/ تبـادل رؤوس
--------
حرمانُه من الدراسة ، وفقرُه ، سخَّنا جمجمتَهُ بأفكار غريبة تأتيه من وحي مخَيّلة خصبة لتأليف الأوهام ، والتلذُّذ بها ، قبل أنْ يطيحَ النومُ بجسده المتعبِ الهزيلِ .
حدتْ به يوماً رغبةٌ في أن يبادلَ رأسَهُ برأسٍ آخرَ مدجَّجٍ براحة البال ، والمــالِ ، والعافيةِ. أرادَ أنْ يعرفَ كيفَ يتعاملُ رأسُهُ البائسُ مع جسدٍ مترفٍ ينزُّ عبر مسامات جلده ، العسلَ ، ورائحةَ الهيلِ .
تطابقت رغبتُهُ مع رغبةِ أحد الأَغنياء ، الّذي أتى به القدرُ يجرُّهُ ؛ لاختيارِ قرافةِ ماجد. جلسا في مكانٍ منعزل عن المارَّة ، على أريكة من الخشب ، وضعتها بلديةُ المدينة في إحدى حدائقها العامَّة ، غيرَ مبالين لتهكُّمات الناظرين ، لرفقة رجلين ؛ هذا عذبٌ فرات ، وهذا ملح أجاج.
أفصحا عن رغبتهما المجنونة. رتَّبا أمرَهما للبحث عن طبيبٍ حاذقٍ ، يقوم بتلك المهمَّة.
تجاذبا عشرات الأسئلة في جوٍّ اصطنعَاهُ بينهما ؛ جوٌّ جاهمٌ مرَّةً ، وضاحكٌ مَرَّةً ، وساخر أُخرى. تعاهدا أنْ يعودَ كلُّ جسدٍ الى رأسه بعد مدَّةٍ .
تسائل الفقير عن كلفة العمليَّةِ ، وَأجابه صاحبُهُ:
ـــ ولتكن ما تكون... ما زال تلك رغبتنا.
تجهم وجه ماجد لقَوْلِهِ : ( ولتكن ). التصق نظرهُ الى غصنٍ نامٍ للتوِّ ، على أرضيَّة الحديقة.
انفرطت حاوية نكده بهذيان مُــرٍّ.
ــــــ آخرُ ما تمكّـّنه جيبُ أبي - قبيل أنْ يعلنَ العوزُ انتصاره - أوصلني إلى مرحلةِ الدراسةِ
الإعداديّةِ.
شُعلةُ ذكائي ، وحبُّي للمدرسةِ ، أطفأتهما الفاقةُ ، وموتُ أبي .
تركت المدرسة ، وتنكّبتُ بإرثِ أبي ؛ لمقارعة العوز. يجمعني اللّيلُ مع كتب اللغة العربيّة ، الشغوف بها ، ونهاراً مع عربتُي المشدودةُ إلى حصان ؛ لبيع الثلج في أزقّة الحُفاة .
لديَّ خمسةُ أطفالٍ مع أمهم نسكن (التجاوزات) , في غرفة من البلوك الإسمنتي للنوم جماعة. مطبخ صغير وحمام من الطين، مطليّان من الداخل بالإسمنت. وسياج من صفائحَ متآكلةٍ من (الجنكو)، يستر واجهةَ ما مُسَمَّى البَيتِ . وجوهنا متخشبة بسموم صيف ، تدوّره فوقنا مروحةٌ سقفيَّةٌ قديمةٌ. نستحمُّ مرة في الأسبوع ؛ لشحّـة الماء . تهتزُّ أجسادُنا طوال اللَّيل ببرد الشتاء. ما أحصل عليه في مهنتي بالكاد يسدُّ خواءَ أمعاء عائلتي .
جرَّ نظر صاحبه الى معاينة أطرافه .
ـــ انظرْ لا أملكُ الوقت لقص أظفاري ، أو حلاقة شعري .
ثمَّ ابتسم بحياء ، قائلاً:
ــــ تصـوّر حتى شعر ما بين فخذي .
الرجل الغنيُّ طال به الصمتُ ، وشرودُ الذهن . وخزه بإصبعه الجافِّ الخشن .
ــــ (هااااااه شبيك ... وين رحت ؟ ) .
قطع سكونه بضحكة عالية. انتظره الآخر حتَّى يكملها ؛ ليسأله عن السبب.
