تأملات في اعمال الفنان عمر مصلح
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــ سميرة بطرس
مهما تعددت المدارس و الأساليب الفنية , لابد وأن تعبّر من خلال البوح عن رؤية الفنان للقضية , وطرحها أو معالجتها على خامة اللوحة , بصور منتزعة من أرض معينة – خيالية كانت أم واقعية - إلا أنها صور جديرة بالتوقف عندها والتأمل فيها.
والأسلوب التعبيري هو أحد الأساليب الجمالية الفنية القادرة على التوصيل , وإجبار المتلقي على التأمل و الشعور بحجم القضية . وهذا الأسلوب نجده طاغياً على أغلب أعمال الفنان العراقي عمر مصلح . فهو يميل كثيراً إلى عدم إمكانية التعبير عن الفكرة بشكل مباشر بل خلق جو محيط بالرمز بتأثير مباشر لما يمليه اللاوعي , وصولاً إلى اختزال اللغة بالصرخة أو إيماناً منه بأن الصرخة أساس اللغة . وإيصال ذلك أما من خلال الإيحاء أو الحلمية.
لكننا نجده في أحيان أُخرى واقعياً تقليدياً . مما يشير إلى أنه لايؤسس لوحاته تحت إسلوب محدد . بل يرسم وفق ما يتحمله الموضوع بدون اللجوء إلى إقحام الرمز , فجمال المنظر الطبيعي يغريه بالتمعن والأستمتاع . وهذا ما ينسجم تماماً مع ماقاله شراح أرسطو: ( أن الرسم نوع من أنواع المحاكات .. فهو يتوسل باللون والظل لعمل التشكيل الذي يؤثر على النفس).
من زاوية أخرى نشاهد إحدى لوحاته التي تجسد طائراً شرساً وهو واقف بكل عنفوان وشموخ رغم الجراح التي نخرت جسده , ورغم الدم النازف من خلف الضماد , نرى هذا الطائر واقفاً بإصرار وتحد وشموخ متجاوزاً ما يحيط به من بؤس وظلام وقهر واعتداء.
هنا لا يترك عمر مصلح الحرية للمتلقي بتعدد القراءات كما هو مألوف . حيث تعدد القراءات بعدد القرّاء المحكومين بالتجارب و الخبرات والتراث والشعور بالواقع . بل يجبر المتلقي على التركيز على الأَنَفَة والشموخ والتحدي . وهذا – بتقديري – نابع من شعور الفنان بالكبرياء الذي يشعر به كعراقي أولاً , وكبدوي ثانياً .. حيث ينحدر الفنان من بيئة صحراوية رغم تمدنه.
أما في أعمال أخرى كلوحة العوانس الثلاث فهي تحمل مدلولات كثيرة من حيث تغييب الوجوه واصفرار القمر والخلفية السوداء التي تشي بحجم الخراب الذي أفرزته هذه الظاهرة , والوان الملابس الزاهية التي تتناقض مع نفسياتهن.
فقد أشار عمر مصلح إلى العلّة فقط . واكتفى بطرح القضية بلا رتوش أو تحسينات لونية كانت أم إشارية . إيماناً منه بأن العلاقات الوثيقة بين اللاوعي والمدرك الحسي تثير مشاعراً تنتج اللوحة بهوية ما.
في لوحات أُخرى جسَّد الفنان عمر مصلح أمكنة مهجورة وفضاءات لاتؤدي إلا إلى اللانهاية .. بيوت متهرئة , متهالكة , وأمكنة بحجم الحشرجة – كما وصفها الناقد ناظم السعود – لانه واثق من أن البيت هو حجر الزاوية في كل الحضارات , وهو المأوى و الملاذ , وهذه إشارة إلى العمق التاريخي والإنتماء .. ولكن .. وهذه الـ ( لكن ) تسوقني إلى ما قاله أحد الفلاسفة : حين يكون البيت قوياً تكون العاصفة ممتعة.
أما اللوحات التي تنطق بالذعر والخوف والهلع فهي إشارة إلى أن اللذين يشعرون بالقهر والقلق هم اكثر الناس فهماً للمستقبل , ولايشعرون بوجود الصغائر المحيطة بهم , وهنا أتمثل بقول الشاعر :
لاتسألي النيل ان يعطي وإن يلدا
لاتسألي ...... أبدا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا.
اذاً كانت هذه نزعات واختلاجات عمر مصلح كما قرأتها.
وتبقى علاقة التوازي , و التبادل , والتفاعل المؤثر , و التحايث .. ثابتة , ولا يمكن إنكارها بين الفنون , وبين أساليب الفن الواحد.
وأخيراً أجدني مجبرة على استعارة ما قاله الشاعر عزرا باوند : إن العمل الفني المثمر حقاً .. هو ذلك الذي يحتاج تفسيره إلى مائة عمل من جنس ادبي اخر.