لحظة إشراق ضائعة ــ قراءة ــ للشاعر الأستاذ / العربي حاج صحراوي
قدرُ اللهِ أنني لا أراك .... حين زرت منزلي يا ملاكي
جاءت لمنزله ، لم يكن موجودا ، وهنا كي يخففَ من وطأة هذا الحدث ، يعود ليقينه الديني ، يدرك أن القدر حال دون وجوده حتى يُمتّعَ قلبه بها ...
وتهادى النهار من مطر الإش ..........راق يشدو بالشوق : ما أحلاك!!
النهار الذي أراده الشاعر ربما ليس نهارنا الذي نعرف ، فهو نهار أطلَّ على قلبه حين حضرت لمنزله ...وهذا النهار كان يشدو فرحا مرددا كم أنت جميلة ، وهنا النهار يتعجب من هذا الجمال ..
ليتني كنتُ حين عانقت بابي ... جرسا ذاب إذ سقته يداك
هنا كان لا بدَّ لشاعرنا أن يدخل دائرة الأمل والرجاء ، أنظر لهذه الصورة الجميلة التي يتركها لنا لنتأمل معه مرارة غيابه في ظل حضورها ، هنا يرسم لنا صورتين جميلتين ، فهي حين دنتْ من الباب عانقت الباب ، والعناق يكون عند التلاقي ، فهي تعانق باب الشاعر وهذه دلاله على ما تحمله في قلبها له ، فهي تحبه ... أما الصورة الثانية ، فيتمنى أن يكون جرس الباب ، وهذا الجرس سيتحول لشيء يذوب من حرارة اللمس من يد حبيبة تشعلُ كلَّ شيء ..كل شيء حتى شاعرنا في صورة الجرس ...كيف لا ويدها ستلمس العاشق / الجرس .
ليتني قبّلتُ الترابَ الذي قد ...وطأته في نشوة قدماك وتنشقتُ ما زكا من بقايا ...أثر أحلى من عبير شذاك
هناك كان يتمنى أن يكون جرسا تلامسه يدها ليذوب حبا وشوقا ...وهنا يتمنى أمنية أخرى ، لو أنه قبّل التراب الذي داست عليه ، ولو أنه شمَّ عبيرها المنتشر في المكان ...
هنا يود الشاعر أن يقول لنا أن هذه المحبوبة ليست ممن يزورنه دائما ، فهي ليست ابنة عم ، وإنما هي زيارة عابرة قد لا تتكرر ، ودلاله ذلك مفردة ( فرصة) ، وهنا هذه الفرصة يرى أنها ضاعت ، لهذا نراه حزينا باكيا ، وأشار لنفسه بالقوافي ، وهو تعبير جميل عميق ، حين شبه القصائد حزينة متألمة ، وفي الحقيقة أن الحزين المتألم هو العاشق نفسه ، وحزنه تجلّى في شعره فبات حزينا باكيا ...عميق الجرح .
وأنا الضائعُ الذي ليسَ يصحو ....من أفول وغيبة عن رؤاك
وهنا في قوله ( أنا الضائع ) كأني بالشاعر يريد أن يؤكد لنا أن القوافي الحزينة هي نفسه ، فجاءت جملة ( أنا الضائع ) تعميقا للبيت السالف ، وهنا في هذا البيت أراد شاعرنا أن يجيبَ على سؤال ربما يسأله له سائل ( لماذا كل هذا ، وهل تستحق هذه المحبوبة ذلك ؟؟) ، بالكاد نعم لأنها قمر في الجمال ونجمة ساطعة ، ودلالة ذلك مفردة أفول ومفردة غيبة ، فالأفول والغياب يكون للقمر والنجوم ، فهذا العاشق أصيب بحالة من الضياع لا يفيق منها بسبب غياب محبوبته الجميلة عن عينيه وفوات فرصة قد لا تتكرر عندما زارت منزله .
