوها الخوف خشية أن يخبر أخويها أو أحداً من أهلها أنه رآها ، فيكون ذلك بمثابة الطامة الكبرى ونهايتها ، أو على الأقل علقة ساخنة تنالها من أخيها الأكبر عبد العزيز .. كانت نهاية فرحتها وقمة سعادتها هو خروجها إذا سُمحَ لها بالخروج ، وتظل تشكو لأمها الضيق حتى تسمح لها بالخروج خُفية بعيد اً عن أخوتها ، فتصحبها معها حتى القنطرة التي تقع خارج العمران لتشم بعضاً من الهواء وتنفس بعضاً من الضيق دون أن يعلم اخوتها وأبيها بذلك .. لقد كانت هنادي أشبه بسجينة في بيت أبيها ولا تستطيع أن تخالف أمرهم أو تكسر العرف السائد في بلدتهم وعند أهلها فعقاب ذلك عند الأهل شديد وقد يؤدي إلى قتل الفتاه أو المرأة المخالفة وتعتبر في عرفهم السائد نشوز لها ...
أما الآن فقد أصبحت حرة طليقة وقد تحررت من الكثير من هذه القيود لتخرج ، وتدخل ، ، وتصافح الرجال ، وتبتسم ، وتضحك ، وتضع المساحيق على وجهها، وتكحل عينيها ،، لقد دفعت هنادي الكثير مقابل حريتها وسعادتها وتحملت الكثير ولم ترضخ لمواطئه العرف رقبتها طول حياتها ،كانت تواقة للحرية عاشقة لها . فحين تقدم لها الحاج مدكور والذي كان يكبرها بأربعين سنة ، لم تعارض الارتباط به ، إلا إنها تود أن ترى الوجود ويراها ، وقد علمت أن الحاج مدكور على قدر من الثراء ، لا يحتاج إلا لمن يرعاه بعد أن فارقه أولاده وماتت زوجته ،وقد اتخذ من القاهرة موطناً وسكناً ، كانت هنادي تتطلع دائما للحرية لتخرج من القمقم المسجونة فيه ، وقد حانت لها الفرصة واتخذت قرارها بالموافقة لتعيش مع الحاج مدكور ، بعدما رأت في عيون إخوتها وأبيها الرضا به ، فعزّت هنادي بما تبقى من حياتها وشبابها ، ولم ّ لا ... فقد تجد عند الحاج مدكور متسعاً وبراحاً لم تره في بيت أهلها ، وقد شاء القدر أن لا تطول حياتها مع الحاج مدكور ... فقد ألم به المرض واعتلاه السعال وهي تطوف به على الأطباء حتى تركها بعد عام ونصف العام يلبي أمر ربه ، تاركاً لها ثروة تكفيها ، وقد استطاعت هنادي بذكائها أن تصمد أمام رغبة اخوتها ورجوعها للبلد مرة أخرى ، وهي تتودد لأخوتها بالهدايا تارة ، وتارة بالتعلل بفض الاشتباك مع أولاد المرحوم وراحت تستغل الوقت لصالحها ، وهي تأبى أن تعود لم َ كانت عليه وتسجن ، راحت هنادي تعمل وتشق طريقاً أخر .... فأبت ألا تعود إلى ما كانت عليه في حياتها مع أهلها ، فاشترت محلاً عن طريق أحد السماسرة وجعلته مطعماً لبيع الكشري وقامت هي بإدارته والعمل فيه بيديها ، فهي طباخة وطاهية ماهرة وست بيت ممتازة وكما يقولون صاحبة نفس في الطبخ والطعام .. وها هي الآن تقف على قدميها شامخة غير مقيدة وذاع صيتها وعلا اسمها وأصبحت حديث الناس لكن هناك شيء بداخلها يناديها .. فهل تلبي هنادي النداء ؟...
