إذا ما سئلت عمن أراه قد طأطأ رخ العظمة رأسه و خنع بجناحيه لتحيته من بني البشر ، فما أحسب إجابتي ستكون سوى : ذلكم رسول الله محمد صلى الله عليه و على آله و سلم .
و ما أصدر في هذا عن تعصب أو هوى ديني ، بل عن قناعة و تقدير لما قرأته و ما زلت أقرؤه ، و عرفته و ما زلت أعرفه ، من جوانب عظمة ذلك الإنسان الذي تضع الإنسانية أجنحتها السماوية له تقديراً و إجلالاً .
جليبيب ... اسم له قصة في سيرة النبي الكريم ، يعرفها كثيرون ، و يجهلها كثيرون .
وقعت عليها كاملة في تفسير ابن كثير ، ذلك السفر الذي يكاد لا يفسر القرآن إلا بمثله أو بكلام سيد الخلق أو بعض صحابته .
جليبيب .. واحد من صحابة محمد صلى الله عليه و سلم ، خامل الذكر ، وضيع الشأن بين الناس ، لكنه ليس كذلك لدى سيد الإنسانية رسول رب العالمين .
قصته في أغلب المراجع تبدأ مذ خطب رسول الله إلى قوم لهم شأن و غنى ، فقبلوا دون أن يستأنوا لظنهم أن الخطبة للخاطب نفسه ، لكنه يصعقهم حين ينبئهم أنها ليست له ، بل لجليبيب .
و تأخذ سورة الغيظ بالأم فتردد : ( أجليبيب ابنه ؟ أجليبيب ابنه ؟ ) ثم تعطف : ( لا لعمر الله لا نزوجه )
و يجد الأب نفسه عاجزاً أمام خيبة أمله ، و انفعال زوجه ، فيقوم ليرد الخطبة على رسول الله صلى الله عليه و سلم .
عندئذ تخرج إليه ابنته صاحبة الشأن لائمة مقرِّعة : أتردون خطبة رسول الله ؟ أنستأمنه على خبر السماء ثم لا نستأمنه على زيجة ؟ أتحسبونه يضيعنا ؟
و تؤوب الذكرى إلى الوالدين المؤمنين ، فيسترجعان بعد غفلة ، و إن يكن تبقى في الصدر شيء من غضاضة ، لكنه التسليم لأمر الله و أمر رسوله .
و تنزل الآية الكريمة حسب قول بعض العلماء ( و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم )
و يتم الزواج ..
و بعد أمد ليس بالبعيد تدق طبول الحرب ، و يفزع أهل المدينة ، و يقوم منادي الجهاد في الناس .
و ينهض القوم و فيهم جليبيب .
ثم ينقشع غبار المعركة عن مقتلة عظيمة ، و تضع الحرب أوزارها .
و يجلس المسلمون بين يدي رسول الله يحصون ما كان لهم ، و ما كان عليهم .
و يسأل عليه الصلاة و السلام و قد خامر فؤاده شيء من قلق ، لُمِح في عينيه أثر منه : هل تفقدون من أحد ؟
و يأخذ الصحابة في النظر يميناً و شمالاً ، فيذكرون فلاناً و فلاناً و فلاناً ، ممن لهم بهم قرابة أو معرفة .
و يعيد عليه السلام السؤال نفسه و قد ظهرت في صوته رنة أسى اخترق سهمها فؤاده الكريم : هل تفقدون من أحد ؟
قد ذكروا من يهمهم و يشغل بالهم أمرهم ، و ما عاد في الذهن اسم أحد ، فقالوا : لا .
عندها قال عليه الصلاة و السلام يعمر صوتَه حب و حنان أبويان : لكنني أفقد جليبيباً .
و يتابع و قد غسلت دموع القلب صوته الملكي : فاطلبوه في القتلى .
فيطلبونه بين تلال الجثث و سيول الدماء ليلقوه بين سبعة جندلهم بسيفه ثم تمكنوا منه .
و يقوم رسول الله على جثمان صحابيِّه المنسي بين الناس ، المذكور عند الله ، ليقول و دمعتان تهملان على وجنتيه بصوت خاشع فيه تهدج أنين : قتل سبعة ثم قتلوه .. هذا مني و أنا منه ، قتل سبعة ثم قتلوه .. هذا مني و أنا منه .
ثم يعمد إلى جثمانه فيحمله بين راحتيه الطاهرتين بكل حنان وحب و حزن ، و يقف على حيث سيدفن .
و يعمل الحافرون على خرق الأرض ليخلد إليها جليبيب ، و جثمانه لا سرير له إلا أحضان النبي الكريم حتى يفرغوا .
و ينزله رسول الله بيديه في مثواه ، و يهال عليه التراب و عينا رسول الله ترمقانه مودعتين .
رسولَ الله ..
عبراتي انسكبت و أنا أخط ساعة من حياتك ، تلك الحياة التي جددت البشرية لأنها جددت قلوب أبنائها ، و غسلتها بمطر الحياة .
ساعة من ساعات الأب الذي تجلى لؤلؤةَ حقو حب و حنان ما تزال تنبع في صدورنا لتصب في أرواحنا بعد كل تلك القرون التي تفصل زماننا عن زمانك .
رسولَ الله ..
كلما مررت بسيرتك ما وجدت كلاماً يفي حقك سوى ..
صلى رب العزة عليك و على آلك و سلم .
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