(1)
أذكر هذه الحالة لمن يتفاعلون مع كتب التراث التي يأتي فيها ما يخالف المشهور من القواعد في حذف نون الأفعال الخمسة حتى لا يبادَر إلى تخطيء ما له وجه في الصحة.
(2)
1- حاشية الصبان
وقد تحذف هذه النون في حالة الرفع وجوبًا، فتقدر كما في نحو هل تضربان هل تضربن يا زيدون وهل تضربن يا هند، وجوازًا بكثرة في الفعل المتصل بنون الوقاية نحو تأمروني بناء على الصحيح من أن المحذوف نون الرفع لا نون الوقاية. وإذا لم تحذف جاز الفك والإدغام وبالأوجه الثلاثة قرئ تأمروني. وبقلة في غير ذلك نحو:
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي *وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وفي الحديث "والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا" الأصل لا تدخلون ولا تؤمنون، وقرئ {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48] أي يتظاهران فأدغم التاء في الظاء وحذف النون. كذا في التصريح وغيره، لكن قال الدماميني وشارح الجامع: إنه شاذ. وقال في الهمع: لا يقاس عليه في الاختيار.
2- "خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب" للبغدادي
(الشَّاهِد الثَّلَاثُونَ بعد الستمائة)
الرجز
(أَبيت أسرِي وتبيتي تدلكي... جِلْدك بالعنبر والمسك الذكي)
على أَن النُّون من الْأَفْعَال الْخَمْسَة قد ينْدر حذفهَا لَا للأشياء الْمَذْكُورَة نظماً ونثراً. وَالْأَصْل تبيتين تدلكين.
قَالَ ابْن جني فِي بَاب مَا يرد عَن الْعَرَبِيّ مُخَالفا لما عَلَيْهِ الْجُمْهُور من كتاب الخصائص: سَأَلت أَبَا عَليّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَن قَوْله:
(أَبيت أسرِي وتبيتي تدلكي... وَجهك بالعنبر والمسك الذكي)
فخضنا فِيهِ وَاسْتقر الْأَمر فِيهِ على أَنه حذف النُّون من تبيتين كَمَا حذف الْحَرَكَة للضَّرُورَة فِي قَوْله [السَّرِيع]:
فاليوم أشْرب غير مستحقبٍ
كَذَا وجهته مَعَه فَقَالَ لي: فَكيف تصنع بقوله: تدلكي قلت: نجعله بَدَلا من تبيتي أَو حَالا فنحذف النُّون كَمَا حذفهَا من الأول فِي الْمَوْضِعَيْنِ. فاطمأن الْأَمر على هَذَا.
وَقد يجوز أَن يكون تبيتي فِي مَوضِع النصب بإضمار أَن فِي غير الْجَواب كَمَا جَاءَ بَيت الْأَعْشَى [الطَّوِيل]:
(لنا هضبةٌ لَا ينزل الذل وَسطهَا... ويأوي إِلَيْهَا المستجير فيعصما)
انْتهى.
وَأوردهُ ابْن عُصْفُور أَيْضا فِي كتاب الضرائر قَالَ: وَمِنْه حذف النُّون الَّذِي هُوَ عَلامَة للرفع فِي الْفِعْل الْمُضَارع لغير ناصبٍ وَلَا جازم تَشْبِيها لَهَا بالضمة من حَيْثُ كَانَتَا علامتي رفع نَحْو قَول أَيمن بن خريم [المتقارب]:
(وَإِذ يغصبوا النَّاس أَمْوَالهم... إِذا ملكوهم وَلم يغصبوا)
وَقَول الآخر:
أَبيت أسرِي..................... الْبَيْت
وَقَول الآخر أنْشدهُ الْفَارِسِي [الرجز]:
(وَالْأَرْض أورثت بني آداما... مَا يغرسوها شَجرا أَيَّامًا)
أَلا ترى أَن النُّون قد حذفت من يغصبون وتبيتين وتدلكين ويغرسون لغير ناصب وَلَا جازم كَمَا فعل بالحركة فِي أشْرب من قَوْله:
فاليوم أشْرب غير مستحقبٍ
وَلَا يحفظ شيءٌ من ذَلِك فِي الْكَلَام إِلَّا مَا جَاءَ فِي حَدِيث خرجه مُسلم فِي قَتْلَى بدر حِين قَامَ عَلَيْهِم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فناداهم...... الحَدِيث.
فَسمع عمر قَول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ يسمعوا وَأَنِّي يجيبوا وَقد جيفوا فَحذف النُّون من يسمعُونَ ويجيبون. انْتهى.
وَهَذَا الْبَيْت لم أَقف على قَائِله.
3- "إعراب القرآن" لابن سيده
وقرأ عبيد بن عمير: لم تلبسوا، وتكتموا، بحذف النون فيهما، قالوا: وذلك جزم، قالو: ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق لِمَ بلم في عمل الجزم. وقال السجاوندي: ولا وجه له إلاَّ أن "لِمَ" تجزم الفعل عند قوم كلم. انتهى. والثابت في لسان العرب أن لِمَ، لا ينجزم ما بعدها، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى لَم في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً، وذلك في قراءة أبي عمير، ومن بعض طرقه قالوا: ساحران تظاهرا، بتشديد الظاء، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون.
وأما في النظم، فنحو: قول الراجز:
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد: وتبيتين تدلكين.
وقال:
فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو* ستحتلبوها لاقحاً غير باهل
4- "اللباب في علوم الكتاب" لابن عادل الدمشقي الحنبلي
ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير، وهي: لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين كأنه توهم أن "لَمْ" هي الجازمة، فجزم بها، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على "لم" - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة، كيف يقولون في جار ومجرور: إنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها، ومن ذلك قراءة بعضهم: ( قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ( [ القصص: 48 ] - بتشديد الظاء - الأصل: تتظاهران، فأدغم الثاني في الظاء، وحذف النون تخفيفاً، وفي الحديث: "والذي نفسي بيده، لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا..." يريد عليه السلامُ: لا تدخلون، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى.
وقال الشاعرُ [ الرجز ]:
1507 - أبِيتُ أسْرِي، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي*وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي
يريد تبيتين وتدلُكين.
ومثله قول أبي طالب [ الطويل ]:
1508 - فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ* سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ
يريد: ستحتلبونها.
ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط؛ لأن الفاء مُرادَة وجوباً؛ لعدم صلاحية "ستحتلبوها" جواباً؛ لاقترانه بحرف التنفيس.