نزيف الحلم على ( سكة ) الأمل
قراءة في ديوان ( ضي الضباب ) للشاعر/ عبدالله الهادي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
يلعب شعر العامية المصرية دوراً لا يقل أهمية عن شعر الفصحى , ولا يمكن أن نقول أنه قد يفوقه , ولكن من قدرته وانطلاقه في مناحي الواقع والخيال , واستخدامه الصور والرموز والدلالات , أوجس في نفوس البعض خيفة , وذهبوا يحذرون من طغيانه على شعر الفصحى , والخوف منه على اللغة العربية , وإمكانية ضياعها بسببه .
ونقول أنه لا يُخشى على الفصحى من العامية , وأن تواجدهما معاً يساعد بعضهما البعض في توصيل رسائل الحياة إلى الناس بقدر فكر كل منهما ورؤاه .
ونقول أيضاً أن ما لا تقدر عليه الفصحى , قد تقدر عليه العامية في مواضع كثيرة , لأنها وسيلة التخاطب اليومية , ولسهولة وصولها إلى عقل ووجدان السواد الأعظم من الناس .
ونستطيع أن نؤكد , أنه لا يُخشى على العامية من المتربصين لها , لأنها اكتسبت قوتها من قوة الفصحى , ومن قدرة شعرائها الذين آمنوا بها وبقدرتها على مواجهة أحداث الحياة .
كما نؤكد أن الفصحى باقية إلى أن يشاء الله بقيام الساعة , وإنها باقية ببقاء القرآن الذي حفظه رب العزة القائل " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " .
( صدق الله العظيم ) .
لقد اهتم شعراء العامية بهذا اللون من الشعر بتطويره وتحديثه , حتى فارق مناطق الزجل , وتجاوز التقريرية , وانطلق المتميز من شعراء العامية إلى مناطق أكثر خصوبة شعرية يبحث عن معاني الخير والحق والنور والجمال والخيال , يبحث عن الدواء لأمراض العصر , ويتوحد مع الفنون ومختلف ألوان الأدب , كما أصبح لديه القدرة على طرح الهم الذاتي والجمعي ومعالجة النفس والترويح عنها .
والديوان الذي بين أيدينا لشاعر أخذ على عاتقه المضي في طريق الجهاد , يرفع الكلمة لتحل محل السيف والبندقية , ويجاهد بها الظلم , ويبوح ولا يخشى أعوانه .
وهو شاعر يحاول تطوير شعره والاهتمام بموسيقاه , ويبحث عن مفردات جديدة يصوغ بها عباراته , لتحسب له , هو يطرح همه الذي يتناص بالفعل مع هم الآخر , أو يتناص مع هم مجتمعه ووطنه . ونراه يرمز أحياناً , وسرعان ما يفتح مغاليق رمزه , فما قد يراه لا يستطيع معه استخدام الرمز أ و حتى الهمس , ولا يجد سوى الصراخ , فيصرخ بقصده , ولا يتوارى خلف ستار الخوف .
ويشغله أكثر من أي شيئ محبوبته , تلك القريبة البعيدة , الحانية القاسية , هي الأنثى / الرمز / الأم / الحبيبة / الأرض / الحياة / الدنيا .. كل هذا وهو في توحد في ذات الوطن .
هذا الديوان ( ضي الضباب ) للشاعر عبدالله الهادي هو الديوان الصادر ضمن دواوينه ( باغني حياتي ) , ( وجع الغلابة ) , ( مزمار جحا ) , ( غمَّض واحلم ) , ( كلام حادق ) , يحتوي على ( 22) قصيدة شملت عواطف ( الحزن , والألم , والشوق , والحب , والاسترحام , والحنين .. ) , وتمكنت منه رغبة عودتها إليه , والتوحد معه .. كما نسج ( حبال ) الأمل من كل ضوء , وفارق الظلمة , وعشق الخضرة , وكرَّ على الظالمين , ومدح كل جميل , وقدح كل سيئ وقبيح . هذا هو الشاعر الحقيق الذي يعبر بصدق عن بيئته , وعن الناس بلغتهم , بدون أي تغريب يُقصيهم عن هدفه ومضمون رسالته .
