آخر 10 مشاركات
الزحاف الجاري مجرى العلة في القصيدة (الكاتـب : - )           »          اللَّهمَّ صلِّ على سَيِّدِنا محمد (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          سجل دخولك بنطق الشهادتين (الكاتـب : - آخر مشاركة : - )           »          دمـوعٌ خـرســــــــــاء .. !!!!! (الكاتـب : - )           »          محبك في ضيق..وعفوك اوسع ... (الكاتـب : - )           »          الزحاف المركب ( المزدوج) في العروض (الكاتـب : - )           »          الزحاف المفرد في العروض (الكاتـب : - )           »          أسماء القافية باعتبار حركات ما بين ساكنيها (الكاتـب : - )           »          في السماء بلا حدود (الكاتـب : - )           »          خطاب فلسطيني (الكاتـب : - )



العودة   منتديات نبع العواطف الأدبية > نبع الأدب العربي والفكر النقدي > دراسات نقدية,قراءات,إضاءات, ورؤى أدبية > قراءات ,إضاءات,ودراسات نقدية

الملاحظات

الإهداءات
عواطف عبداللطيف من أهلا وسهلا : بالشاعر خالد صبر سالم على ضفاف النبع يامرحبا منوبية كامل الغضباني من من عمق القلب : سنسجّل عودة الشاعر الكبير خالد صبر سالم الى منتدانا ************فمرحبا بالغائبين العائدين الذين نفتقدهم هنا في نبع المحبّة والوفاء وتحية لشاعرنا على تلبية الدّعوة

إضافة رد
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
 
قديم 01-16-2010, 08:17 PM   رقم المشاركة : 1
نبعي
 
الصورة الرمزية سحر سليمان





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :سحر سليمان غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
Oo5o.com (20) في رواية 'سواقي الوقت' لسلوى بكر: الخراف التي تلتهم الساعات!

