حاول إستعادة صورة ‘‘ الدرب‘‘.. كما ظل في مخياله من ذلك الزمن الجميل .. ليستعيد باستذكاره ذاك .. ليالي بودير .. ما بين حي الحجوي.. حيث كانت دارهم في ذلك الزقاق الثاني من بداية ‘‘ راس الدرب‘‘.. على اليسار..
رقم الدار لازال محفورا في رأسه كشيء منحوت.. بل هو منقوش في حفريات الذاكرة.. كذكرى لاتزول .. رغم حفريات الزمن والمحن...
{{ رقم 15}}...
هكذا قالها بشرود باد على محياه .. وقد وقف مليا أمام مدرسة عائشة أم المؤمنين.. ثم إستدار بطريقة تلقائية .. آلية إلى الجهة الأخرى.. ناحية الشمال..
عن اليمينه درب آخر يؤدي الى دار الجد.. الحاج أحمد بوزيان .. في حي بلعباس .. ومن الجهة اليسرى.. طريق ممتد أهم ما يميزه تلك الصومعة لمسجد ليبيا... هكذا كان يسميه دائما.. رغم أن الجميع كانوا يعرفونه باسم مسجد الحسن الثاني..
تراءى له من ذلك المكان.. فلاذ للصمت المهيب العصي.. وكأنما هو واقف يقلب دفتر الزمن في صفحاته المطوية القديمة المهترئة..
تذكر ذات شجن عندما سأله البوهالي {{ مقدم الحومة}} بعصبية وقد بدا قلقا موحشا في بداية غضب شديد.. وقد تطاير رذاذ أبيض من فمه المهترئ..
{{ لماذا؟؟ لاتسمي المسجد باسم سيدنا ... أعجبك القدافي ...؟؟}}
ساد الصمت المهيمن قبل اندلاع عاصفة مرتقبة..
قالها وهو يضغط بقوة ونرفزة على حرف السين بشكل مقزز...
{{ ببساطة لأن اسمه مسجد ليبيا...}}
احتد النقاش ثم تحول الى تحدي...
جحظت عينا عون السلطة الذي دأب على المشي مختالا بين الناس ,, لإحساسه الشديد بالامتلاء من سلطة {{ المخزن}}.. حتى خال نفسه كالطاووس وهو يمشي اختيالا وعجبا وتيها...
فهو عون السلطة وعينها ورجلها ويدها وممثلها .. بل هو{{ المخزن}} بنفسه.. بعد ان امتلئ به حتى الثمالة...
كان كل شيء في ذلك الزمن صدئا...
ذلك الصباح وقف الجميع سيف الدين والبوهالي وبعض الرفاق والفضوليين,, وقفوا جميعا أمام تلك الرخامة المستطيلة الشكل وقد نقشت عليها بحروف ذهبية .. مناسبة تشييد المسجد واسمه بخط واضح كبير {{ مسجد ليبيا}}..
كم كانت الصدمة بالغة تجلت في إمتعاق وجه البوهالي... لم تسعفه كلماته على الخروج من فم محطم الأسنان.. لملم تلابيبه .. ثم انتفض كديك شركسي ثم مضى وهو يسب ويلعن ...
تابعته العيون إلى أن إختفى وهو يجر معه خيبته كسلحفاة تسحب معها قوقعتها في صمت.. وغصته تكبر في صدره...
{{ كيف.. مسجد ليبيا.. اللعنة بل مسجد
س ي د ن ا...}}
ولو طارت معزة..
كان سيل تلك الذكريات يتحرك كصفحات هادئة من نهر الذكريات... و سيف الدين يسترجع حلقاتها رويدا رويدا بعد سنوات من العتمة القاتلة
رد: افتراضي رواية من ادب السجون{{مدينة الوجع}} في حلقات.
تنفس الصعداء وقد نطت لمخياله صورة من زمن العتمة .. هناك حيث انصرمت حبات من سبحة العمر .. لازالت العتمة تسكنه كما كان يسكنها من وقت ليس ببعيد.. حاول جاهدا ان يطرد عنه تلك السحابة الداكنة من العتمة والحزن وهو يحث الخطى في اتجاه حي بلعباس حيث {{ الدار الكبيرة}}.. انها دار جده الحاج احمد ابو زيان واخواله موسى والعربي ومولاي أحمد.. فيها عبق تاريخ مضى وانقضى وقصة أحزان جملة من الأحزان و قفة صغيرة من الأفراح المتناثرة بين تلابيب السنوات..
وفيها ذكريات من نهر الذكريات الطويل.. بهمومها وشجونها وغيومها وسحبها الداكنة وغماماتها الممطرة أحيانا..
صعد أنفاسه المليئة بالحسرات وهو يسترجع ذكرى جده الحاج أحمد أبو زيان بجلبابه المغربي الأصيل وطربوشه {{ الوطني}} بلونه الأحمر..
كان يلفه بشاش أبيض اللون مزركش بخيوط من الحرير الصفراء ليصبح مثل العمامة التي يعتمرها الأزهريون....