ويطيب لنا بعد قراءة هذا الديوان ــ ضي الضباب ــ أن نغوص في بحر قصائده لنستخرج منها ما ينفع القارئ , وكما يستخرج الغواص من الأصداف والمحار اللؤلؤ , وقد يصادفنا بعض الأصداف والمحار خالية تماماً من اللؤلؤ , فلا ضير , فليس كل النخيل يطرح الثمر , وهناك فوائد أخرى ومنافع نأخذها منه .
كما أنوِّه في كل قراءاتي للأعمال الأدبية التي أتناولها , أنها ليست بالدراسة المنهجية , ولكن دائماً أفضل الدخول إلى النصوص من باب الإبداع الإنطباعي الذي يواكب إبداع النص , لنخلص في النهاية إلى قراءة انطباعية إبداعية .
وآمل في الدراسات النقدية , أن تتناول بجانب إظهار جماليات النص ومسالبه , أن يكون لدى الناقد القدرة على التوجيه والإرشاد والتقويم , بجانب قدرته على التقييم الذي يضع النص في مكانه الذي يستحقه بين نصوص أقرانه من الشعراء .
والآن يمكننا الولوج إلى بعض مختارات من قصائد الديوان لنعيش معها , ونعيش مع الشاعر في عالمه الذي يُعيد تشكيله من خلال تجربته الإبداعية , وما سوف نتناوله نظن أنه يشكل أيضاً تجربته الإبداعية .
الشاعر له الحرية الكاملة في اختيار عنوان ديوانه , ولكن سؤالي هو هل يأتي من الضباب ضي كما يأتي من القناديل المضاءة , أو كما يأتي من القمر , أو من الشمس ..؟!
نقر ونعترف ونؤمن أن العطاء من الله , ليس له مقابل , ولا يقدر بثمن , فهو الذي يهب الإنسان الحياة , وما يجعله يعيش تلك الحياة , ويهبه العقل الذي يميزه عن سائر المخلوقات .. والشاعر هنا يدرك قيمة هذا العطاء الإلهي , ويقر ويعترف به , ويُرجع فضل السمات التي هو عليها إلى الله عز وجل . وبرغم أن الإنسان من الصعوبة أن يقييم نفسه , ولكن الشاعر جعل من نفسه القيِّم عليها , وما أجمل أن صدق فيقول في قصيدة ( تعريف ) التي استهل بها ديوانه :
( أنا اللي جيت للحياه / واداني الإله أوصاف / الطيبه والصبر / والإخلاص وحب الناس / غاوي الصراحه / ولو مُرَّه / وعمري ما خاف / والصدق طبعي / وقلبي صافي بلون الماس / وان قلت كلمه / باقولها بالعقل واوزنها / صنايعي / باصون الصنعه واتقنها / حياتي دايماً للأمل واسعه .. ) والقصيدة من بدايتها إلى نهايتها تطرح الجانب الإنساني للشاعر كما يراه هو , وجاءت بسيطة ومعبرة عما يشعر به مع محاولته قراءة نفسه للمتلقي .
( غرام الشمس ) .. قرأت هذه القصيدة أكثر من مرة لكشف موضوعها أو فكرتها أو رؤيتها , وكلما قرأتها أعيد قراءتها , حيث تحمل الكثير من الكلام المعنوي , وأعتقد أن كل مفردة يستطيع الشاعر أن يبني عليها قصيدة .. مثل البعد / الغربة / الشوق / اللهفة / الصبر / الغيرة / الحيرة / المستحيل .. لذا كان من الصعب الإمساك بفكرة محددة لهذه القصيدة .. وهو يمدح فيها , ويعاتب , ويبوح , وينادي , ويناجي , ويحزن , فمحبوبته هي كل شيئ له , ويفضلها على أي شيئ .. وهو مغرم بصناعة القافية لإحداث موسيقى الشعر , وقد وفق في هذا , ولكن كان ذلك على حساب وحدة القصيدة .
ولم يكن هو الوحيد الذي جرحه ظفر النكسة , ولم يكن وحده الذي تجرَّع مرارتها , وحين العبور لم يكن الوحيد الذي عبر وانتصر في أكتوبر , ولأنه ليس الوحيد ابن مصر البار بها, لذا نراه يتكلم بلسان الجماعة في قصيدة ( ضي الضباب ) فيقول : ( وشمسنا شمِّت نفسها / وأخدنا تار مصر الحبيبة ( أمنـَّا ) , وقد خص مفردة ( أمنـَّا ) بين قوسين ليتحقق ما قلناه .