في رواية 'سواقي الوقت' لسلوى بكر: الخراف التي تلتهم الساعات!
القدس العربي



سنغضّ الطرف، إلى حين، عن تلك الأشياء الصغيرة التي أساءت قليلا إلى رواية الكاتبة المصرية سلوى بكر 'سواقي الوقت'، وأفسدت علينا كقراء فرحة القطع الجميلة التي دعانا تقليبنا للصفحات المقروءة إلى مصادفتها بين الفينة والأخرى. وكم رجونا لو انتفت تماما وسنح لنا نص تأملي، يكون قد تاق، على بساطته، إلى استنفار أفكار قلقة، نائمة جذورها في خلفية ما.
أرادت أن تقحم في روايتها القصيرة، وقصرها محسوب لها وليس عليها، مواضيع متعددة دون أن يكون لورود كثير منها دواع حقيقية، على الرغم من كونها أسست بذلك الشكل لهندسة نصها. واحتاجت، دون أن يفرض جو مسارها السردي، أن تشير سريعا إلى أفكار منافحة ومعادية لسلوك كولونيالي قذر، ألا وهو نهب وبيع وتهريب الآثار الفرعونية القديمة بتواطؤ ابن البلد. وجعلت من ذلك عنصرا إجرائيا مهما في هدم الرواية أو في إنهائها، لأنها ألصقت هذا الشأن، الذي يكتسب أبعاداً أخرى، بحياة ساعاتي لا حول له، وإن بشكل غير مباشر. وإن كانت، أيضا، قد أثارت باقتضاب قضية الألغام في صحراء سيناء، ما فعله أيضا آخرون بنوايا حسنة، دون أن يتجاوزوا في ذلك عتبة الشهادة في تباكيهم الرث. إن من الضروري، في اعتقادي، أن يُنجز ذلك بحدس فني عال بعيدا عن ركاكة الرغبة النبوية في السبق إلى الإصلاح، ودرء الشر، على ما في هذا الخطاب من طائل سياسي مندس، وإن في مشروعية تامة. ألم نقرأ في الرواية ما يشبه: 'الصحراء ملآنة خيرا'؟
ربتتْ أيضا على قطط نائمة، مثل الاتجار في المخدرات وتناولها، مثلما لفتت النظر إلى المثلية. كل هذه الشوائب مرتبطة في ظنها بأشخاص معينين، لم تتوان بنعتهم بالأشرار، وإن تم تركيزها على تهمة فظيعة هي الاتجار في آثار الفراعنة، لكنها لطختهم، نوعا، بوصمات أخرى، وخلطت في ذلك خلطا بيّنا.
على أن باستطاعتها أن تكتب رواية الساعاتي دون أن تركن، مثلا، إلى كل تلك الزوائد، التي توقعتْ، هي، أن تكون أمرا حسنا على مستوى جدوى كتابتها الأدبية، لأنها تتطلع دائما إلى إخضاعها لخدمة قضايا المجتمع المصيرية، ما دامت تملك رؤية خاصة بها تتعلق بشخوصها وبمواضيعها؛ اختيارها لعناصرها النسائية مثلا، ولأشخاصها الذكور الذين اعتبرتهم أفرادا هانئين وعاديين لا يشكلون أي حرج لأحد. فقد استنكرت، في مكان آخر، أن نهتم بالعنصر النسائي في عمل كاتب ما أو كاتبة دون أن نهتم بالرجل في فضاء أدب ذكوري المنتج.
لن أخرج عن القاعدة يا سلوى وسوف أنظر قليلا إلى الفاكهة التي اقتسمتها صهباء مع حسن خلف ستارة برج الساعات أو، طرا، على جوانب سواقي الوقت وضفافها.
أطلقت سلوى بكر على روايتها عنوان ' سواقي الوقت' لأن بطلها الرئيسي ساعاتي مقترنٌ شغلُه بالزمن وآلات ضبطه؛ أي الساعات والمنبهات، إذ ارتأت بذلك أن تجبل حكيها بمعدن الوقت وتتركه يسيل مثل ساقية بل مثل سواق تترقرق حتى منتهاه.
إن فكرة توظيف حِرَفِيّ ٍ يُصلح الساعات في رواية لأمر جميل في أصله. لأن ذلك يستدعي، بدءا، قدرة خاصة على تحويل مهنة عادية ومألوفة لدى الناس إلى مصدر فبركة رموز ثقافية تتوخى توصيل معان فلسفية حول الزمن وعلاقة الناس به.
لكن هل وفقت سلوى بكر في رعاية سواقي وقتها؟ أي هل تمكنت من جعلها تسيل في اتجاه الحقول المترامية وصولا إلى جمالية المعنى؟