بقلم : سيد يوسف مرسي
وعود حميد مع هنادي بإذن الله في فصل قادم
هنادي
الفصل الثاني
اليوم غير الأيام التي سبقته ، شعور مختلف عند هنادي ، وهي تقف خلف البترينة ،
يأخذها الخيال فتغيب عن وعيها ، تسبح في بحرها الذي لا ترى له شواطئ ، تتجلى
الصورة في عينيها ويهدر الموج الضاحك ، ينتابها الخوف ترتد مذعورة وتخشى
المصير المجهول ، يعيد إليها الوعي العامل المكلف بطلبات الزبائن ، إنها المرة الأولى
التي تجد فيها نفسها بلا وعي ، شعور مغاير ، ودقات قلبها المتسارعة ، لقد باتت مؤرقة
حتى أحست أن وسادتها اشتكت ، من كثرة نقلها وتقلبها تحت رأسها ، ذهبت إلى المرآة
التي تقف على وجه الحائط ، كأنها تريد أن تحدثها عن نفسها ، تحكي لها عما يؤرقها ،
تعرف يقينا أن المرآة حفظت كل ملامحها ، تعرف أن المرآة صادقة معها ، ولا تخبئ
عنها شيئاً إذا قصدتها ، لم تضحك المرآة كعادتها لها ، وإنما وارت عنها ما لاحظته في
عيونها ، لكنها أوحت إليها بشيء أخر ، طال وقفها أمام المرآة ، والبحر لا يتوقف
عن الهدير وهي لا تجيد السباحة ، سمعت الكثير من القصص ، لكن وجدان هنادي
باتت تشكو من العطش ، تحتاج من يرويها لها ، لماذا لا يسقط عليها الغيث ؟،
لماذا لا يندي وجهها الندى ؟، تعود هنادي تقهقريا للوراء حين يصدمها الواقع ..
كيف تنجو من المألوف عند القوم ؟،كلما نظرت وأرادت أن تدور برأسها لتجد منفذا ،
اصطدمت بالعرف الأسود ورجاله الأشداء يلتفون حولها ، يحملون المدي والخناجر ،
لا شيء يتم إلا بموافقة العرف ورجاله ، وأي تمرد سوف يقابل بطعنة خنجر أو
رصاصة من بندقية غير مرخصة جاهزة لتجرب في هذه الحالات ، كانت هنادي تريد
أن تجد لها منفذا تخرج منه وتنجو بنفسها ، وكلما أدارت وجهها وجدت أمامها أخيها
عبد العزيز بنظراته الحادة وهو يأكل في شفتيه بأسنانه ، وطه بصوته العالي وتهوره ،
واسماعيل التي كانت تظنه مختلفاً عنهم ،والذي بات داهية من الدواهي الكبيرة .
أما زوجاتهم تعرف هنادي أنهم لا يختلفون عن إخوتها شيئاً ، فقد لاقت منهم الكثير
قبل زواجها ، دائما ما تصف عايدة زوجة عبد العزيز بالسوسة ، فمن عادتها أن تنخر
في السليم كي تفسده ، أما سمية التي تجرعت كل أنواع السموم وباتت كالحية ،
لا يحلو لها إلا الزحف على الأرض واللدغ ، وبنت اللئام فاطمة التي رضعت لبن الذئاب
وباتت كاللبؤة مفترسة ، والذي لا يعنيها إلا مصلحتها ، كيف تستطيع هنادي الخلاص
أو التمرد ؟، تعلم هنادي يقينا أن أمرها في غاية الصعوبة ، فقد تأخذ لتكون ضحية بدون
عيد أضحى ، وقد تصبح وجبة دسمة في وليمة بدون عُرس ، استطاعت هنادي أن
تخلق هدنة أو تصنع بينها وبين إخوتها سلام هزيل .. كممت أفواههم وراحت تغدق عليهم
بالكساء من حين لأخر وهي تحاول ارضائهم واسكاتهم عنها ، لكنها لا تعرف إلى أي مدى
يستمر الوضع معها هكذا ؟....
