هذا خلق الله
كم ذا أزعج العالم وأقض مضجعه ذلك الكائن الدقيق الذي لا يرى بالعين المجردة والذي يتراوح قطره من 80 إلى 120 نانومترًا؛ الأمر الذي يحتاج إلى آلاف المرات من التكبير حتى يمكن للإنسان أن يراه، كم ذا بعث الرعب في نفوس الملايين من البشر هذا الكائن الضعيف الذي يموت عند درجة حرارة سبعين درجة مئوية، بل إنه يموت عند تعرضه للهواء لعدد من الساعات؟، ولكن!! من أين جاءت هذه القوة المدمرة لهذا الكائن عندما يلامس خلايا الحلق والرئتين للجسم البشري؟ ومن الذي أعطاه القدرة على اختراق هذه الخلايا، وجعله قادرًا على أن يسيطر على نواة الخلية، مسخرًا إياها لكي تنتج منه آلاف النسخ التي تصبح جاهزةً للانطلاق لإصابة خلايا جديدة؟، من الذي أعطى هذا الفيروس القدرة على المناورة من أجل البقاء من خلال التحور والتطور؟، من الذي أعجز البشر رغم ما هم عليه من تقدم وتطور أن يقضوا على هذا المخلوق الواهن الضعيف؟، أليس هو الله القائل: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ (لقمان: من الآية 11).
منطق المخالفة
عندما يعايش الإنسان منطق المخالفة لأوامر الله عز وجل فإنه يجني ثمار هذه المخالفة، والدليل على ذلك عندما أباح الله لآدم أن يأكل من كل ثمار الجنة إلا شجرة واحدة ﴿وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ (35)﴾ (البقرة), ثم جاءت المخالفة من آدم فأكل هو وزوجه من الشجرة، فكانت النتيجة أن ظهرت السوءة، ﴿فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)﴾ (طه)، وهكذا الله عزَّ وجلَّ أباح لنا أكل كل شيء؛ ولكنه حرَّم علينا أكل أشياء بعينها، ومنها لحم الخنزير ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ﴾ (المائدة: من الآية 3)، فلما كانت المخالفة من البشر بالأكل من لحم الخنزير ظهرت السوءة بالإعلان عن العديد من الأمراض التي تنتقل إلى الإنسان من جراء أكل لحم الخنزير.
لماذا الخنزير؟
ولكن قد يتساءل إنسان: ولكن لحم الخنزير لا ينقل مرض إنفلونزا الخنازير؛ فنقول له إن مرض إنفلونزا الخنازير ينتقل إلى الإنسان نتيجة المخالطة والمباشرة للخنازير أثناء عملية التربية، أو الاقتناء لهذه الكائنات، وكون أن الله حرم لحم الخنزير؛ فإن ذلك يدعو بالتبعية إلى عدم تربية الخنزير واقتنائه، ومن ثم يتم تفويت الفرصة التي تؤدي إلى انتقال المرض من الخنزير إلى الإنسان، أضف إلى ذلك تلك القدرة العجيبة لهذا الكائن، والتي تكشف العلم عنها؛ وهي قدرته على خلط الفيروسات وإنتاج أنواع جديدة منها، فالله لا ينهانا عن شيء إلا وفيه الخير في تركه، ولا يأمرنا بشيء إلا وفي الخير في إتيانه.
وقد يتساءل آخر: ولما خلق الله الخنزير إذا كان مخلوقًا ضارًّا؟ نقول إنه لنفس السبب الذي خلق الله من أجله كائنات أخرى قد تضرب الإنسان مثل الميكروبات الممرضة ومثل الوحوش والكواسر ومثل الهوام والعقارب والحيات وغيرها من الكائنات، وذلك من باب الاختبار في السمع والطاعة لأوامر الله، والابتلاء في الصبر على قدر الله أو العقاب والعذاب لمن يخالف أمر الله أو نفاد الأجل لمن قضى الله عليه بالموت أو حكم أخرى لا يعلمها إلا الله.