كانت تزيده هيبة ووقارا وهو يمشي الهوينى يحمل على كاهله سنواته الثمانون كقوقعة ثقيلة تسحبها سلحفاة عميقة الكهولة..
ذكرى الجد تحمل معها الشجون والشجون الثقيلة ...
هنا كان يجلس ليسامر في الصيف رفاقه.. يتطارحون حديث السياسة والسلم والحرب.. وكل شيء.. وهناك كان يجلس بعد ان يبسط{{ هيدورته}}1 وهي عبارة عن جلد الخروف بعد أن اصبحت صالحة لتكون بساطا نقيا نظيفا جذاب اللون منفوش الصوف..
كان يجلس ساعات من النهار ليلتو القرآن ينطلق من سورة الفاتحة ليصل الى منتصف الكتاب الكريم احيانا في محطة .. سورة {{ مريم ..}} واحيانا أخرى كان يوغل فيه برفق فلا يجاوز سورة {{ الاعراف}}...
لكنه في كل الاحوال... كان يغدو ويروح في سياحته اليومية بين سور القرآن بصوت خفيض .. وخشوع عميق..
ذهابا وغيابا.. يغدو ويروح.. لا يكل ولايمل
مكث سيف الدين غير بعيد عن الدار يتأمل كل شيء في الدرب ويستنطقه ليعود به إلى الذكرى العميقة .. الدفينة.. التي لم تمت بين جوانحه ووجدانه..
تقسو الذاكرة حتى تصبح كحجر الصوان موغلة في القسوة والتحجر..
واللؤم احيانا .. حينها تنسى او تتناسى صفحات وصفحات من نهر الذكريات بليالي بودير الجميلة والغائمة...
الصحوة والممطرة... اللينة الحنونة والقاسية القارسة...الممتلئة بالخشونة والشظف في كل شيء..
رد: افتراضي رواية من ادب السجون{{مدينة الوجع}} في حلقات.
هز رأسه بحزن مكتوم...
قال بصوت لا إضطراب فيه .. أبدا ..
{{ ها قد عدت إلى نقطة البدء من جديد}}
تحسس عكازيه ذات اليمين وذات الشمال.. حاول ان يقتحم العقبة ليصل الى الباب يطرقه بقوة... لكنه شعر بغير قليل من الوهن والخور والضعف وربما الخجل... الخجل من المفاجئة ربما يكون خاله مولاي أحمد قد رحل... عن الدنيا..
إنه لايعرف عن هذا العالم إلا ما يراه اليوم.. سنوات سحيقة وهو في الغيابات العميقة يعيش ويتعايش مع العتمة والسجن والسجان..
الآن .. هنا من جديد ..
يحمل جرحا عميقا.. وذكريات يملؤها الصدئ مع الصديد..
وسنوات من العتمة والسجون وخيبات كثيرة وانكسارات عميقة
خال نفسه تلك اللحظة كورقة في مهب ريح عاصفة... بل ربما كسؤال فارغ يمتلئ كل يوم بشيء ما ليصبح كالرمح يوغل في اختراق الجسد
سؤال حائر خائر يمتلئ بالتفاهات والخيبات التي لا بطولات فيها..
سنوات طويلة والسؤال كسهم مسموم يخترقه يطارده.. –احيانا- يحاصره ومرات كثيرة يحمله على كاهله.. وهو يتحرك..إلى ان صار يمقت الاسئلة وانتفاضتها ..
وحرقتها واحتراقها الكبير...
أعاد النظر في باب الدار الموغل في القدم..
{{ ياه لازال يقاوم الزمن .. إنه اكبر مني بعقود.. ولازال شامخا متماسكا .. رغم أنه يبدو كوجه كهل عجنه الزمن...}}هكذا قال بحزن شفيف.. وقد تحجرت مقلتاه بدمع عصي..
ثم عادت به الذاكرة من جديد الى الزمن الجميل..
كأنما كان يتصفح ورقاته ويخترقها بنظراته يستنطقها كالمحقق الذي ظل يستنطقه ويمارس عليه ساديته الى أن خانه الجسد المنكل به وخار .. بل خارت قواه.. ثم إرتطم بالارض... معلنا نهاية مقاومة الجسد في حفلات القهر اليومية هناك في المعتقل السري..
حاول من جديد أن يطرد عنه ذكرى الوجع.. وهو يبتلع ريقه.. كانت نظراته زائغة قلقة.. مضطربة تحمل معها الآلاف من مشاهد من الأوجاع وحسوتها المتواصلة ....
هي عصارة الزمن الذي غابت فيها الشمس..عنه غيابها الطويل
بالنسبة للرابط فتعليقي عليه من حيث ملاحظاتك الكثيرة السابقة على ما نشرت هنا
انني كنت في رحلة المعتقلات السياسية في المغرب اكتب باسم مستعار في عدة منتديات عندما كانت الظروف في السجن تسمح لنا بالحصول على هاتف ذكي نطلق من خلاله صرخة اخرى بلون الحروف وعندما اغيب كان الغياب حتميا ....
بعد زمن مديد خرجت من المعتقلات ونشرت بعض ما كتبت باسم سيف الدين الشرقاوي باسمي الحقيقي