.. من (فقه اللغة: مفهومه - موضوعاته - قضاياه) لمحمد بن إبراهيم الحمد
***
ثانيًا: نظام المعاني بالألفاظ
قال الرافعي: عن هذا النظام: والألفاظ في هذا النوع هي التي تسوس المعاني وتنزلها منازلها، وتضعها على أقدارها، لا من حيث إن اللفظ هو الذي يوجد المعنى، فذلك ظاهر الاستحالة، ولكن على أنه هو الذي يخصص المعنى إذا كان جنسًا، وهو الذي يؤكد مبالغة في تلوين صورته النفسية حتى تنطق أجزاؤه، وحتى يقوم كل جزء منها في البيان اللغوي مقام الكل الذي هو مادة الشعور الطبيعي
وقال: والعربية تعتبر أحكم اللغات نظامًا في أوضاع المعاني وسياستها بالألفاظ، وهي من هذا القبيل أعظمها ثروة، وأبلغها من حقيقة التمدن بحيث لا تدانيها في ذلك لغة أخرى كائنة ما كانت؛ فالعرب لم يَدَعوا معنى من المعاني الطبيعية التي تتعلق بالحياة الروحية أو البدنية مما تهيأ لهم إلا رتبوا أجزاءه، وأبانوا عن صفاته بألفاظ متباينة تعين تلك الأجزاء والصفات على مقاديرها؛ فأول معاني الحياة الروحية الحب، وهذه مراتبه عندهم: الهوى، ثم العلاقة، وهي الحب اللازم للقلب، ثم الكَلَف، وهو شدة الحب، ثم العشق وهو اسم لما فضل على المقدار الذي اسمه الحب، ثم الشعف، وهو إحراق الحب للقلب مع لذة يجدها، وكذلك اللوعة واللاعج؛ فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق، ثم الشغف، وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، ثم الجوى، وهو الهوى الباطن، ثم التيم، وهو أن يستعبده الحب، ثم التَّبْل، وهو أن يسقمه الهوى، ثم التدليه، وهو ذهاب العقل من الهوى، ثم الهيوم، وهو أن يذهب على وجهه لا يستقر؛ وذلك لغلبة الهوى عليه، ومنه رجل هائم.
وكذلك فعلوا في معاني السرور، والعداوة، والغضب، والحزن، والسرعة، وغيرها.
ومن معاني الحياة البدنية أصول المعاش الطبيعية التي هي قوام أمرهم: كاللبن، فإن له نحو سبعين اسمًا باعتبار اختلاف أحواله، وقد ذكرها السيوطي في المزهر (الفصل 15 النوع 29) وكذلك الخيل والإبل والشاء، ثم صفاتها، وتسمية أجزائها، ونحو ذلك مما نكتفي لشهرته بالإشارة إليه.
وعلى أكثر هذا النوع من نظام المعاني بالألفاظ بنى الثعالبي كتابه (فقه اللغة) وهو أشهر من أن ينبه عليه؛ ولذا أوجزنا في أمثلته اكتفاءً بالدلالة على مظنتها، والحقيقة تنهض بها الكلمة الواحدة.