طهارة البدن من الوقاية
لقد اشتقّت كلمة التطهير للجروح أو للجسم في الطب من كلمة الطهارة، والتي فيها يتم القضاء على الميكروبات الممرضة وقتلها؛ حتى لا يترك لها فرصة لإحداث الأمراض للجسم وخاصة عند إصابته بالجروح، ولذلك نجد أن عظمة الإسلام تجلت عندما أمرنا الشارع الحكيم بالطهارة والتطهر من النجاسات والأدران فحض إسلامنا على الغسل مرة على الأقل كل أسبوع وهو غسل الجمعة وأمرنا بالغسل عند الجنابة، وأمرنا بالوضوء الذي نغسل فيه أطرافنا وأجزاءً من جسمنا؛ مثل الرأس والوجه شاملاً المضمضة للفم والاستنثار للأنف خمس مرات في اليوم والليلة، وهو الأمر الذي ضرب رسول الله به المثل عن دور الطهارة في الوقاية من الأدران؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء"، ثم حبب إلينا إسلامنا غسل الأيدي قبل الأكل وبعده، ثم جاء العلم الحديث يخبرنا أن غسل الأيدي وغسل الأنف عن طريق الاستنثار من أفضل الطرق المساعدة في الوقاية من مرض الإنفلونزا.
ذكر الله بعد العطس
المؤمن يدرك أن هذه الفيروسات خلق من خلق الله، وهي لا تتحرك في كون الله ولا تحدث آثارها إلا بأمر من الله، ولذلك عندما يعجز البشر في التعامل مع هذه الكائنات فليس أمامهم إلا أن يذكروا الله الذي خلق هذه المخلوقات ويستعينوا به عليها، فإذا ما عطس إنسان أمره الإسلام بأن يذكر الله، فإذا ما ذكر الله حسب حال الذاكر من الذكر؛ فقد يسكن هذا الكائن ويتوقف عما يحدثه من آثار، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: "إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله"، وقد تتعجب لماذا الذكر بصيغة الحمد في هذا المقام؛ لأن ذلك يذكرنا بحال الصحة التي كنا عليها قبل حال المرض، فهذا أمر يحتاج إلى الحمد، ثم إن قدرة الجسم على العطس تدل على قدرته على التخلص من الميكروبات الممرضة أثناء عملية العطس، وهذا أيضًا يستلزم الحمد، ثم أن الحمد يدل على رضا العبد بقدر الله، وإن كان على غير مراد العبد فيكتبه الله في الحامدين فيغرس له في الجنة أشجار وغراس الحمد.
المرض والدعاء
والدعاء لون آخر من ألوان الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ على شر كل ذي شر من خلق الله، فكان الحبيب صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء "اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها"، ثم كان يدعو الله بأن يعافيه من الأمراض فيقول صلى الله عليه وسلم "اللهم عافني في بدني, اللهم عافني في سمعي, اللهم عافني في بصري، لا إله إلا أنت"، وهذا كله من باب التحصن والوقاية من الإصابات والأمراض التي قد تحدث للإنسان، فإذا ما حدث ووقع المرض يدعو المرء لنفسه "اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا" ولكن عظمة الإسلام لا تدع المرء يقف وحيدًا في الميدان عند إصابته بالمرض، بل تحض الآخرين على الدعاء للمصاب بالعطاس من باب المشاركة الوجدانية، وتأصيل معاني الأخوة الإيمانية بقولهم: "يرحمك الله" "إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه"، فإذا ما زادت مرات العطس عن ثلاث مرات يدعون له بالشفاء، ثم هناك دعاء آخر يدعو به المرء لأخيه المسلم عند المرض "نسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك" سبع مرات.
الداء والدواء
ولم يدع الإسلام أصحابه عند إصابتهم بالمرض هكذا هملاً، دون الأخذ بالأسباب المؤدية إلى الشفاء من الأمراض؛ فأخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم أمته: "إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام"، وهنا تجد الحبيب يخبر أمته أن لكل داء دواء، وأن على أمته أن تبحث عن هذه الأدوية وتتحرى النافع والجيد منها وتنبذ السيئ والرديء؛ حتى تحقق الفائدة من ورائها، وتأخذ منها ما يدفع الداء شريطة أن يكون هذا الدواء حلالاً.
وإذا مرضت فهو يشفيني
ومع الأخذ بالأسباب؛ فإن المؤمن يدرك أن الشفاء لا يكون إلا بأمر الله﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)﴾ (الشعراء)، فكم صادف أن أخذ الإنسان الدواء؛ ولكن ذلك لم يقابله الشفاء، والدليل على ذلك تلك الحالات التي لم تستجب للعلاج بعقار "التاميفلو" على الرغم من نجاعته، أو تلك الحالات التي تُصاب بالمرض، رغم أخذ التحصين ضد المرض، وذلك نظرًا لفشل التحصين، ومن ثم لا يفتن المرء بالأسباب، على الرغم من طلب الأخذ بها، وينسى مسبب الأسباب الذي بيده الأمر من قبل ومن بعد، سبحانه وتعالى عما يشركون.
-------------
منقول