قدمت قناة الشرقية في رمضان هذا العام المسلسل الرمضاني ( فاتنة بغداد ) ، الذي يتناول السيرة الذاتية للمطربة العراقية الرائدة عفيفة اسكندر ، وبعد عرض اغلب حلقات العمل يمكن تشخيص بعض الملاحظات ، ومن هذه الملاحظات وأهمها أن العمل غاب عنه الحضور الواضح والصريح لمطربات تلك الفترة ، وغاب مع هذا الغياب التأثير على البداية المتعثرة للفنانة عفيفة اسكندر التي استطاعت بعد مخاض عسير الشروق في ليل بغداد الذي كانت تنير فيه بقوة منيرة الهوزوز و صديقة الملاية ، مع ان العمل أشار الى اعتراض هاتين الفنانتين على اسم عفيفة ، لكن هذا الاعتراض جاء على لسان الملحن الشهير في تلك الفترة صالح الكويتي ، وهذا غير كاف لأن الحدث يحتاج وجودهما بشخصيتين مستقلتين ، فهن ومن معهن من المتربعات على عرش الغناء في تلك الفترة كان لهن التأثير الكبير في صناعة النجمة عفيفة اسكندر خصوصاً بعد رفض الفنان صالح الكويتي التلحين لعفيفة اسكندر بعد ضغط مباشر من صديقة الملاية .
صرحت قبل ايام خادمة الفنانة عفيفة اسكندر ان سيدتها تشعر بالغرابة ، وأن العمل كان بعيداً عن الواقع ، وأعتقد ان سبب ذلك هو اقحام السياسة بجاسوسيتها في هذه السيرة ، وبشكل كبير ومبالغ فيه ، وكان الأولى بالمسلسل متابعة النواحي الفنية والشخصية وكذلك الخطوات المتتابعة للفنانة في طريقها نحو القمة ، والملاحظ ايضاً ان سلوك الشخصيات لأبطال المسلسل ، لم يكن مطابقاً لما ورد في سير حياتهم ، وعلى رأسهم القائد العسكري بكر صدقي المعروف بقوته المستمدة من حياته العسكرية ، والمعروف بعلاقاته المتشعبة عندما كان في قاطع سوريا ضابطاً في الجيش العثماني ، ولكنه ظهر في العمل القائد العسكري ذو الشخصية الرومانسية اللطيفة والحنونة ، بعكس ما يشاع عن كونه ذو سلوك عصبي ومتشكك بنوايا الاخرين وأن مصالحه الشخصية كانت فوق كل اعتبار ، والملاحظ ايضاً في هذا العمل ان المخرج الكبير علي ابو سيف لم يكن موفقاً في اختيار الفنانة ايناس طالب لتأدية دور عفيفة اسكندر ، فأيناس طالب على مايبدوا انها في الاربعين من العمر ، ومن غير المعقول ان تؤدي دور فتاة في الثامنة عشر من عمرها ، كما ان الكتلة الجسمانية للفنانة ايناس طالب غير متقاربة بتاتاً مع صاحبة السيرة ، وهذا ما جعل حركة ايناس عند اداء الاغاني مفتعل وغير متناسق ، بحساب انها تحاول تقليد حركة عفيفة اسكندر :النحيفة جداً والصغيرة في السن .
كنت قد أجريت في وقت سابق بحثاً عن ملاهي بغداد في تلك الفترة ، وتبين لي ان العوائل العراقية لم تكن ترتاد تلك الملاهي ، على عكس ما ورد في المسلسل من ان العوائل البغدادية كانت من روادها ، والعوائل التي كانت ترتاد تلك الملاهي هي من لها صلة بالفن والطرب ، ولكنها لاتشكل النسيج الاجتماعي البغدادي ، وهذا مالم يبينه جيداً الكاتب المبدع علي صبري .
يجب الاشارة هنا الى أن الفنانة عفيفة اسكندر لها اخت من أمها وأبيها وهي مطربة ولها عدة اغاني في اذاعة بغداد واسمها انطوانيت اسكندر لذلك كان يجب على الكاتب الا يختطفها ويلغي وجودها بهذه الطريقة ، لأننا ببساطة لو تخيلنا المسلسل بوجود أخت لعفيفة لكان الحال تغير شكلاً ومضموناً.
لاحظت ايضاً غياب دجلة ، هذا النهر العظيم عن التركيبة النفسية للشخصيات ، وغياب العلاقة معه بكل ماتحمل من حميمية وأنتماء ، وهذا ربما ماجعل المشاهد يشعر ببعده عن بغداد . يبقى ان احيي كادر العمل ، من كاتب ومخرج ، وممثلين وفنيين ، وكذلك تحية للمنتج صلاح كرم ، لأن العمل رغم بعض الملاحظات يبقى عملاً مهماً يتناول حياة فنانة كبيرة وشخصية نادرة لايزال صوتها يصدح في ذاكرة العراقيين ، ويصور ايضاً حيوات بغدادية جميلة ومتنوعة من الزمن الجميل الذي مضى واصبح غابراً .