تذكرت هنادي وقد سقطت من مقلتيها دمعة حارة ، سمعت صوت اصطدامها بالأرض
تذكرت أن النافذة التي كانت ترى بها الدنيا قد أقفلت ، لقد ماتت أمها التي كانت هنادي ترى
من خلالها الدنيا ، وهي التي كانت تحميها من اخوتها وتدافع عنها ، تذكرت هنادي
حينما كانت أمها تختلق الأعذار لتأخذها معها عند العوجة عند أخوالها ، ملفوفة بملاية
من صابع قدمها حتى رأسها ، مسدله على وجهها طرحة أو لا ثمة وجهها بطرحة ،
فتبطيء هنادي خطوتها خلف أمها لتكشف عن وجهها ، لتنعم ببعض الهواء البارد
كي يلفح وجهها وتشم بعضاً من الهواء وهي تقول :الله .. الله على الهواء الطيب
وكأنها تدهن بشرتها بهذا الهواء وتشربها إياه ، فتحس بالنضارة قد ملأتها ..
تخشى أمها أن يكون أحدا قريبا منهم فيرى وجهها فيشي لأحد من أخوتها أو أبيها
فتنال علقة ساخنة .. لقد تزوجت هنادي ممن هو في سن أبيها لتهرب لتنجو بنفسها ..
لكن القدر جعلها بين فكي الرحى ، فهل تكرر هنادي ما فعلته حتى لا تعود للجحيم ؟
وإلى فصل أخر مع هنادي
بإذن الله تعالى
هنادي
الفصل الثالث
استعانت هنادي أن تستعين بأحد الطهاه في تطوير نشاطها فيما ودت أن تقدمه لزبائنها ، فبدلا من اكتفائها بطبق الكشري المكون من الأرز والمكرونه وقليل من حبات الحمص والعدس وقليل من صلصة الطماطم المسبكة ،صنعت الهامبرجر والحواوشي وطواجن اللحمة والباشمل ، فتنوعت زبائنها وجلبت إلى مطعمها فئة قادرة على الدفع ، كتقديم وجبات كاملة من الدجاج المشوي تحتوي على الارز والسلطة الخضراء والحمراء والخبز وجميع الخضروات ، حتى سادت وتسيدت الزمان والمكان ، فقصدتها العائلات وأصحاب الدخول المرتفعة، كما قصدها من قبل العمال والفقراء وأصحاب الأعمال الذين يسعون لوجبة سريعة ليس فيها تكلف ، فاستطاعت أن تسحب السجادة من تحت أقدام الكثير ين من أصحاب الشهرة في مجال المأكولات ، وصعد نجم هنادي وارتفع في عنان السماء حتى باتت تسطع في سماء المدينة كلها ...و كان ممن بات يقصدها زبونا لم تعره بألا وانتباها ، شأنه شأن الكثيرين الذين يترددون على مطعمها ويقصدونه ، عادة ما يأتي إلى المطعم في المساء ، يجلس هناك على طربيزة تقع في الركن الهادئ كما يسميه هو ، يبدو أنه من الذين يعشقون الهدوء ، يكاد عمره لم يفارق العقد الخامس إلا بعام أو عامين ، يتبعثر الشعر الابيض في رأسه وينتشر ،طويل متزن يبدو عليه الوقار ، مهندم في لباسه ، دائما ما يخفي عينيه تحت نظارته العسلية الفاتحة ، لا يأتي مترجلا يأتي بسيارته السوداء ، يقف قريبا من المطعم ثم يدخل لتناول طعامه ، جاء اليوم مبكرا على غير عادته ،جلس في مكانه المعتاد له ، لم يكن في هذه المرة وحيدا ، بل جاء بمن يصاحبه ويمشي خلفه ، طلب طعاما لنفسه ورفيقه ، لاحظت هنادي أنه بنظرها ويرمقها من خلف زجاج نظارته العسلية ، كانت الحركة في المحل مكتظة ،لا تجعلها ولا تسمح لها بالوقوف طويلا أمام كل ما تشاهده أو تراه ، أنهى الزبون ورفيقه طعامهما ،تقدم الزبون المهندم صاحب النظارة العسلية إلى هنادي ليدفع قيمة فاتورة طعامه .. صاح العامل المخصص في تقديم الطلبات .. مئة جنيه يا معلمة ، ناول الزبون المعلمة هنادي الحساب حاشرا بين النقود بطاقة تعارف ، الزبون : تفضلي يا هانم الحساب ...