أظن، وقد يتفق معي الكثيرون، أن الساعاتي قد لا تكون له أية علاقة بالزمن كموضوعة فلسفية، وإن يكن يقدر أن يضبط عقارب ساعة ما ويجعلها تتوافق مع الوقت المتفق عليه لدى الناس. وأن يكون لكثير منهم علم محدود، أو قد ينتفي لدى بعضهم، بقانون اشتغال آلة الساعة الباطنية ودورانها المطرد، أقصد الحركة الفيزيائية المحسوبة والمتقنة. إلا أن ساعاتي سلوى بكر ليس بليدا، وإن فشل نوعا في مساره التعليمي، فهو يذكر أن الذي خلب لبه هو الساعات وعالمها السحري؛ حينما كان يجلس إلى أبيه في دكانه وهو يصلحها. واستطاع ذهنه أن يتشرب بشكل مبهم مغزى وظيفته ويتمثل الآلات التي يعالجها.
قرر أن ينفق عمره ويروي بعرق جبينه الآلة المتحكمة في الزمن. يقول: 'لأعيد الروح إليها وأضبط زمنها المنفلت'. أليس يأخذ، بشكل أو بآخر، وبهذه الطريقة، بأوصال حياته؟
نجد في رواية 'سواقي الوقت' راويا واحدا؛ هو أيضا بطلها، يتحدث بصيغة المفرد المذكر، من بداية الرواية حتى نهايتها. ولم يتناوب مع أحد في شد عصب الحكي. فالقارئ لا يعرف اسمه، إلا في وسط الرواية، ماعدا إذا فطن في الأول إلى مغزى الجملة الأولى التي جعلت بها سلوى بكر بطلها حسن مشتتا بين الحسون الثلاثة، هكذا سمتهم لما رقمتهم بالأول والثاني ثم الثالث.
يتصارع هؤلاء بداخله ويتشاجرون بشكل مطرد أوان تعلق الأمر باتخاذ قرار مَهْمَا كان شأنه، فهم يذكّرون كثيرا بثلاثي البنية النفسية العميقة للإنسان في حالي الوعي وضموره.
فهم دائمو الاختلاف حول كل الأمور، وليس غريبا إذن أن يضيق بهم حسن ويأتيه الإلهام في لحظة التبرم بهم ذاتها. أيُّ إلهام وأي ضيق إذن؟
أرادت سلوى بكر أن تجعل من حرفة بطلها شغلا عاديا تدرب عليه وجُعل دأب يومه، على الرغم من تلك الملاحظات العابرة التي طالما أثارها حسن حول الساعات والزمن.
يتحمس الساعاتي وهو منكب ومنهمك كعادته في مواجهة مشكلات الزمن وآلاته التي أولع دوما بفك شفرات عملها، كما في النص، من الصبح حتى المساء، مثله مثل أي عامل، كي يقفل عائدا إلى بيته، على الرغم من توقف ساعة حياته العائلية، بعدما طرأت واقعة وفاة زوجته، دون أن يستطيع شيئا لدرء تعطلها، إذ كان يعشقها كما باح بذلك: 'فلقد كنت أحب زوجتي حقا وكانت تملأ حياتي كلها، وعلى الرغم من أنني عقيم ولا رجاء في قدرتي على نفخ بطن أية امرأة بطفل واحد، (...) إلا أن امرأتي لم تتذمر قط، على الرغم من حبها وتعطشها لأن يكون لها طفل، بل هي تعاملت مع الأمر وكأنه نوع من القضاء والقدر، وظلت تعاملني طوال حياتها الزوجية وكأنني طفلها المدلل الوحيد. وكانت تصر على أن تحممني بنفسها وتدلك ظهري بالليفة كل يوم، كما كانت تلبسني بنفسها جواربي كل صباح ـ رغم ضيقي بذلك ـ وتدلك قدمي بكفيها الناعمتين...' تلك، لديه حقا، ساعة مبقورة الأحشاء!
'وبينما كنت أفرك على نحو غير إرادي جفني عيني المرهقتين لكثرة التحديق في بطن الأولما العجوز بعدسة التكبير الزجاجية، وحثها على طحن الزمن مرة أخرى ومصالحته؛ إذ (!) بحركة أقدام وصوت همهمات خفيفة، تداهم أذني بالقرب من باب المحل الخارجي الذي كنت على وشك إغلاقه'. إنهم ثلاثة رجال يعرضون عليه خرفاناً للبيع! الساعات والخرفان أية علاقة؟
