كلنا معبأ بمشاهد هذه الحياة فالرغبات المؤجلة والحنين وإرهاصات المتداول اليومي لأيقونة الحروب التي أوقدت أوزارها لتحملنا بلا خطيئة نقترفها إلى مجراتها البشعة ، ذاتها المشاهد الدراماتيكية التي تفجع نياط القلب لتكتب أمجاد من غادروا الحياة، تلك الحياة كونت ملامح القصيدة وألهبت مواطنها باشتعال الحروب، ربما لأن هذه الثيمة هي القاعدة التي أستند عليها أغلب شعراء العقدين المنصرمين فالحرب كانت سمة غالبة تطفو على معظم نصوص المشهد الشعري العراقي والعربي على حد سواء ولكن بألوان مختلفة فكل له ريشته وخاصيته في صياغة اللون وكيفية تحريكه إزاء كل لوحة يرسمها، ولا ننسى أن للموروث وللتراث حكايات لا يمكن تغافلها أو التغاضي عنها كمحور أساسي للنص ، فالهم الإنساني والحقيقة واللوعة والأحلام والنساء والحياة والموت ومرادفات ما يمر به الإنسان إزاء هذه اللعبة هي حكايات الشاعر ومناطقياته التي يحفل بها النص، وصناعة النص هي المتعة التي يعمل عليها وفق آليات تلك المشاهد بكافة ألوانها ووشائجها المترابطة وكأنها أغصان متشابكة بوتيرة واحدة وهذا ما شهدته في ((حين يهدأ الصمت)) للشاعر عباس باني المالكي والصادرة عن دار كلمة في القاهرة، فالاستدراك الذي يدجن الحياة عبر مشاهدات وقنوات كان لها البوح الواضح لرفض ماهيات السلطة وجوهرها واستمالته نحو ذلك النمط المقيت، إذ يعد الشاعر هو أحد مهددات تلك السلطة ولعل ثيمة الحرب التي هيمنت على بعض النصوص هي أحدى الشواهد التي أرقت مضجع المالكي ففي نص صمت المنافي:
ليعيد آلهة الخصب
إلى مدن
تساق كل حين
إلى رغبات الحروب
لعل المدن هنا في رؤية المالكي وهي تساق إلى رغبات طاحنة لا مفر منها وذلك بتضادها الذي كونته آلهة الخصب، مرادفة الحياة بمهيمنات الموت المطلقة التي أشار إليها وكأنها تعاد إلى مصير حتمي حملته السلطة بمكوناتها وإفرازاتها اللامعلنة وكدلالة توثق مصائر المدن التي تهوي في آتون الحروب، وفي نص العودة من الحروب :
قبل أن نتذكر
ينبغي أن ننسى
الحروب
وطرقها المتوجة بالغياب
هنا يوجه المالكي دعوة مفتوحة للنسيان وكأن فوادح الحروب تندلق علينا بطرق متوجه بماهية الغياب، إن تماسك الوحدة العضوية للنص هي من المهيمنات التي ركز عليها عبر سرد متعالي ممنهج تارةً تصاعدي وفق منطلقات النص الذي رسخ أبجدياته بتوصيفات أكدت على الراهن الذي نعيشه ونتداوله عبر يوميات القمع الفاشي من ترهلات الحروب، وفي نص نهايات الضجر :
في محطات ليلٍ
يسرق الرقاد
من حروب الأرق
ذاتها المحطات التي شكلت عند الشاعر عناصر الانتظار والأحلام التي زاولت ثنائية الليل والرقاد، هنا يزج المالكي معادلة جديدة في تكويناته النصية إذ يقلب الطاولة على ما هو متوقع من القارئ وذلك لسرقة الرقاد عبر فونيمة حروب رسمها على شكل أرق يشن ضده . وفي نص مأتم الأزرار يقول :
حين جاءت الحرب
بلا سماء
ذهب أبي إلى سواترها
ذهب ولم يعد
إن تهويمات الحرب ومسلماتها التي تطال الأخضر واليابس وقفت كرهان يقارع وحدة النص لدى شاعرنا الذي أبصر أباه عبر سواتر الفجيعة التي طالته دون سابق إنذار وكأنها بلا سماء توحي إليه بما يرنو إليه عبر أفق لن يراه إلا مظلماً وشاحباً، فالحرب تسلب ولا تعطي كما هي ثمار غنية للسلطة ورهانها الذي يدشن من دماء الشعوب، وفي نص قيامة الماء :
لأسد ثقب حضارات
طائرة بأجنحة
جحيم الحروب
هنا يعلن الشاعر عن كبرياءه اللامتناهي متحديا الحضارات ومحلقا بسماء كينونته المفتوحة ، فالحضارات دمرتها الحروب وأغلقت بواباتها ومنافذها الأسطورية برمادها . لقد اعتمد المالكي على تقنية استدراك اللحظة ومشاهدات الحياة وفق معايير(الفلاش باك) متعقباً أسرارها فضلا إن له أسلوبه في مزاوجة المتضادات المعاشة والغوص في وحدة النص بعناية وتأنق بعيداً عن الترهل لمركبات القصيدة النثرية الحديثة مستخدما إشكالات الواقع الحياتي كموضوعة لاشتغالاته التي استمدها من ذاته المعذبة من راهن الواقع ، حيث كانت ثيمة الحرب دلالة احتدمت وتشابكت في الظهور بشتى صورها المقيتة ، واعتقد أن العنونة (حين يهدأ الصمت) التي رسخها الشاعر للمجموعة هي بوح متضاد لذلك الصمت الذي يكشف عن حيوية الخطاب الشعري الذي نعيشه في اللحظة الراهنة من مستجدات تلك اللعبة التي تسمى الحياة . لقد أتقن الشاعر تلك اللعبة برسمه لنصوص المجموعة وفق تسلسل زمني متوافق يؤكد احترافه وخبرته في تطويع النص الشعري وجهوزيته للمتلقي.