وكأي رسالة تبدأ بـ ( إلى ) كانت رسالته إلى ( شهر زاد ) .. الملهمة / الساحرة / المؤنسة / المزهزة .. يشتكي بذكرياته التي يبدأها بشعره الفصيح .. يقول : ( إلى ما كنت أعدو في أمانيها / حبيباً يملأ الأيامَ أحلاماً تناجيها / زهورُ شبابها سكنى / وأغنيتي معانيها ... إلى أن يقف على أعتاب الاستفسار, فيسأل عن مكانته وقيمته لديها فيقول : ( وهل ما زلت حاضُرها / وهل مازلت ماضيها / أجوب حياتـَها لحناً / عن الأحزان يُنئيها / وهل ما زلت شاعرها / تراقصني مشاعرها / وتدعوني لياليها .. ) هذا المزج الجميل بين العامية والفصحى , لم يؤثر على النص , بل زاده جمالاً وتماسكاً , وهي مراوحة بين الفصحى الأم وابنتها العامية , تنم عن التواصل والحميمية بينهما , ليثبت الشاعر ما ذكرناه في بداية كلامنا أنه لا خوف على الفصحى من العامية , وقد سبقه بعض الشعراء في استخدامهم هذه المزاوجة .. منهم الدكتور محمود عبد الحفيظ في ديوانه ( من غير م تاخد نفس ) .
ثم يتجه هادئاً نحومشكلته وهي أم المشاكل , والتي تجعله يهيم على وجه في طرقات الحياة , يلتمس منها الرضا والقبول , والعودة إلى ما يتمناه , وأن تبادله نفس المشاعر والأحاسيس ,فيقول في هذا : ( أبقى فيكي ومش لاقيكي ) , وهنا إشارة إلى المكان / الموطن , ويقول أيضاً : مرايتك العامية / ودلالك المغرور , وهنا يجسدها أنثي تتعامل مع المرآة , وتستخدم أنوثتها ودلالها وغرورها في إهماله , كل هذا أشـْعره ببعدها عنه , ويرى أن كل هذا سيصل بها في النهاية إلى مرسى ( المفيش ) , وإخلاصه يجعله يسدي لها النصائح فيقول : ( خليكي نص عاقل / نص قابل للزيادة بارتياح / خليكي في رياح النصيب هبة نسيم / متوصَّليش للغيم شبابك / وافهمي إنك لا يمكن تسلمي / من غير جناح يا شهر زاد ..) ورغم كل هذا يختم هذه القصيدة بخاتمة التوحد المأمول , ويؤكد أنه لن يكون لغيرها قائلاً بالفصحى : ( أنتِ ودونـَك / لن يفوز بدق قلبي / , أنا بدونـِك لا أجيد الاختيار ..) .
وفي قصيدة أكتوبر يلجأ إلى استخدام الحروف المقطعة فيقول : ( ألف ولامين وهاء عاليه على مادنه ) ويقصد بذلك لفظ الجلالة ( الله ) , فلولاه ما تحقق انتصار أكتوبر . وتبرز القصيدة فضل شهر رمضان وتجليات الله على مصر , مع عدم نسيان الشاعر زمن النكسة ومعنويات الناس المحطمة , وزمن انتصار أكتوبر ومعنويات الناس المرتفعة , ومن يشعر بذلك أكثر منه وهو الفاعل في معركة النصر , حيث كان جندياً من جنود مصر على خط المواجهة مع إسرائيل .
وفي قصيدة ( سؤال ) يواصل الفضفضة والشكوى , مع انتقاله من المعنوي إلى المادي , فمن الملهمة الساحرة إلى رغيف العيش والغموس , فيقول : ( انت الرغيف وانت الغموس ) , ويالهامن ضرور لا استغناء عنها ..!!
ويأخذنا قطار الحياة من الميلاد , حتى يصل بنا إلى نهاية المطاف وهو ( الموت ) عبر رحلة العمر ففي قصيدة ( قارب نجاة ) برغم ان القصيدة مشحونة بلهجة التهكم على الواقع , إلا أن الشاعر يرفض التبعية والمحاكاة , ويدعو إلى التوطن أو اعتناق المبدأ , فيقول : ( خيرك وشرك فيك / وانت عليك تختار ..) .