إن لهذه اللحظة أهميتها في الرواية، إذ هي التي سوف توجهها إلى نهايتها وتجر على بطلها حسن أموراً أخرى شديدٌ عليه أن يفك لوحده معضلاتها. إن هذا التحول المفاجئ لا يخرج عما عهدته الرواية الكلاسيكية، إذ هو الكفيل بخضخضة أفقية النص كنِيّة فنية معلنة، أرادت سلوى بكر أن تصوغ من خلالها كتابتها وتمنح لنا متعة شيقة بين الساعات والخرفان!
لما أراد الرجال الثلاثة أن يرغموا حسن الساعاتي على أن يبتاع منهم خرفانهم، أجابهم بقوله: 'خرفان. الساعة عدت العاشرة والدنيا ليل. لا يا جماعة. شكرا.' غير أنهم ألحوا عليه بلهجة صعيدية: 'الليل يا أخي لا يحول بين البيع والشراء. ومالها الخرفان؟ خرفاننا عال العال ورب النعمة، وسعرها متهاود جدا ولحمها أطعم من اللوز المقشور؛ لأنها معلوفة علفة ممتازة بسم الله ما شاء الله عليها، ولا فيها أي عيب يشينها، بعد الشر.'
لكن الساعاتي لم يأبه بكل ذلك الإطراء الذي خص به صاحب الغنم ماشيته ولحومها، لأنه فكر في أمر آخر أقرب إلى تأمل فلسفي منه من تصريح عادي قد تخلل حديثا عاما بلا معنى دقيق. كتبت سلوى بكر على لسان حسن: '... ثم إن الخراف من الحيوانات التي لا تعبر فكري أبدا. على عكس الحمير التي كثيرا ما أفكر فيها...' وكأن نوعا من الألفة بين أشباه الإنس ونظائرهم قد سرى حينها أو فقط مجرد تطيّر مبرر من قبل من عدَّ، زمنها، الكولسترول من ألذ أعدائه شراسة وبأسا إذ وُجد أن لحم الخروف غني به.
تعتبر حادثة الخرفان، والتي اشتراها حسن بالرغم منه بعد ذلك، ذات مغزى مبهم بالنسبة إليه، قد يتبينه، ربما فيما بعد. حتى أن بائع الخراف قد ركز على ذلك العنصر السري في الأمر بقوله لحسن قبيل انصرافه، كدليل على ديمومة سريان قوة مفعول المعتقد الشعبي: 'الخرفان لا بد وأن يكون لها شأن معك. بكرة الزمن يثبت لك كلامي، وتتذكر كل كلمة منه'.
كان حسن، قبل انصرام هذه الهنيهات التي برم فيها تلك الصفقة الغريبة، مشتتا بين مشارب شتى، من فزع وقلق وغيظ مميت. لم يكن يدرك بتاتا بأن الأمور سوف تتم بتلك السهولة هنيئا مريئا. همس له حسن الأول بما يلي: ' لماذا لا تجرب وتملك ولأول مرة في حياتك حيوانات، لم تكن تفكر من قبل ولو لمرة واحدة في امتلاكها أبدا؟
الطريف أنك مسؤول الآن عنها، ربما ستصبح ولأول مرة في حياتك مسؤولا عن شيء آخر غير الساعات، أليس هذا من الأمور التي تدعو إلى البهجة أيضا. أليس هذا سبيلا لدرء الملل والروتين اللذين تعيشهما كل يوم ومنذ سنوات طويلة، خصوصا بعد وفاة المرحومة زوجتك؟ وربما كان ما قاله الرجل قد يكون صدقا ويتحقق ذات يوم، فيكون لك شأن مع هذه الخرفان، أو تكون بداية سكة وطريق آخر لحياتك قد لا تعرفه الآن. إن حياتك ربما ارتبطت برباط خفي مع تلك الخراف. فكر. هل تقوم بذبحها، أم أنك تنوي الاحتفاظ بها؟ أين ستضعها؟ كيف ستطعمها وترعاها؟'.
إن كل حكاية الخرفان مرصودة للقاء حسن بصهباء. هذه البدوية التي سوف تفند نظرية هيراقليطس وتنزل إلى الترعة لمرات عديدة، أو على الأقل سوف تستحم كثيرا في سواقي الوقت خلف الستارة. ويكون الزمن أمرا ملتبسا جدا بالنسبة لهما معا هي وحسن الساعاتي الذي لم يعرف أبدا أن القديس أوغسطين صرح يوما بتعذر فهمه لمعضلة الزمن، وتأكيدا، عسر فكه للتساؤل الشائك: ما هو؟
