إنها أمسيات بيروت الغارقة بالضباب، وخطوات الأباء وهم عائدون إلى منازلهم حاملين اكياس برتقال وبعض من فاكهة الخريف الغنية بالفيتامينات لتفرح بها عيون أطفالهم وهم يعانقونهم بكل محبة وفرحة، هي مناسبة لإعادة تجديد مشاعر الود بين الأباء وأبناءهم
كم كانت تغلبني دموعي، وأنا أبحث بين جملة هذه المشاعر عن رسم لأبي الذي غادرني قبل أن يحمل لي كيس برتقال من يافا التي وعدني بزيارتها في مواسم البرتقال ذات أمسية كنا نسترجع فيها حكايات الأمس الحزين.
كانت تغص الذاكرة بالكثير من المشاعر الملتهبة التي أبعدتني عن نافذتي وهي تستقبل رذاذ المطر بانسيابية تدعو ألمي ليستريح من إلحاح الذاكرة المضني، تأملت زوايا الصالة الفسيحة، بينما كنت أشعر بالبرودة رغم طقطقة الخشب المنبعث من مدفأة المنزل الحطبية، حيث كان والدي يحب الجلوس بقربها لدى عودته برفقة اخي الصغير، الذي حمله هم قضية بيتنا المكسو بالحجر الكلسي المنهوب، ومحلاته التي تركها عالقةً خلف أقفال وأبواب موصدةـ ربما سُرقت وربما أحرقت وربما شيئا لم يصبها، لكننا حريصون على عدم فتح هذه السيرة أمام والدي الذي كان يتألم كلما تذكر محلاته ومنزله وبيارته!
لم تمض أعوام على ابتعادنا عن يافا حتى وافته المنية، تاركاً شرايينه مابين بيروت ويافا، ممتدة امتداد جرجه الغائر عقودا طويلة تهدأ فن فيض ثورته لقاءه بعمي الذي تزوج من يهودية وعمل في بيع المشغولات الفنية في الدور الأرضي في فيلته الأنيقة!لم يشأ أن تمتد إليها حفلات الصخب التي تقام ليليا في تل أبيب، فحول صالتها الفاخرة إلى متحف، لبيع مقتنيات مميزة يصاحبها كمٌ من ذكريات كل قطعة تضمها الفيلا !
عصفت بذاكرتي مشاعر حنين متأججة، ودوت كلمات والدي بأذني حتى أبكتني بمرارة، أيقظت روائح البرتقال في أنفاسي، لم تترك نبض أبي أبداً، رائحة البرتقال التي كانت تسري في شرايينه، وتسكن نبضه على مدى الأيام والسنوات.لقد رافقته في رحلته الأخيرة، حين غادرنا للآخرة، كانت تصحبه روائح الليمون وبرتقال الضيعة التي كثيراً ما كان يرق فؤاده لذكرها.
والدي كان أحد المتشبثين بعمره لأجل أن يعود ويسقي بيارته، يستهل صباحاته بعبارات الود مع أهل الضيعة، ثم يبدأ بري أشجار برتقالها وليمونها، ورث محبة هذه الأرض عن والده الذي توفي إثر نوبة قلبية لدى هدم منزل جاره أبو محمود، كان واقفاً يراقب مشهد الهدم من وراء ستار، خلفه كانت الغرفة معتمة، لم يلحظ أحداً وجوده، غادر على عجل كما قصائد الحمام التي كانت تزوره أسرابها هاربهً من صقيع الأرض لتنعم بدفء مودته، كان حارساً أميناً عليها، وكانت صديقته على مر الفصول المريرة التي رافقت صموده في وجه الغربان الغازية التي جاءته من كل فج عميق.
ضجت مشاعر الشوق بذاكرتي، عدت لأفتح نافذتي وأترصد غيمات الأفق المسافرة في سماء بيروت كانت اسراب الحمام في طريقها لبيارة جدي، ترافقها زفرات العصافير بألم، هي مشاهد لم يأبه لها الأباء العائدون لمنازلهم بعد نهار من العمل والجهد، إنهم متعبون ولايداعب ذاكرتهم أي مشهد، إنما يتوقون للوصول إلى منازلهم، ورمي أكياس البرتقال ثم النوم إلى جانب المدفأة.
بينما قلبي مولع برصد خطوات الشوارع في بيروت، التي تستحث أضواءها الخافتة مشاعري، وتوقظ في وجدي الحنين الدامي لذكرياتي وعائلتي التي توازعت الأدوار في هذه الحياة، إنها تعمل لأجل أن تعود إلى بيارتها ومنزلها العتيق المطلي بالكلس وبأوجاع الحنين المعتقة بروائح الكروم والبرتقال الحزين!وبالكثير من الأمل بعودة أصوات المفاتيح وهي تزيل صدأ الانتظار عن وقتها.
أثرتِ الشجن والحزن عزيزتي عروبة بحكايتكِ عن أرض الآباء
والأجداد ، وتعلق من هاجروا بل طُرِدوا من أراضيهم ، لدرجة
أنني شعرت وكأنك تكتبين حكايتنا ،،
لقد مات الكثير من الأحباب دون أن يروا بلادهم ، ونحن بدورنا
رأينا أراضيهم وبياراتهم ومزارعهم ، في عيونهم من خلال ما كانوا
يقصّونه ويحكونه لنا ، وشعرنا بشوقهم ولهفتهم لرؤيتها .
سلمت أناملكِ عروبة فقد أجدتِّ وأصبتِ في الوصف والسرد ، كما
أنكِ أحسنتِ اختيار الموضوع .
بوركتِ وتقديري
أثرتِ الشجن والحزن عزيزتي عروبة بحكايتكِ عن أرض الآباء
والأجداد ، وتعلق من هاجروا بل طُرِدوا من أراضيهم ، لدرجة
أنني شعرت وكأنك تكتبين حكايتنا ،،
لقد مات الكثير من الأحباب دون أن يروا بلادهم ، ونحن بدورنا
رأينا أراضيهم وبياراتهم ومزارعهم ، في عيونهم من خلال ما كانوا
يقصّونه ويحكونه لنا ، وشعرنا بشوقهم ولهفتهم لرؤيتها .
سلمت أناملكِ عروبة فقد أجدتِّ وأصبتِ في الوصف والسرد ، كما
أنكِ أحسنتِ اختيار الموضوع .
بوركتِ وتقديري
أجل عزيزتي هي حكايات تثير الأشجان وتتكرر بشكل يومي
آنست متصفحي بانتظارك على الدوام
محبتي وتقديري