التخبط في مفهوم الشخصية النامية في قصة "علي مبارك"
(1)
الشأن في الحياة هو الشأن في الأدب بالنسبة إلى الناس.
كيف؟
في الحياة يكون الشخص الموجود في الحدث هو المسلط عليه الانتباه فيُلاحظ سلوكه وانفعاله، ويُحلل تصرفه وعمله وقوله. ويكون الشخص البعيد عن الحدث غير متغير؛ لأننا لا نهتم به، فلا تظهر منه إلا السمة الخارجية التي لا ننتبه إلى تغيرها، أو لا يعنينا أن ننتبه إليه فيها.
وفي الأدب تكون الشخصية المحورية هي التي نتابع تفكيرها ونلاحظ تصرفها، ونسلط الضوء عليها، فتبدو لنا مختلفة على وفق تصرفها المحكوم بقيمها ومبادئها وضغط لحظتها. والشخصيات الأخرى لا يهمنا منها إلا المظهر الذي قد يكون مهنة كالمحامي الذي يتابع قضية الشخصية الرئيسة أو الطبيب الذي يعالجها أو البواب الذي يفتح لها الباب أو خازن السيارة الذي يخزن سيارتها أو ... إلخ، أو صفة كالصديق الذي يساند صديقه دائما أو يخونه أو ... إلخ أو الزوجة أو ... إلخ.
ومن ثم فإن هذه الشخصية الرئيسة تسمى "الشخصية النامية" أي المتغيرة التي تتفاعل والأحداث تفاعلا يلقي الظلال على جوانب والأضواء على جوانب أخرى، والشخصيات الأخرى تسمى "الثابتة أو المسطحة أي التي لا عمق لها" أي التي لا يكون لها إلا وظيفة واحدة.
وكلما كثرت الشخصيات المتغيرة في العمل الأدبي كان مفعما بالحيالة ومزدحما بها وعميقها، وكلما كثرت الأخرى كان نمطيا سطحيا.
ويحتاج رسم الشخصية الأدبية في كلا النوعين خبرة بالأدب وبالحياة.
كيف؟
إن رسم الشخصيات ومنحها معالمها المميزة يحتاج فهم الموقف الذي تعيشه الشخصية وفهم طريقة صوغه والتعبير عنه، وهذا يقتضي خبرة بالحياة والأدب.
وكلما أحسسنا الشخصية مألوفة لنا، وانمحت بيينا وبينها المسافات، ولم ننبته إلى أنها شخصية أدبية- كان الحسن الأدبي وجودة صنعته، وكلما حدث العكس دل على العكس سواء أكانت الشخصية رئيسة أم لا.
وفي الأعمال التاريخية يفرض على الكاتب أن يكون الشخص الذي يدور حوله العمل الأدبي هو الشخصية النامية التي نتابعها مع خط الزمن الصاعد من مبدئه حتى منتهاه، لكن الكاتب الجيد يستطيع أن يمنح الشخصيات الأخرى حياة عميقة بصنعته وإجادته، فإن لم يكن جيدا فإنه يمسخ الشخصية الرئيسة والشخصية غير الرئيسة أيضا.
كيف؟
بأن يمنح نفسه حق التدخل في تفسير سلوكها الذي قد يتناقض بتأثير مواقف الحياة، فيقع في التناقض هو أيضا، وهذا هو ما وقع فيه كاتب قصة "علي مبارك" المقررة على الصف السادس الابتدائي.
كيف؟
(2)
في الفصل الثالث المعنون بـ"السجين المظلوم" والممتد بين ص39 وص44 أي ثلاث ورقات- يقع الكاتب في تناقضات كثيرة مما يجعل الشخصية تبهت في عين القارئ.
كيف؟
في مفتتح الفصل ص39 يقول الكاتب عن "علي مبارك" من خلال ذهن والده الشيخ مبارك: "مط الشيخ مبارك شفتيه وهز كتفيه عجبا من هذا الصغير العنيد الذي لا يرضى أن يفرض أحد عليه رأيا، ويأبى إلا أن يجرب العمل بنفسه ليوافق عليه أو لا يوافق. ثم ذهب إلى ذلك الكاتب ورجاه أن يقبل ابنه تلميذا له، فوافق على طلبه".
بم يوحي هذا الوصف من المؤلف؟
يوحي بأن الصبي "علي مبارك" يمتلك نضجا ووعيا ومسئولية، وهذا مثير للإعجاب، فهل يستمر إعجابنا؟
لا.
لماذا؟
لأن المؤلف بعد ثلاثة أسطر يقرر النقيض.
كيف؟
يقول المؤلف بعد ثلاثة أسطر عن الكاتب الذي طرد "علي مبارك" ص39-40: "لكنه لم يمكث طويلا معه، وطرده بعد ثلاثة أشهر من خدمته؛ لأنه كان لصغره يتحدث إلى الناس ببساطة عما يأخذه الكاتب من الفلاحين، ولا يعرف خطر ذلك عليه".
بم يوحي هذا الوصف الجديد؟
يوحي بأن "علي مبارك" مجرد صبي غرير ساذج لا يتحمل من المسئولية إلا مسئولية تنفيذ ما يأمره به الكبار، أما ما وراء ذلك فلا.
(3)
وفي الصفحة ذاتها وفي بقية صفحات الفصل تناقضات أخرى تتصل بعلي مبارك والكاتب والسجان وغيرهما قد أشرت إلى بعضها في مقالات سابقة هي:
(المبالغة في رسم شخصية "علي مبارك" زمن طفولته)، و(العقدة المصطنعة في قصة "علي مبارك" التعليمية)، و"عندما يكون الكاتب تابعا لشخصيته الأدبية".