وهل هناك أغلى من الأم لينسج لها قصيدة من مشاعره عنوانها .. ( ضي أيامي) , وأعتقد هنا أنه يقصد أمه الحقيقية التي حملت وولدت وسهرت وربت , فهي القنديل الذي يضيئ له دروب الحياة , وما أجمله من تشبيه .
وفي قصيدته الرثائية ( آلو يا كلام ) , والمشحونة بألوان الرثاء على الحظ المعاند , واللوم ولحظات الإنكسار , والتهكم على الواقع , وعلى الكلام الساكن الذي ليس له غاية . إلا أن القصيدة لا تخلو من نقطة الضوء , وهي الأمل مع الحلم , والقدرة على الصمود .. فيقول: ( وإيه يعني / لا انا أول ولا آخر وفا مكسور / وحبي زرعته وسط النور طرح ليلي / وقنديلي خلص زيته / وأملي اللي خليته في حضني ينام / نسي الأيام وقام باعني / وإيه يعني .. ) .
وفي قصيدة ( بدايتك طيش ) يبدو أن لديه قصة يرويها للمتلقي , قامت على هذا الهجر , ليدلل لنا أن كل ما سبق إلا قليلاً كان هجراً وبعاداً وشتاتاً .. وليس الهجر إلا بداية هذا التوقف بعد رحلة غرام من طرف واحد , ويفيق من غفلته ويعترف بأنه المخدوع .
كل قصائد الديوان إلا الوطني والديني تدور حول هذه الأنثى / الرمز والتى يفصح عنها في هذا الموطن فيقول : ( إاسريني هاحب أسرك / هابقى مَلكِك / وافدي مولكك / وتلاقيني تمللي فارس دولتك / حارس لقصرك .. ) ومن يقصد غير بلده ..؟!
وينقله الأمل بأمنياته إلى عالم الأحلام , ليودع اليوم بآلامه ومواجعه وعذاباته , إلى الغد الآمن النضير ليعيش حياة الاستقرار والراحة مع محبوبته فيقول في قصيدة ( بر الأمان ) في غنائية رائعة : ( ارتحت لك / وعشان كدا / فتـَّحت لك ورد الغرام / وسقيته بكفوف الندا / كدا أو كدا / أنا قلبي حبك والسلام / ارتحت لك / وفتحت لك / في الروح طريق / ووهبت لك / قلبي البرئ /اللي تمللي يحن لك ) .. نجد الشاعر في كل هذا تسيطر عليه عاطفة العتاب , ويدفع بكل ما لديه من مشاعر وأحاسيس في رغبة ملحة لعودتها إلى رحابه .
وعادة ما ينادي الحاوي على الناس ليلتفوا حوله بهذا النداء ( جلا جلا ), ولكن شتان ما بين ما يخرجه الحاوي من جعبته , وبين ما يخرجه الشاعر من وجدانه ..!! والشاعر هنا يخرج همومه وأشجانه يبوح بها على الملأ .. والقصيدة مليئة بالصور كما في قصائد كثيرة تحوى مفردات الحياة لتعبر عن مضمونها .
وكلما فاض به الكيل لجأ إلى السخرية والتهكم من تلك التى شغلته وأرقته ببعادها , فتوعد لها كما في قصيدة ( يا بنت الإيه ) .... !!
ونراه يمدح الرسول صلوات الله عليه , ويقدح كل من تسول له نفسه , بالفعل المشين / الرسم أو بالقول الجاهل , كما يستخدم أسلوب الدعاء في قصيدة ( يا سيد الخلق ).
وفي ( طوق النجاة ) يرتدي الشاعر ثوب الواعظ , ويعتلي منبر الشعر ليمزج النثر بالشعر , في تضفير أحال الكثير من القصائد إلى الشعر الموجه , ولا عيب في ذلك مادام الشعر يهدف إلى غاية .
وكل ما ذكر ما هو إلا نظرة عابرة في عالم ( عبدالله الهادي ) , أو غوصة في بحر شعره أخذنا ما أمكننا الحديث عنه , والديوان به الكثير من الجوانب الفنية التي قد تجذب الباحث ليبحث فيه , فالتجربة حافلة بجماليات تكشف عن قدرة الشاعر في رسم صور من الواقع والخيال , تستطيع تحريك المشاعر والأحاسيس .