الهارب
يا ,,ألله ,, ما ألطفه ذلك العطر الذي تنفثه البساتين ,, حين تغتسل بزخات الخريف الاولى ,, فتتساقط أوراق وتذبل اخرى ,, ايذاناً بحلول الشتاء .
لم تكن شديدة البرودة تلك الليلة ,, لكن رطوبة الارض والهواء القادم من ناحية النهر يجعل : اسنانه تصطك , وصدره الذي اتعبه التبغ الرخيص في السجن ,, يصدر اصواتاً غريبة : كباب قديم صنع من جذوع النخل .
الى تلك الغرفة الطينية القابعة وسط البساتين كصومعة راهب , لفها النبات المتسلق والشوك ,, كنت احمل له الطعام , كل يوم وبعد المغيب طبعاً خوفاً من العيون ,, رغيفان من الخبز يلتصقان على بطني كخفّاش , وبعض ما تيسر في قدر صغير اشبه ما يكون بقطعة من الفحم ,, حيث كان يسخّن طعامه على الجمر .
السم ,, السم ,, هل احضرته ,,صاح بصوته الاجش,, واجيب بنفس النبرة وتلك الضحكة الطفولية كل يوم : لماذا تشربه اذاً ؟ ويكرر عبارات الشكر والتحيات للوالد وهو يأخذ علبة السجائر اليومية من يدي ويكاد يأكلها اكلا .
كان طويلاً كشجرة صفصاف ,, ضخماً من غير بطن وكأن قصاباً افرغه من كل شيء , ثم غطّاه بذلك الجلد الدبغي كعباءة بالية .
كنت اتبعه بالزوّاده الى داخل عشه المظلم ,,الا من بصيص نفطية صنعت من: زجاجة وتمرة وفتيل ,,, كان سعاله مختنقاً كصوت غريق ,, لم يكن يسمح لي بالاقتراب منه قط , فقد اصيب بالسل في احد المعتقلات قبل هروبه ,,, كنت اشعر بأصابعه المرتجفة وهي تهفوا في الظلام لتلامس شيء حياً ,, ايّ شيء حتى لو كان وجه طفل صغير, لكنه يتراجع فالسل معد .
الستينات من القرن الماضي وما عاناه الشيوعيون من اضطهاد ومطاردات وسجن وتقتيل من قبل السلطات في تلك الفترة البشعة من تاريخ العراق .
لم اكن افهم شيء من كتبه سوى صور لرجل ملتح ,وبعض من الاسماء الغريبة التي لا يمكن نطقها حتى ,,, وديوان من الشعر الشعبي ,, الذي لم ندرس مثله في المدرسة .
لم يكن والدي يزوره , على حد علمي ,الا حين يكون دورنا في السقي ليلاً ,, ولم يتحدث لاحد عنه قط,, حتى انه طرد الحواشيش والصيادين الذين يدخلون البستان ,, بل وربط كلبنا الكبير خلف باب البستان خوفاً من افتضاح امر الرجل .
كانت الوالدة احياناً تبدي تذمراً لكنها تتراجع معتذرة بخوفها علينا لو القي القبض عليه لا سمح الله ونحن نؤويه,, فلم يكن والدي يسمح لها او لأحد ان يتنفس او يبدي رأيا في اي موضوع ويكفي ان ينظر الى احدنا كي يغوص الى اسفل سافلين من الخوف .
ضيف وسيذهب ,, وللرجل دين في رقبتي , ولن اطرده وكفى .
كان الوالد قد تورط ذات يوم في شجار مع مجموعة من النصابين في احد اسواق الجملة في تلك المدينة المزدحمة ,,وهو يبيع محاصيله ,, تكاثروا عليه , وسلبوا محصوله بل وضربوه , واطاحوا بعقاله ,, كذئب بري تتحاوشه مجموعة من كلاب السوق , ولم يبق له سوى خنجره من ملجأ ,, ليصيب ثلاثة منهم بجروح خطيرة ,, وطبعاً اودع السجن .
السجن,, غابة من اللصوص والحثالة ,, وحتى ما كانت تحمله الوالدة له من الطعام الى السجن لم يكن ليأكل منه شيء فالغابة غابة ,, الى ان ادخل ذلك الهارب الى نفس السجن ليكون صديقاً وحصناً لأبي وامثاله من البسطاء في السجن ,, فجعلها ابي ديناً في رقبته حتى بعد خروجه من السجن,, كان يزوره هناك ويحمل له ما تيسر .
ومع اول فرصة هروب للرجل لم يكن له ملاذ سوى بستاننا وصاحبه الذي لم ينكر الجميل ,, فهل يا ترى كسبه لحزبه ؟ سبحان الله من يدري؟ فقد كان الوالد قليل الكلام.
مر الشتاء طويلاً وساءت حالة الرجل الصحية ,, هذا الصباح خرج والدي,, ولم يعد حتى ضرب الليل أستاره ,, حيث احضر سيارة وفيها اهل الرجل وزوجته ليحملوه الى المجهول .
ولم يبق من ذلك الكيان في نفسي سوى : رماد الفراش وملابس قديمة احرقتها الوالدة ,, وكتب اصفرت اوراقها ,,وكلمات