في كتابه "النظرات" الجزء الثاني ص112-117 أورد المنفلوطي مقدمة كتابه "مختارات المنفلوطي" الصادر عام 1912، فوجدت نموذجا من التفكير العلمي يحتوي ما تحتويه مقدمات الأبحاث العلمية من بيان الدافع والدراسات السابقة و...، ووجدت من بيانه في موضوع التربية الكتابية -كما سماها- ما جعلني أنقل منه عبارات وفقرات أرى أنها تشكل أساسا لمن أراد أن يرسم لنفسه منهجا في تعلم البيان، أو يكون لنفسه مختارا من بيان الأدباء قديما وحديثا. وكنت أرجو أن أنقل المقال كله لكنه الوقت.
بين المنفلوطي سبب كتابه فقال: عرفت حاجتك يا بني أعزك الله إلى كتاب يجمع لك من جيد منظوم العرب ومنثورها في حاضرها وماضيها، وفي كل فن وغرض من فنونها وأغراضها ما تستعين باستظهاره أو ترديد النظر فيه على تهذيب بيانك وتقويم لسانك. وعلمت أنك لن تستطيع أن تجد طلبتك هذه في مختار من مختارات المتقدمين، ولا في مجموعة من مجموعات المعاصرين.
ثم بين أسباب ذلك، وأثناءها قال: المتأدب شاعرا كان أو كاتبا لا يكمل أدبه، ولا تصفو قريحته، ولا تلمع صفحة بيانه، ولا تنحل عقدة لسانه- إلا إذا تمهل في روض البيان، فاقتطف زهراته من أنواع شجراته. وأن الشاعر لا يغنيه المدح والهجاء عن البكاء والرثاء، ولا العتاب والود عن التشبيه والوصف، و... استطرد يؤكد حاجة الشاعر إلى كل أغراض القول، ثم قال: الكاتب لا يبلغ مرتبة البيان، ولا يصل إلى منزلة القدرة على الإفصاح عن أغراضه ومراميه في جميع مواقفه ومذاهبه- حتى يأخذ بأزمة القول جميعها، ويشتمل على أساليب الكلام بأنواعه. ويعلم أن الكتابة في العلم غير الكتابة في الأدب، وأن للخطب أسلوبا غير أسلوب الكتب، و... واستطرد يؤكد ذلك ببيان اختلاف أنواع القول.
ثم ذكر معايب مختارات المعاصرين، ثم دلف إلى خصائص كتب المختارات الأدبية فقال: وسبيل كتب المختارات التي يراد منها غرس ملكة البيان في نفس المتأدب غير سبيل كتب العلم التي لا يراد منها غير حصول ما تشتمل عليه من قواعد العلوم ومسائلها في ذهن المتعلم، ولن تستقر ملكة البيان في النفس حتى يقف المتأدب بطائفة من شريف القول منظومه ومنثوره وقوف المستثبت المستبصر الذي يرى المعنى بعيدا فيمشي إليه، أو نازحا فيستدنيه، و... واستطرد يبين ملكة اقتناص الفِكَر، واستمر يذكر معايب المجموعات المعاصرة.
ثم دلف إلى بيان معايير اختياره مختاراته فقال: وقد جعلت قاعدتي في الاختيار جمال الأسلوب أولا، وجمال المعنى ثانيا؛ فربما أختار ما حسن لفظه وتوسط معناه، وقد أختار ما توسط لفظه وسما معناه ... ولكنني لا أختار بحال ما كان معناه ساميا ونظمه فاسدا. أما الجيد فقاعدته عندي ما يأتي "كل كلام صحيح النظم والنسق إذا قرأه القارئ وجد في نفسه الأثر الذي أراده الكاتب منه من حيث لا يجد في مسحة تدل على أن صاحبه يحاول أن يكون فيه بليغا فهو بليغ".
ثم بين أنه تصرف في المختار تبعا لسلفه السابقين الذين تصرفوا في مختاراتهم تقديما وتأخيرا و...، ثم بين كيفية الاستفادة من مختاراته فقال: لن تستطيع أن تنتفع بهذه المختارات إلا بشروط ثلاثة: أولها أن تملأ قلبك من الثقة بها والسكون إليها ...، وثانيها أن تقف بها وقوف الدارس المتعلم لا وقوف المتنزه المتفرج ...، وثالثها أن تحمي نفسك النظر في هذه المخطوطات المختلفة التي تتجدد كل يوم أمام عينيك في أسفار هذا العصر وصحفه؛ فإن التربية الكتابية كالتربية الأخلاقية يسري فيها الداء ثم يعوز الدواء، اللهم إلا ما كان من أمثال ما يكتبه الكتاب وينظمه الشعراء الذين اخترت لهم في هذا الكتاب في المعاني التي عرفوا بها وبرزوا فيها.
ثم ختم مبينا أن كل السابق لا يمثل إلا الأداة التي تحتاج إلى نفس صالحة مؤهلة قائلا :
فإن أخذت بنصيحتي، وعنيت بها العناية كلها، وكنت ممن رزقهم الله قريحة خصبة صالحة لنماء ما يغرس فيها من البذور الصالحة- بلغت ما أردت لك إن شاء الله تعالى.