ــــ تخيلتُ جسدي الناعم الطريّ، حينما يأخذه رأسك لمملكة العوز. كيف له أن ينام بهذا الزمهرير ؟ أكيد أن معدتي ترفض ما وصفته لي من طعامٍ . أينَ استحمُّ ؟ وكيفَ ؟ تلكما قدماي الناعمتانِ ستمرغانِ بروث حصانك ، الَّذي يجوب الأزقّة كلَّ يومٍ ! ههههه قلْ لي : ما جوابُك لأولادك وزوجتك ، وهم يُفاجئون بهيئتك النشاز؟
انفجر ماجد ضاحكاً بعد سكوت :
ــــ الله .. الله .. يا فرحة زوجتي ، وهي تتلوَّى بجسدها الخشن ، على جلد أملس كالصَّابون
، الَّذِي يُكتنز تحته تلٌّ من اللَّحم. الله !
أنا سأرتاح من نكد معدتي ، وانتفاخِ قالوني ، ووجعِ مفاصلي. لم أصدّق بأنّي سأنام بلا
وجعٍ .
ثمَّ سكتَ ، ووجمَ وجهُهُ وقالَ :
ــــ لكنَّها فرحةٌ ، كعمرِ الورد . عريشتنا ستناصب جسدَكَ العداءَ. ستمتصُّ عافيته في أيام
معدوداتٍ ، وليس بمقدور جمجمتي الفطنة أنْ تحمي جسدَكَ من مخالب العوز. ستلقاني
يوماً بنفس جسدي هذا الذي سأهديه إليكِ. إِنَّها عمليَّةٌ خاسرةٌ بالنسبة ليَّ ، ورابحةٌ لكَ .
ــــ كيف؟ وما باب الربح مع جسدك الهزيل القرف هذا يا صديقي ؟ ربما ستعرِّضُني ساقاك
هاتانِ إلى حادثٍ مروريٍّ ، وهما لم يعتادا ركوبَ سيَّارة فارهةٍ . أنا على يقين أنَّ رأسي
سيعاني من تروّض جسدك طويلاً . كيف يُمسك الملاعق ؟ أو يرتدي بزة الحرير ، أو..؟
ردَّ الفقير، وقد علت وجهَهُ سحنةُ الدُّعابةِ:
ـــــ حمّامكم الفارهُ الدافئُ يا سيدي ، سيستقبل جسدي بالماء الحارِّ ، والغسولات ،
والمزيلات ، قبل أن تُفاجأ زوجتك بقرافة جسدي، وكومة الشعر المتشابكة أسفل بطني .
لقمتكم الترفةُ الناعمةُ ستنفخ جسدي بالعافية ، وسينتصب رأسك على جسد أشدُّ من هذا
الذي تمنحني إيَّاهُ .
أنا على يقين بأنّك مَنْ سيُخلفُ العقد بيننا ولن تردَّ اليَّ جسدي حسب المدَّة الَّتي اتَّفقنا
عليها.
ــــ وهل أنا سيّءٌ إِلَى هذه الدرجة ؟
ــــ تلك رغبة زوجتك ، الَّتي سترى لذَّة معاشرة مميَّزة ، على سرير لن يهدأ الحراك عليه
طوال الليل . أرجوك لا تحرجني بـ(لماذا) ؛ لأنَّ الأمرَ مُخجلٌ .
نهض الرجل الغنيُّ ممسكاً بيد صديقه :
ــــ دع عنك هذه التقوّلاتِ السمجة ، ولنذهبْ للطبيبِ .
أمسك بتلابيب صاحبه الغني . متفوهاً بسؤال حائر :
ــــــ أنت على يقين باننا نجد طبيباً يستمع لما نصبو اليه ؟
ــــــ أعتقد الأمر ليس بالهيّن ! أنا خائف على رأسي الثمين . أنت ليس لديك ما تخسره ,
لو فشلت العملية لا سمح الله .
ــــــ لـديَّ الحلُّ إنْ أصبحتَ لي صديقاً مخلصاً .
ــــ هاتِ ما عندك يا صديقي الحميم .
ــــ ما رأيُكَ في أنْ أمنحكَ بعضَ نكدي ، وتجـود عليَّ بقشـور غناكَ؟
حملق الرجل يرشُّ نظراتَه الطريّةَ على تجاعيدٍ، وشيبٍ ، وجفافٍ ، غزا وجهَ إنسانٍ لا زال
في عُمـرِ الشباب . تأخَّر جوابُ الرجلِ الغنيِّ طويلاً ، ثمَّ انفرجت الغًمــةُ بابتسامة رضًا.
تعانقا وسط استغراب المارَّة من تلاحم جسدين لا رابطة بينهما ، غيرَ الإنسانيّةِ.