جاءت صهباء كي تتكفل برعاية خرفان حسن مناصفة في الأرباح. لكن الساعاتي لم يرتح إليها في البدء إذ قال عنها: 'بدت لي فجاجتها لا تحتمل، مثلما هذه الرائحة الخفيفة المنبعثة منها، والتي بدت لي كنوع من العطر الرخيص وقد امتزج برائحة قطيع كامل من الخراف.'
هذه المرأة التي تأملها ووجد قامتها قصيرة وجسدها ضامرا وبشرتها مشدودة وعينيها داكنتين واسعتين ملتمعتين مثل ساعتين خرجتا لتوهما من المصنع، قد تبصرها بالفعل وسنح له أن يوظف قاموس الساعاتي، معجمه، كي يصفها. سوف تكون له معها فيما بعد حكاية لم يفكر فيها لحظتها، على الرغم من وحدته القاتلة المسندة بالوعد الذي أخذه على نفسه بأن يُبقي على ذكرى زوجته الراحلة!
أول لقاء إيروسي بين صهباء وحسن جاء من خلل استرجاع في لحظة أقل ما يمكننا القول عنها أنها ليست أكثر الظروف مواءمة له. ذلك أن الأمر ألح عليه أثناء تناوله لطعام أول إفطار رمضاني دعته إليه أخته الكبرى كعادتها كل عام. ' أحدق في محتويات الطبق الكريستال الوردي ذي الحروف المذهبة، فداخل الطبق لم يكن هناك الزبيب السابح في الخشاف، وحبات التين المجفف، بل حلمات صغيرة داكنة كحلمات صهبا (بدون همزة في الرواية)، وقد تخالطت مع تلك التينتين الذابلتين المتدليتين بين فخذي. كنت أشعر بتلذذ غريب، ومذاق الزبيب والتين الممتزجين داخل فمي، وقد استرجعت بذاكرتي مذاق حلمتي صهبا، تلك التي فاجأتني وراحت تسقط عني الأوهام والأقنعة الزمنية، وتدخلني في زمنها الغامض الغريب، بينما كانت تساعدني وتزيح عني ملابسي وكل قطعة ثياب تباعد ما بيني وبينها'.
ذلك أن صهباء جاءت لرؤية حسن دون سابق موعد وشربا الشاي معا خلف الستارة، وليس فقط الشاي الأخضر، 'صهبا، كانت مذهلة، سريعة، متواترة، مباشرة وتنقل نارها دون مقدمات كفرن تجمع الغاز به، وألقي فيه عود كبريت فجأة. لم تتكلم كثيرا؛ فقد سحبتني من يدي إلى السرير الضيق، وسربلتني بمتعة مغموسة في شهد مصفى'. وحدث الذي حدث.
ظل ما يعكر صفو حسن هو خيانته لزوجته المتوفاة، فكلما عاد إلى البيت وألقى نظرته المعتادة على صورة زوجته المعلقة في الممر أحس بوخز الضمير. كما أن الصوت المكتوم في داخله يوبخه على الدوام كالتالي: 'لكن يبدو أنك نسيت أمر زوجتك ومن تكون، وكيف عاشت، وها أنت الآن تجري وراء أول بهيمة رفعت لك ذيلها. هل أنت حيوان؟ توقفْ وابتعد عن هذه المرأة البدوية الفجة؛ لأنها ستقودك إلى سكة لا يعلم إلا الله إلى أين ستكون نهايتها، وكيف ستكون حالك فيها، أنت تتدهور يا صديقي، تنحط؛ وأنا أحذرك بشدة'.
بالرغم من تدافع الأصوات العاذلة في قرارة نفسه، وقرص الذنب الذي يشكل قرحة يومية بدمويتها إزاء ذكرى زوجته الراحلة، فإن حسن الساعاتي اكتشف أن هناك ساعة بداخله راحت عقاربها تتواءم مع عقارب ساعة صهباء، وظل الزمن يبرم صفقاته أبعد من دكة عمله وعينيه المنغرزتين دوما في الأحشاء الحديدية الدقيقة للساعات، لقد صار مدمنا لصهبا إذ يقول ذلك 'وصارت كروح العطر المنعشة لروحي الضائعة، كان هناك شيء غامض جاذب فيها لا يمكن وصفه، جذبني إليها مثلما انجذبت ذات مساء إلى ثلاث كائنات لم أفكر فيها أبدا فاشتريتها. كانت حاذقة في ضبط إيقاع ساعتها الجسدية على ساعتي، وإدارة عقاربها في الاتجاه ذاته وبالإيقاع عينه، لندور وندور معا في زمن فريد من اللذة، ما أن نتعب من الدوران فيه، إلا ونكون راغبين في التوهان (!) فيه مرة أخرى'.
