هذا العنوان أعلاه هو جزء من حديث رسول الله عَلَيْهِ السلام: "عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -عَلَيْهِ السلام- إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ:أَتَصْنَعُ هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُوراً". (صحيح مسلم).
والشكر: الاعتراف بنعمة المُنعِم على وجه الخضوع، وإضافة النعم إلى مُوليها، والثناء على المُنعِم بذكر إنعامه، وعكوف القلوب على محبّته، والجوارح على طاعته، وجريان اللسان بذِكره، وهو مع الناس بالمجازاة على الإحسان والثناء الجميل على من يقدِّم الخير، وهو من خِلال الكمال، وسمات الطِيبة والنّبل، وموجبات ازدياد النِّعم واستدامتها.
كما أنَّه من القيم العامة التي تتزامل مع مناشط الوجود الإنساني؛ بين الإنسان وربّه، والإنسان ووالدَيه، والإنسان والناس... فبعد أن كان الإنسان يتوق إلى وسيلة توفِّر له التخاطب والتواصل لتحقيق ماهيّة الاجتماع البشري، ووجد ضالّته في اللغة، أضحى باحثاً عن وسيلة تُغلّف حاجته بشيء من اللطف والعناية، فكان الشكر أبرز ما وجد حتى إنّه غدا المرآة الكاشفة عن هويّة الأفراد وبيئاتهم وفئاتهم المختلفة.
والشكر في الخطاب النبوي من أظهر القيم في ذلك الخطاب، التي تحتضن التواصل والاتصال بكلمات شجيّة تنساب من معين النبوّة العذب فمع كلّ نظرة يسرحها الطَّرف، أو كلمة ينطق بها الفم، أو عضو تحرِّكه الإرادة، أو نَفَس يتردَّد في الجسد، تجد الشكر بادرة الرسول عَلَيْهِ السلام في كل ذلك.
وفي الحديث المذكور تظهر قيمة الشكر جليّة بوصفها تطبيقاً عمليّاً من تطبيقات الهدي النبوي الشريف، فالرسول عَلَيْهِ السلام - وَقَدْ غُفِرَ لَه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه وَمَا تَأَخَّرَ - يُترجم هذه القيمة سلوكاً واضحاً حتى يقدّم للبشريّة جمعاء، الأنموذج الحي للوحي الإلهي.
ولعلَّ أكثر ما آنس الوقوف عنده في هذا الحديث مفردتا:"عبد"، و"شكور". فقد اصطفى المصطفى عَلَيْهِ السلام كلمة عبد دون غيرها؛ فالعبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معاً، هذا مدلولها، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط. وقد اختار عَلَيْهِ السلام هذه الصفة بالذات ولم يختر صفة(النبوة) أو (الرسالة)؛ لأن الله تعالى جعل في الكون قانوناً عاماً للناس، وقد يُخرَق هذا القانون أو الناموس العام ليكون معجزةً للخاصة الذين ميَّزهم الله عن سائر الخَلْق، فكأن هذه الكلمة (عبداً) هي الحيثية المفسِّرة لخصوصيّته عَلَيْهِ السلام في العبادة، وَقَدْ غُفِرَ لَه مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه وَمَا تَأَخَّرَ. أي تحقّقت له عَلَيْهِ السلام الخصيصة السابقة؛ لأنه صادق العبودية لله، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أنْ يكون له خصوصية عن غيره، فمغفرة الذنوب عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله، وكان عَلَيْهِ السلام يفهم دقائق القَصْد من العبادة، فكان يُكثر منها، بحيث كان ذلك معروفاً لسائر مَن يتَّصلون به، ويقنتون قنوته، ويعرفون تفاصيل سيرته الشريفة العطرة.
أمّا المفردة الثانية فهي قوله عَلَيْهِ السلام (شكوراً)، وهي على الوزن الصرفي (فَعول) الذي يفيد المبالغة والتكثير؛ فَمَن يوصف بصفة (الشكور) أي أنَّه كلّه شكر، وهو يفنى ويستنفد في الشكر.
وقد انتقى عَلَيْهِ السلام هذه الصفة، ولم ينتق صفة (الصبور) مثلاً؛ لأنَّ الشكر يكون أكثر في الحياة، فالشكر على نِعم الله علينا، لذلك فهو متوافر في كلّ لحظة بما يتزامن مع نعم الله، أمّا الصبر فهو يكون في أوقات محدّدة كالشدة مثلاً.
بهذه الحروف التي تنزف أسمى معاني الإخلاص تبدّت واضحة قيمة الشكر في الخطاب النبوي.
وكان واضحاً أنّه عَلَيْهِ السلام يُرغِّب المؤمنين بهذه الصفة؛ بحيث تكون ملازمة لحركاتهم وسلوكيّاتهم أثناء تواصلهم مع الآخرين، فالإنسان مجبول على حب الخير والانتماء إليه، وكراهية الشر والنفور منه؛ فمع الخير يأتي التوافق النفسي ويكون الرضا، ومع الشر يأتي احتقار الذات ويكون الحرج.
الخطاب النبوي مليء بهذه المعاني غير أنَّ الخريطة الدماغيّة للبشر تأبى جَسْر الهُوَّة بين "تجليّات الفكرة وغموض التطبيق". فالشكر دليل على نُبل في النفس، وسماحة في الخُلق، وكِياسة في التصرف، ولكنْ هل حظي بسهم من منظومة الإنسان التواصلية؟
محمود قدوم
عن جريدة الغد