كان أول موقف وجودي لنا على هذه الأرض موقفا إيمانيا لغويا حواريا بين الله تعالى وبيننا، يقول الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) ﴾.
هذا الحوار اللغوي الإيماني هو سلف كل مواقفنا في الحياة، وعليه فالإنسان سلفي بطبعه يبحث عن سابق؛ ليكون له رائدا ممهدا درب الوطء. وكلنا تابع؛ لذا فلا يحل لأحد أن يتهم آخر بالتبعية، إنما يتهمه بمرجعية تبعيته؛ إذ الكل تابع وإن ادعى غير ذلك.
(2) السلف الممدوح
إن اتباع السلف قد يكون ممدوحا إذا علمنا أسس سلوكهم، وعلمنا أنها موافقة الشرع الحنيف. وهذا التقليد الواعي مبني على اللغة التي تستخدم في نقل الخبرة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق، وتظل الخبرة موجودة مادام وعاؤها اللغوي موجودا، وإذا تغير الوعاء الذي هو اللغة تغير المفهوم والموضوع.
وقد ورد النموذج الإيجابي الممدوح المعروف بالأسوة الحسنة في القرآن الكريم في سورة الأحزاب حيث قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) ﴾، وفي سورة الممتحنة ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) ﴾، وفيها أيضا ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) ﴾.
(3) السلف المذموم
وقد يكون التقليد مذموما إذا لم نحاول تجريد أسس سلوك من سبقنا وعرضها على الشرع لنعلم موافقتها من عدمها، وعلى الرغم من ذلك نتبع ونقلد. وهذا التقليد غير الواعي مبني أيضا على اللغة التي تستخدم في نقل الخبرة من الجيل السابق إلى الجيل اللاحق، وتظل الخبرة موجودة ما دام وعاؤها اللغوي موجودا، وإذا تغير الوعاء الذي هو اللغة تغير المفهوم والموضوع.
وقد وردت النماذج السلبية السيئة حيث نجد التقليد الأعمى الذي يقف عقبة كأداء في سبيل التوحيد الذي هو هدف الخلق كما قال تعالى في سورة الذاريات: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) ﴾- في القرآن الكريم والسنة النبوية، وطالبَا بتغييرها، وبناء لغة جديدة تلائم المحتوى الشرعي الجديد.
إن قوة المقلد تكون حسب من يقلَّد، فلو اختار المرء لنفسه قدوة مضعيفة صار مثلها، وإن اختار العكس فالعكس.
وقد رأينا الشاعر محمود سامي البارودي رائد مدرسة الإحياء والبعث قد تمكن من الإحياء والبعث بالعودة إلى عصور القوة التعبيرية واحتذائها وتمثلها ومحاكاتها، وكذلك فعل المرصفي في "الوسيلة الأدبية".
ولأننا نعاني الضعف والقوة لزمنا أن نعود إلى عصور الاحتجاج عصور القوة في اللغة والحضارة ومن تمثله في العصور تاليته لنستحضر نموذجه ونحاكيه ونتلبسه ونتمثله، مسترشدين بمعنى الحديث الضعيف الذي رواه الترمذي وغيره (حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُمَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا).
فلعل وقت القوة تكون قد بدأت بداياته، وأولها رفض نقاط الضعف في المحاولات التي يرتئيها بعض الأستاذة الكبار كالأستاذ الدكتور أحمد مختار عمر الذي يحمل منهجه في كتابه وبرنامجه "معجم الصواب اللغوي" توسعات تذهب بعيدا عن عصور الاحتجاج.
وأنقل هنا مقدمته كاملة لنلمس القوة والضعف!
المقـدمة
على الرغم من كثرة ما تحويه المكتبة العربية من مؤلفات تتناول أوجه الخطأ والصواب في اللغة فإننا لم نجد واحدًا منها وافيًا بالغرض، مستجيبًا لحاجة المثقف العام، محققًا لمطلب ابن اللغة الذي يبحث عن المعلومة السريعة، والرأي الموجز، وينشد التيسير الذي لا يضيّق واسعًا، ولا يخطّئ صوابًا.
وأهم ما لاحظناه من عيوب في أعمال السابقين ما يأتي:
1- عدم شمول أي منها لكثير من الألفاظ والعبارات والأساليب التي تشيع في لغة العصر الحديث.
2- تشدُّد بعض منها في قضية الخطأ والصواب، ورفضه لكثير مما يمكن تصحيحه بوجه من الوجوه، مما أربك الدارسين، وأوقعهم في متاهات ((قل ولا تقل)). وقديمًا قيل: ((أنحى الناس من لا يخطئ أحدًا)). ومن ذلك تخطئتهم كلمتي ((مَتْحَف)) و ((مَعْرَض)) مع ما وجده مجمع اللغة لهما من تخريج سديد. وتخطئتهم النسب إلى الجمع على لفظه، وفتح همزة ((إن)) بعد القول و ((حيث)) مع صحتها بشيء من التوسع.
