الغَمامَةُ الحَمْرَاء
---------
-بعدَ لقاءٍ مصيريّ مع رؤوس العائلات-القاطنة أحد الجبال- عادَ (x1) مُحمّلا بالإجماع عليه مفكرًا ومجدِّدًا لقوانين الجبل، ولمستقبلهم، وكلمته الفصلُ والتشريع.
دخل بيته المطلّ على جرف مرتفع، تحته وادٍ سحيقٍ كثيف الأشجار والنباتات المتنوعة، والينابيع الثلاثة المتدفقة من أعلى الجبل، فهي المورد الهامّ للمياه والزراعة الخاصة بهم، وتتدرجتْ في غزارتها ضّعْفًا مع مرور فصول العام حدّ الجفاف، لتعود لدورتها بعد كلّ شتاء.
هبَّتْ زوجه لاستقباله عند باب المنزل بابتسامة الرضا والترحيب ؛فقد استطاعتْ بعد كلّ هذه السنين أن تستنتج من ملامح زوجها أساريره الحالية، رغم الجمود العام في شخصيته وحدة طباعه.
وقف طفليه أمامه كأنّ على رأسهم الطير، ولم يغامرا في رفع نظرهما إلى وجه الأب الصارم وجبينه المقطّب.
تساءلتِ الزوج: هل في الخارج تنفرج تلك الأسارير؟
نزل الدرج المؤدي لقبو المنزل؛ ممنوع لأيّ كان دخول الغرفة في آخر الرواق، والجميع يذعن بلا أدنى إشارة، بالرغم من سماع أصواتٍ خافتة ولكنها مرعبة حقًا!
ليخرج (x2) إلى حمامه فورًا والمجهّز مسبقًا، وثمّ يتناول وجبته الرئيسة وربّما الوحيدة في يومه، ويذهب إلى مقعده الخاص تحت شجرة الزيتون الكبيرة على حافة الجرف، يجلس لساعاتٍ قبل الغروب، ثمَّ يغيب عن المنزل إلى ما بعد منتصف الليل، ليبدأ نباح الكلاب، ونعيق البوم عند مجيئه!
في ليلة ربيع غير معهود عاد (x3) من غارة خارجية، هو وقليل من الشباب بعد منتصف الليل كعادته لم ينبح الكلب! ولكن نعيق البوم أغلق المكان بصياحه المزعج، فلم يجد مفرًّا من إطلاق نار على أكثر من شجرة من بندقيته التي حملت في مقدمتها حربةً ما زالت تقطر دمًا!
أسرع إلى المنزل وفي باحته ذات الأرضية الحجرية جثث عائلته جميعًا إلا ولده البكر كان مفقودًا! بالإضافة لكلبه الذي لم يقم ترحيبًا بلقائه؛ رمقهم وجبهته المجعَّدة تزدادُ تشقّقًا بنظرته الصارمة على ضوء القمر، أو ما بقي منه!
اقترب من الكلب، وركلهُ بشدة، ثمّ هرع بخطوات مرتبكة إلى درج القبو، ليدخل الغرفة الممنوعة؛ ويخرج إلى مقعده بخطى متثاقلة، ويجلس برهة ينظر في الظلام، ويبحث خلف الأفق، ليقفَ فجأة ويتقدم بسرعة خاطفة، ويرمي بنفسه إلى الوادي السحيق!
قام ((X4 من بين أغصان الشجر أسفل الوادي، يمسح من على شفتيه حمرةً داكنة، ويصلح شرواله بشدّ حزامه، ويمشي بخطواتٍ نحو مجرى النبع القريب، وتتبعه تلك الحسناء، ابنةُ المشرِّع الفاصل للجبل، يرسمان خطة هروبهما في حال انكشف أمرهما، وهما يلعبان بساقية جارية من ثلج أزفَ ذوبانه الكامل!
جلس (X5) في آخر المجلس قرب باب الخدم! عند حضرة سلطان البلاد، بعد استدعائه عن طريق مجموعة قطّاع طرق تعمل لحساب السلطات، واستمع لتوجيهات السلطة في تمكين الجهات التي لا تعرف تشريعًا إلا ما تمليه المصلحة والنفوذ، وأكد على عدم الاهتمام بالقيم البالية من شرف ونسب، والانفتاح لكل جديد يتوافق مع هذه التوجيهات!.