لاحظت هنادي البطاقة المحشورة بين النقود وهي تتناول النقود منه .. ما هذا ؟. الزبون : بطاقة تعارف خاصه بي. ... هنادي دون أن تنظرها جيدا : وماذا أفعل بها و لماذا التعارف يا أستاذ ؟ . الزبون : أرجو أن لا يساء فهمك لي ، فأنا أقدم لك نفسي وهذا شرف لي ، أنا العقيد كرم الماحي ضابط شرطة ، لم يكمل حديثه معها ، فانقبض قلبها وتغيرت ملامحها في الحال . رأى العقيد كرم أثر الموقف على وجه هنادي ؛ فتبسم ابتسامة عريضة وهو يقول لها : لا تخافي ولا تنزعجي .. أنا طالب قرب ، وطالب حلال ، هنادي :وكأنها لم تسمع ما قاله وتنكره . يا سعادة البيه :أرجوك أخبرني ما الحكاية وما القصة؟. العقيد كرم وابتسامته لم تفارقه ، كما قلت لك بالضبط وتستطعين أن تتحري عني وهذه البطاقة ستيسر لك معرفتك بي والسؤال عني ،.....
فلا ترفضين ولا توافقين سأنتظر حتى تأخذين وقتك في التفكير و تأخذين قرارك على مهل وتدبر .ثم تركها وغادر هو وصاحبه ..إنسامت هنادي وتركاها في لجة من الطوفان كل لا تعرف كيف تنجو من الغرق
ومع هنادي وفصل أخر
باذن الله تعالى
@@@@@
هنادي
الفصل الرابع
ترك العقيد كرم هنادي في موقف لا تحسد عليه ، لقد تقدم الكثير لها بغية الزواج منها ، تقدم إليها موظفين وأصحاب محلات ، وممن يقول منهم رجل أعمال ، من لحظة أن مات زوجها ، وهي تعلن الرفض
وتقدم لكل خاطب لها سببا مقنعا للرفض ، فإذا تقدم خاطب من أصل صعيدي تعللت بأن قبيلتها لا تزوج بناتها خارج القبيلة ولا ترضي بذلك ولا أهلها يقبلون ، وإذا تقدم لها خاطب من أصول فلاحية إدعت بطريقة ظريفه لا يزوج الصعايده بناتهم للفلاحين ، كانت تقدم رفضها للمتزوجين وترفض أن تكون زوجة ثانية ، أو ضرة لغيرها ، كانت هنادي ترى أن أغلب المتقدمين لها أصحاب نزوات وأهل طمع ، وتعتقد أن كل ما بنته سينتهي أمره في طرفة عين ، والعقدة ما زالت بها من جنس الرجل لما تراه في إخوتها من تسلط وطمع ،وما يصنعونه لزوجاتهن ، تخشى هنادي أن تعود لما كانت عليه ، فيصفع خدها من جديد كما كان يصفع من قبل ... حارت هنادي في أمرها ، فلا تعرف هل ترد هذا الخاطب أم توافيه بالقبول ؟.. وماذا لو قبلت لطلب ورفضه إخوتها وأهلها ؟.. وهل العقيد كرم سيكون لها أم سيجعلها سجينة في شقته ويهدم كل ما قامت ببناءه ؟... أسئلة كثيرة دارت في رأسها ، لكنها وقفت على حين غرة ، وهي تتحسس قلبها ، لقد أخفت هنادي مشاعرها عن الدنيا كلها ، حتى تكاد تكون قد أخفت مشاعرها عن ذاتها ، واعتلت شفتاها ابتسامة عريضة وبرقت عيناها فجأة . لكن ماذا عن هذا الذي كلما رأته هنادي دق قلبها ......!؛