إن ما دفع بحسن الساعاتي لأن يتعلق أكثر فأكثر 'بالغنامة' صهباء هو غرابتها. في الوقت الذي ما تزال تفسد فيه بعض الأشياء على الدوام ذلك الارتباط غير المشروط بها، يقول: 'باتت غرابتها لذيذة محببة بالنسبة إلي، مثلما برتقالتي صدرها الجافتين وعرقوبي قدميها، بل بت خبيرا ببعض مفرداتها البدوية الخشنة، فاكتفيت بالابتسام عندما نعتتني برَاجْل كلب، إذ كنت أعرف أنها قصدت أنني مجنون وفقا للغته ـ ولست كلبا ـ كما كنت أظن في بداية علاقتي بها؛ لكن رائحتها الخِرافية النفاذة ظلت هي المشكلة الوحيدة المؤرقة لغرامي الغريب بها...'
مضى حسن أبعد من إدراك بسيط وحاول وضع تقابلات خاصة لقبوله لرائحة صهباء بأن أصر بتأن تأتى له عبر الأيام باستمرائها قال: 'غير أنني وبمرور الأيام، بت معتادا على عبير صهبا الخِرافي' بل فوق ذلك 'صارت تثير بداخلي مشاعر سرية غامضة'.
في الحقيقة لقد تحولت صهباء بالنسبة للساعاتي إلى نوع من المحفز الذي يستثيره في جانب منه، بالقدر الذي يثبطه في جانب آخر. وصارت رفقتها تشكل بنيات متراكبة من المنبهات النفسية المرتبطة بعوالم الطفولة. يقول: 'فقطيع الخراف المنبعث من جسدها، كان يتسلل إلى أنفي وكأنه بعض من روائح عالم طفولتي البعيدة: رائحة القطط الضالة على السلالم الرطبة لمنزلنا القديم وهي تنظف نفسها بعد التهامها بقايا أسماك نيئة من صفائح الزبالة، ورائحة أخي وهو يثغو وقد أخرج فمه من ثدي (!) أمي؛ بعد أن فاض حليبها على ذقنه الصغيرة وعبقت رائحته خياشمي (!) ثم تلك الرائحة التي لا تنسى: مرق الإوز الكسكسي وهو ما كانت تحرص أمي على طبخه لنا مع حلول يوم عاشوراء من كل عام'.
وكأن سلوى بكر تجهد نفسها على صنع تحليل نفساني للساعاتي لتوضح المعضلة التي تؤرق باله. وجعلت بذلك أكثر الأشياء تقززا في عينه أمرا جميلا بل بابا عريضا يفضي إلى جنة طفولته، حيث ما تزال الأم وحنانها وحيث جِدة الحياة وعذوبة ألوانها التي تشرق مع كل صبح وليد. فرائحة الخراف التي تنفره من صهباء صارت حاجة أخرى مثلها مثل حضور صهباء نفسها، بل اتحدت بها وصار حضورها ميدانا لهبوب ريح ناعمة على حسن الساعاتي الذي صار فريسة لكآبة لا تُقهر. وتحولت صهباء بالنسبة إليه مخبأ آمنا من المخاوف التي ألمت به. يقول: 'كنا بمجرد أن نختفي معا خلف الستار، وتعبق المكان بخلطة الصوف والدهن الرعوي، سرعان ما تتملكني بهجة طاغية في الاختفاء بسرداب زمنها الجسدي المستحيل الفارق عن كل زمان عشته أو يمكن أن أعيشه بعد ذلك'.
فبعد أن انفرطت العرى التي كانت تصله بزوجته لما خان ذكراها، جز ما تبقى منها بالمرة مشنعا بتأفف مر: ' إلى الجحيم' وهو يخاطبها، ليبني على أنقاضها آخر ما تبقى له؛ أي عالم صهباء الذي تراءى له كمون الحياة فيه: '...وليعش عالم ما وراء الستار. ففي سرداب لذته السرية تكمن الحقيقة وتكمن الحياة، حياة مديدة لحمالات الصدر النايلون الحمراء والقمصان الداخلية الدمور وكل ما يبيعه سوق الخميس لصهبا من حرامل وكلاسين بلون البرسيم وقرون الفول والشطة الحمراء.' لأنه كان قد أجرى مقارنة ذهنية بين عالم زوجته الحضري ومعرفتها بشؤونه وعالم صهباء البدوي في تأخر أهله عن الحضريين، خاصة في الملبس والمأكل وكماليات الحياة بما فيها من ترفيه وزينة.