عاد إلى منزله تصارعه هموم شتى، وبعد صعود الجبل بكل هدوئه المعتاد، دخل المنزل وتوجه إلى المطبخ ليأكل شيئا بعد جوع، دون أن يزعج زوجه، ولا أن يفتح عليها باب غرفتها!، وصاح بابنه الوحيد فلم يسمع منه جوابًا! فأكل بسرعة، ونزل الدرج ليدخل الغرفة الممنوعة عن البعض!، ثم خرج يحمل من مطبخه زجاجة الخمر، ويذهب لمقعده الخاص؛نظر إلى الأفق البعيد، وتمنى أن يعود بالزمن كطفله اللاهي بلا همّ ولا تفكير، بلا مسؤولية عن هذا الجبل اللعين، ويوم تعيّن الفاصل والمجدد لقوانينه الصارمة.
يعرف أن أجداده حملوا المسؤولية لتصل إليه، وكانوا على قدر كبير من الالتزام بالتقاليد؛ لكنه يحمل ثقل الجبل ومشاكله المتزايدة.
ونظر إلى غصن زيتون أخضر، وتخيّل احتراق الأشجار كي لا تعيق نظره نحو أي هدف يريده بشدّة.
وقف(x7) ينتظر عربته المشدودة بحصان خاص اشتراه من أحد أفراد عائلة تخصصت باصطياد النوع الأصيل منها أو سرقتها!؛ فهو القوي الصبور الذي لا يقبل التوجيه بالسوط، إنما بمسحة من يد سائقه المحنّك؛ تساءل: هل عند الجياد شرف تدافع عنه؟
وصلت العربة وجلس في مكانه بكل أناقة فالاجتماع هام جدا، وعليه أن يمسك بزمامه جيدا، وإلا سيكون خارج سلسلة أسلافه، مهما تطلب الأمر إلى حدّ التنازل عن أي قيمة باقية.
انتهى اللقاء مع السلطة المالكة للقرار، وكان على (x8) أن يتابع التطبيق في الجبل، وإطلاق مجموعة من المراسيم، ونشر الأفراد من عاملين وعاملات كخدم لبعض المالكين في أرجاء البلاد، مع التسهيلات الكاملة لكل دوافعهم، وتغذية المتطلبات النفسية والجسدية لهم ولكل طالب لمثلها.
انتقل (x9) لقرية ساحلية، وجمع الأفراد الأكثر بيعًا للقيم البالية، وأنشأ منظومة تابعة لحكم الجبل الذي بدوره تابعًا لقرار الغمامة السوداء، وتعاقد وتعاهد على دعم المُسْتَجْلى بكل ما أوتيَ من أفراد وعتاد بعد جلائه على يده؛ بتصوير سيناريو المحرر الشريف بينما كان الهدف تثبيته في الرأي العام، واستلامه مواقع القوة والقرار.
استدعى (x10) المدعوم منه والمستلم شؤون البلاد، مع مجموعة القرار الخاصة، وقبل وصولهم للجبل وفي منزله، نزل مع كلبه إلى قبوه الممنوع مؤقتًا، ومع أحد أفراد العائلة الخواص والمشدّد عليهم، وفتح الباب ليهجم كلبه على أحد المقيدين العشرة، وأجسادهم العارية، وأغطية العين المشدودة بإحكام، فقضم كلبه حلقوم أحدهم، ومسك المرافق بخيط معدني ليحزّ على رقبة الأخر، ويتكفل هو بالباقي وبطريقته الخاصة السريعة.
حُملتْ الجثث إلى حفرة معدّة مسبقًا تحت شجرة الزيتون الكبيرة، وبالقرب من مقعده الخاص، وبعد الانتهاء ورشّ المياه فوق التربة، جلس يحدث رفيقه بالاجتماع المرتقب وكيفية ضرب الثورة التي أشعلوها قصدًا وغذّوا نيرانها لتقسيم الثروات، وإدخال الغمامة السوداء إلى البلاد بكلّ حرفنة، والرأي العام يشجب ويرحب!.
بعد برهة وقف بجانب رفيقه على حافة الجرف، وهمس له بكلمة توسّعت حدقته لسماعها، ثمّ قذف به إلى الوادي السحيق!؛ ليعود بابتسامته الحانية نحو كلبه الذي مدّ لسانهُ خارجًا، وتقطر من أنيابه قطراتٌ كثيرها دماء، وقليلها ماء...من غمامةٍ حمراء.
------------
محمد عبد الحفيظ القصاب
صيدا-لبنان- 14-3-2022
هذه هي أنظمتنا الحاكمة ومن يواليهم كلها مسرحيات والخاسر الشعوب المقهورة،عموما النص مشغول بحرفية بالاشتغال على محاور القص الحدث الشخوص الزمن المكان الحبكة الخاتمة نص متقن حقا
وتبقى القصّة القصيرة من أكثر الأجناس الأدبية العاكسة لمجتمعات سادها الظّلم والإستبداد ..
فشكرا لهذه القصّة المستجيبة لفنيات القصّ وشكرا لقلمكم الذي أتقن عرض ما يعيشه الإنسان من قهر وسطو على أحلامه ...