صحبني محفوظ النقّاش من مسجد الجامع ليلا ، فلما صرت قرب منزله ، وكان منزله أقرب إلي مسجد الجامع من منزلي ، سألني أن أبيت عنده ، وقال " أين تذهب في هذا المطر والبرد ، ومنزلي منزلك ، وأنت في ظلمة ، وليس معك نار ، وعندي لِبأٌ لم ير الناس مثله ، وتمرٌ ناهيك به جودة ، لا تصلح إلا له " . فملت معه ، فأبطأ ساعة ، ثم جاءني بجام لبأ وطبق تمر ، فلما مددت قال: " يا أبا عثمان إنه لبأ وغِلَظُه ، وهو الليل وركوده ، ثم ليلة مطر ورطوبة ، وأنت رجلٌ قد طعنت في السن ، ولم تزل تشكو من الفالج طرفا ، وما زال الغليل يسرع إليك ، وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء ، فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ ، كنت لا آكلا ولا تاركا ، وحرّشت طباعك ، ثم قطعت الأكل أشهي ما كان إليك ، وإن بالغت بتنا في ليلة سوء ، من الاهتمام بأمرك ، ولم نعدّ لك نبيذا ولا عسلا ، وإنما قلت هذا الكلام ، لئلا تقول غدا : كان وكان ، والله قد وقعتُ بين نابي أسد ، لأني لو لم أجئك به ، وقد ذكرته لك ، قلت : بخل به وبدا له فيه ، وإن جئت به ولم أحذرك منه ، ولم أذكّرك كل ما عليك فيه ، قلت : لم يشفق عليّ ولم ينصح . فقد برئتُ إليك من الأمرين جميعا ، فإن شئت فأكلة وموتة ، وإن شئت فبعض الاحتمال ، ونومٌ علي سلامة " .
فما ضحكت قط كضحكي تلك الليلة ، ولقد أكلته جميعا فما هضمه إلا الضحكوالنشاط والسرور ، فيما أظن ، ولوكان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتي عليّ الضحك ، أو لقضي عليّ ، ولكن ضحك من كان وحده لا يكون علي شطر مشاركة الأصحاب