أما صهبا التي قال عنها أنها 'أشعلت مصابيح جسدي بنور صاخب عظيم'. فقد حان الأوان كي تغادره. فبعد مغامرته في مشروع جديد أي ' التوكيل'؛ قبوله بترك مهنة إصلاح الساعات ليتولى بيع ساعات جديدة وثمينة باشتراكه مع خالد وأصحابه في نفس المحل بعد إصلاحه، حدث سوء تفاهم بينه وبين صهبا وتركته بعد أن لطمته.
في الواقع خالد وأصحابه متورطون في أعمال مشبوهة ما بين المخدرات والمثلية كما ضبط تشكيلهم لتهريب الآثار الفرعونية إلى الخارج. لتنتهي الرواية بخروج حسن الساعاتي ساهما على غير هدى في حـَوَار ٍ لم يطرقها قط مطاردا وهما جديدا.
المشكلة مع رواية سلوى بكر هي كالتالي: ان هم الروائية هو فضح ذلك الفساد الجاري في مجتمعاتنا. غير أنها لم تحسن ذلك. لأن الرواية مبنية أصلا على حكاية حسن الساعاتي، غير أنه، في تصميم سلوى بكر، كل تلك الحكاية هي مجرد تفاصيل غير مهمة في ذاتها وإنما تكتسب أهميتها فقط في كونها سوف تمضي بنا في سلسلة تلك المتتاليات المتشابكة؛ من الساعات إلى الخراف إلى التوكيل وإلى أصحابه كي نصل إلى الخلاصة وهي توقيف هؤلاء المهربين الأشرار الذين يملكون شققا وأرصدة مالية ضخمة في سويسرا ويعيشون في أبهة ومجون من حشيش وكحول وجنس!
كان هدفي في تفاعلي مع رواية ' سواقي الوقت'، ما لم يحدث لي إزاء روايات أخرى للكاتبة، أن أنبه إلى كون سلوى بكر قد أبانت من خلالها على مقدرة خاصة في الوصف وترصد نفسية الساعاتي، ما كان سوف يرقى بالرواية لو لم تخن ذاتها وخدعتنا في تتبعنا لجمال تلك العلاقة وتعقدها الفلسفي بأن جعلت منها على طول الفترة الزمنية التي غطتها في النص مجرد بؤرة سوف تتمخض فيها الأحداث كي تصل إلى انحلالها غير ذي شأن.
لنتخيل أمرا، لو خصصت الكاتبة هذه الرواية لتناول علاقة الساعاتي مع صهباء بأن تحافظ على الخراف وتحافظ على محل إصلاح الساعات حتى الأخير، وتجعل هذه العلاقة تتطور، فلسفيا، من الداخل وتتفتح الروابط الجنسية بين الطرفين. وتترك لهما فرصة تأمل العالم من حواليهما، ما بوسعها أن يمكّنها من وضع آرائها حول المجتمع والدين والسياسة وغيرها في قوالب فنية جميلة يجنبها التقريرية التي لا تميز الأدب عن نشرات الأنباء.
قد تكون الكاتبة وضعت نصب عينيها السينما وهي تكتب روايتها، وحاولت أن تضع لها نهاية مقبولة يبتهج لها نظارة الشاشة، لكنها مع الأسف، وإن نست ذلك، فالأمر لا يحدث الأثر الطيب عينه، والمرجو، على قراض الورق!













التوقيع

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

عل الود يؤطر ارواحنا دوما كما يؤطر البياض قلوبنا

  رد مع اقتباس
قديم 01-16-2010, 09:12 PM   رقم المشاركة : 2
مؤسس
 
الصورة الرمزية عبد الرسول معله





  النقاط : 10
  المستوى :
  الحالة :عبد الرسول معله غير متواجد حالياً
اخر مواضيعي
قـائـمـة الأوسـمـة
افتراضي رد: في رواية 'سواقي الوقت' لسلوى بكر: الخراف التي تلتهم الساعات!

شكرا أيتها الأديبة سحر سليمان

فقد نقلت لنا نقدا

لرواية عل أخوتك وأخواتك يستفدن منه

تحياتي ومودتي






  رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:45 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.9 Beta 3
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
:: توب لاين لخدمات المواقع ::