1- من "الجليس الصالح والأنيس الناصح" - المعافى بن زكريا
محمد البيدق ينتقم من النمري
حدثنا محمد بن مزيد البوشنجي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد البيدق - وكان أحسن الشعراء إنشاداً كان إنشاده أحسن من الغناء - قال: دعاني هارون الرشيد في عشي يوم وبين يديه طبقٌ وهو يأكل مما فيه ومعه الفضل بن الربيع، فقال لي الفضل: يا محمد! أنشد أمير المؤمنين ما يستحسن من مديحه، فأنشدته للنمري، فلما بلغت إلى هذا الموضع.
أي امرىءٍ بات من هارون في سخطٍ ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
إن المكارم والمعروف أوديةٌ ... أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت أمراً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع
نفسي فداؤك والأبطال معلمةٌ ... يوم الوغى والمنايا بينهم قرع
قال: فأمر برفع الطعام، وقال: هذا والله أطيب من كل الطعام ومن كل شيء، وأجاز النمري بجائزة سنية، قال محمد البيدق: فأتيت النمري فعرفته أني كنت سبب الجائزة فلم يعطني شيئاً، وشخص إلى رأس عين فأحفظني وأغاظني، ثم دعاني الرشيد يوماً آخر، فقال: أنشدني يا محمد، فأنشدته:
شاءٌ من الناس راتعٌ هامل ... يعللون النفوس بالباطل
فلما بلغت إلى قوله:
إلا مساعير يغضبون لها ... بسلة البيض والقنا الذابل
قال: أراه يحرض علي، ابعثوا إليه من يجيئني برأسه، فتكلم الفضل بن الربيع فلم يغن كلامه شيئاً، فوجه الرسول إليه فوافاه في اليوم الذي مات فيه وقد دفن، فأراد نبشه وصلبه فكلم في ذلك فأمسك عنه.
قال القاضي أبو الفرج: النمري منسوب إلى النمر بن قاسط والميم من النمر مكسورة إلا أنها فتحت في الغضافة استثقالاً للكسرتين واليائين، وقد أتى ذلك عن العرب مستفيضاً مطرداً في ثلاثة مواضع، قالوا: النمري والشقري في النسب إلى شقرة بن تميم، والسلمي في النسب إلى بني سلمة من الأنصار، وقد يأتي النسب كثيراً على غير القياس، وقد قالوا الدهري في النسب إلى الدهر إذا وصفوا الرجل بطول العمر، وهو كثير جداً وعلله وشواهده مذكورة في مواضعها.
2- من "الأغاني" - الأصفهاني
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان قال حدثني محمد الراوية المعروف بالبيدق وكان قصيرا فلقب بالبيدق لقصره ، وكان ينشد هارون أشعار المحدثين وكان أحسن خلق الله إنشادا .
قال : دخلت على الرشيد وعنده الفضل بن الربيع ويزيد بن مزيد وبين يديه خوان لطيف عليه جديان ورغفان سميد ودجاجتان ، فقال لي : أنشدني !
فأنشدته قصيدة النمري العينية فلما بلغت إلى قوله:
أيُّ امرئٍ بات من هارونَ في سَخَط * فليس بالصلواتِ الخَمْسِ ينتفعُ
( إنَّ المكارمَ والمعروفَ أوديةٌ ... أحلَّكَ اللَّهُ منها حيث تتسع )
( إذا رفعْتَ امرأً فاللَّه يرفعه ... ومَنْ وَضَعْتَ من الأقوام مُتَّضِع )
( نفسي فداؤُك والأبطالُ مُعَلِمَة ... يوم الوغى والمنايا بيْنَها قُرَعُ ) - بسيط -
قال : فرمى بالخوان بين يديه وصاح ، وقال : هذا والله أطيب من كل طعام وكل شيء وبعث إليه بسبعة آلاف دينار فلم يعطني منها ما يرضيني وشخص إلى رأس العين فأغضبني وأحفظني فأنشدت هارون قوله
( شاءٌ من الناسِ راتِعٌ هاملْ ... يُعَللِّون النفوسَ بالباطلْ )
فلما بلغت إلى قوله
( إلاّ مساعيرَ يغضَبُون لها ... بَسلَّةِ البِيضِ والقنا الذابِلْ ) - منسرح -
قال أراه يحرض علي ابعثوا إليه من يجيء برأسه فكلمه فيه الفضل ابن الربيع فلم يغن كلامه شيئا وتوجه إليه الرسول فوافاه في اليوم الذي مات فيه ودفن قال وكان إنشاد محمد البيدق يطرب كما يطرب الغناء.