أي يوم قد عشت والعمر ما أحببت ...فيه من خيبة، غير شاك قد مشينا والحلم يسبقنا دو...ما وخطوي ، كان عكس خطاك
وحالة التشاؤم تحلق في فضاء الشاعر ، الشعور بالخيبة يجعله ينظر لكل شيء نظرة سوداوية ...وهنا ربط مع مقدمة القصيدة وعودة لها حين يرى أنَّ غيابه عن منزله في اليوم الذي قررت زيارة المنزل ، ما هو إلا تحصيل لحالة الشؤم التي يعيشها ، فيرى أنه يمشي وهي تمشي والحلم يسبق خطوه دائما ، وهنا قام الشاعر بتوظيف الفعل المضارع ( يسبقنا ) ليقول لنا أن هذه الحالة مستمرة وجاء بمفردة ( دوما ) من قبيل التأكيد على هذه الحالة . ويُجسد مجددا الحالة التي تحدث عنها في مطلع القصيدة بقوله أن طريقه كانت دائما تسير بشكل معاكس لطريقها ....
وتباعدنا من زمان ضنين ...قد رمى بالمحب صوب الهلاك
هو الزمان بخيل في اللقاء ، كريم في البعاد والتجافي بين العاشق ومحبوبته ...وهذا البعد وهذا الجفاء كان سبيلا ليلقي به لمهاوي الموت .
فانظري ماذا تبصرين ؟؟ بقايا .... عاشق يرجو أن يكون فتاك
في هذا البيت ، يخاطبها ، ولكن هذا الخطاب بينه وبينه ، فهو خطاب النفس والروح الذي يوجهه لها بحسرة عندما يتأمل حاله وما فعل به البعد والنوى ، فهو بقايا من شخص تناثر عشقا ، كم كان يتمنى أن يكون فتى هذه الحسناء . وهذا الحوار الداخلي يقدمه الشاعر لنا في صورة جميلة ، فهو مريض بحبها ، لم يبق من سوى القليل ، ولكن الأمنيات ما زالت ...
غير أن الأقدار شاءت بديلا ....فرمته في يأسه عيناك
هنا لوم للقدر الذي حال بينه وبينها ، وجعل النوى والبعد يحولان مكان الوصال والتلاقي ... ولكن لماذا يقول الشاعر : فرمته في يأسه عيناك !! هنا أراد الشاعر أن يقول لنا أن هذه الحالة التي وصل لها كانت نتاج نظرة جعلته يتعلق بها ويحبها ثمّ ما لبث بعد حبه لها أن حالت الأقدار دون الوصال ، فكأنّي به يقول أن السبب لما أنا فيه هو عيناك ، حيث سقطتُ في اليأس ، وهنا إستعارة جميلة .
فدعي يا عزيزتي ليل حبي ....يقبل الآن رغم نور ضحاك
هنا يثور أمامنا التساؤل التالي : لماذا قال عزيزتي ، ولم يقل حبيبتي ، ولماذا قال ( ليل حبي ) ولم يقل فجر حبي / شمس حبي ....
هنا الشاعر يرى أن حبيبته عزيزة الوصال ، وهنا يناجيها في حسرة وحزن ...ويرجوها أن تسمح لليل الحب أن يعود ، فالليل عند العاشق طويل ... وفي هذا يقول المتنبي : ( ....وليلُ العاشقين طويل ) .
الشاعر العربي حاج صحراوي ، شاعر له أدواته ، وخياله الواسع وأسلوبه المميز ... قدّم لنا هذه القصيدة الجميلة نظما وبناء ومعنى ..وهي قصيدة وجدانية جميلة ، امتازت برقة الحس والمشاعر ، وهي قصيدة في مجملها عبارة عن مقطوعة من الغزل الرقيق ... حاولت هنا الإقتراب من القصيدة وتقديم هذه القراءة ، حتى نقدّم للقاريء هذه القصيدة الجميلة لشاعر مبدع .