3- انشغال بعض منها بقضايا تراثية، وألفاظ مهجورة قد جاوزها الزمن، ولم يعد لها وجود في لغة العصر الحديث.
4- تقليدية الكثير منها، واعتماده على آراء السابقين التي يقوم بترديدها دون تمحيص.
5- وقوف معظمها عند فترة زمنية معينة لا تتجاوز القرن الرابع الهجري، مما استبعد من المعجم اللغوي مئات من الألفاظ والعبارات والتراكيب التي جدت بعد ذلك، ودخلت اللغة، ولم تدخل المعاجم.
6- وقوع بعضها في الخطأ بقبولها ما هو خطأ محض، ورفضها ما هو صواب محض؛ كتخطئة زهدي جار الله ((تعاليا إلى هنا))، ونصه على أن الصواب ((تعالا إلى هنا))، (الكتابة الصحيحة ص 256)، ولم يقل بذلك أحد سواه، وتخطئته جمع مكفوف على مكفوفين ذاكرًا أن الصواب مكافيف (السابق 313) وهو ما لم يقل به أحد، ولا يصح القول به.
ويعد من هذا مصطلح ((نزع الخافض)) الذي لم يرد في معجمنا إلا خمس مرات اقتضاها السياق، وفضلنا عليه ((حذف حرف الجر)).
7- الاقتصار في المادة المعروضة على ما يشيع في لغة العصر الحديث على ألسنة المثقفين وفي كتاباتهم سواء استخلصناه بأنفسنا من لغة الإعلام، وكتابات الأدباء، أو وجدناه مذكورًا في دراسات السابقين.
8- فتح باب الاستشهاد حتى يومنا هذا، وهو ما سبق أن طبقه مجمعنا اللغوي في معاجمه، وبذلك فتح الباب أمام الجميع لتخطي الحدود الزمانية والمكانية التي أقيمت خطأ بين عصور اللغة المختلفة.
وإذا كان مجمع اللغة العربية بالقاهرة قد توقف زمنيًّا عند الثمانينيات من القرن العشرين فإن معجمنا قد استوعب ما شاع في لغة العصر الحديث حتى لحظة إنجازه، وبذلك احتوى على أعداد هائلة من الكلمات والاستعمالات التي خلا منها المعجم الوسيط. وإذا كان المعجم الوسيط يستشهد- على استحياء- بعدد محدود من المولدين والمعاصرين فقد فتحنا في معجمنا الباب على مصراعيه، ولذا نجد فيه أسماء، مثل: طه حسين، والعقاد، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وأبي القاسم الشابي، وميخائيل نعيمة، والطيب الصالح، ونجيب محفوظ .. وغيرهم من المعاصرين سواء كانوا أمواتًا أو أحياء. كما نجد فيه أسماء لكتاب عاشوا بعد عصر الاستشهاد مثل: ابن طفيل، وابن خلدون، وإخوان الصفا، وابن رشد، وابن جني، وابن سينا، وابن عبد ربه..
9- إجازة استعمال اللفظ على غير استعمال العرب ما دام جاريًا على أقيستهم من مجاز، واشتقاق، وتوسيع للدلالة وغيرها. وقديمًا قال ابن جني: ((للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس ما لم يُلْوِ بنص)) (الخصائص 1/ 189)، وقال: ((لو أن إنسانًا استعمل لغة قليلة عند العرب لم يكن مخطئا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئا لأجود اللغتين)) (السابق 2/ 12).
10- التوسع في فكرة التجمعات الحرة، والاختيارات الأسلوبية التي سمحت بتحريك الكلمات من مواقعها دون التزام بترتيب معين ما لم يكن هناك نص نحوي يعارض ذلك. وبناء عليه صوّبنا تقديم الظرف ((فقط)) على متعلقه في مثل قولنا: ((ليس فقط على المستوى المحلي)).
11- التوسع في فكرة تعدد المتعلقات مما سمح بعدم التقيد بظرف معين أو حرف معين مع الفعل المعين. وبناء عليه صوبنا جملاً مثل: ((وزع الجوائز على الفائزين)) بالإضافة إلى (( ... بين الفائزين)).
12- اعتمدنا شيوع الاستعمال قياسًا مرجِّحًا للتصحيح أو التفصيح أو القبول، وإن كنا قد سمحنا بإدخال بعض الكلمات غير الشائعة بقصد الترويج لها لسدها فراغًا لا تسده كلمة أخرى، مثل استخدام الجُرادة، والنُّجادة، والأُكالة، والفُراطة وغيرها مما يدل على بقايا الأشياء.