عبد السلام بن عبد العالي - كثيرا ما تساءلت، وأنا أبعث إلى موقع الأوان بما أكتبه، هل هناك نصوص لا يصلح نشرها على المواقع الالكترونية؟ هل هناك نصوص لا يمكن أن تنشر إلا على صفحات الجرائد والمجلات، وأخرى خاصة بالمواقع الالكترونية؟
قبل أن يظهر النشر الالكتروني كانت لنا، لا أقول معايير ثابتة، وإنما أعراف متّبعة تسمح بالتّمييز بين ما يصلح للنّشر على صفحات المجلات، وما يصلح للجرائد.وحتى إن كان النّشر في الجريدة فهناك ما ينشر في الصفحة الأولى، وما يظهر على الأخيرة، بل هناك ما لا يمكن أن يظهر إلا في ملحق أسبوعيّ…
الخلاصة أنّ ما كنّا نكتبه كان يُحدِّد، ويَتحدّد بأين نكتبه، وأنّ منبر الكتابة كان يحدّد قيمتها، بله شكلها وحتى مضمونها.في هذا الإطار تميّزت مجلات عن مثيلاتها، وكتّاب عن زملائهم.كان هناك على سبيل المثال كُتّاب مجلة “نقد” الفرنسية، وهم يختلفون تمام الاختلاف عن كتّاب “المجلة الفرنسية الجديدة”، بل حتى عن كتاب “النقد الجديد”، و”الإنسان والمجتمع”.الأمر ذاته يمكن أن يقال بطبيعة الحال عن مجلاتنا العربية.
بل إنّ دور النشر ذاتها كانت تتوزّع وقتها إلى جهات غير متكافئة.فمن ينشر عند “المنشورات الجامعية الفرنسية” أو “فران” ليس كمن ينشر عند “ماسبيرو” أو” المنشورات الاجتماعية”.وبالمثل، من كان ينشر في “دار الطليعة” عندنا في العالم العربي ليس كمن ينشر في “دار المعارف”، أو “دار العلم للملايين”.لقد كان اسم دار النشر على الغلاف يكاد يدخل ضمن المحدّدات الفكرية للكتَاب ويعيّن توجّهه فيحدّد قرّاءه.
كل هذا لندلّل بأنّ منابر النّشر ليست مسألة عَرَضية، وإنّما تدخل في وسم الكتابة وتحديد شكلها بل حتى معانيها.
لم يكن هذا الأمر ليخفى على قدمائنا الذين لم يحدّدوا الكتابة بالمنبر والمقام فحسب، وإنما أيضا بالمادّة التي تكتب عليها والحامل الذي يحملها.وقد بيّن الأخ عبد الفتاح كليطو في “الكتابة والتناسخ” كيف كانت قيمة النصوص عند قدمائنا تتغيّر بحسب حواملها.وهو يورد في هذا الصدد اقتباسا للجاحظ يثبت فيه أنّ النصّ لا يلقى الاستجابة نفسها إذا كان مكتوبا على قطعة جلد أو على دفاتر القطني: “فليس لدفاتر القطني أثمان في السوق، وإن كان فيها كلّ حديث طريف، ولطف مليح، وعلم نفيس.ولو عرضت عليهم عدلها في عدد الورق جلودا ثم كان فيها كلّ شعر بارد وكلّ حديث غثّ، لكانت أثمن ولكانوا عليها أسرع”.فكأنّ النص يستمدّ قيمته من الجلد الذي حُمل عليه.ولا عجب في ذلك فالجلود “أحمل للحكّ والتّغيير، وأبقى على تعاور العارية وعلى تقليب الأيدي، ولرديدها ثمن، ولطرسها مرجوع، والمعاد منها ينوب عن الجدد”.ما يفيد أنّ قدماءنا كانوا على أتمّ وعي بأنّ “أرواح” النصوص تستمدّ من “أجسامها”، وأنّ للكتابة جسدا تعيش به وعليه.
ربّما على النحو ذاته يمكننا أن نؤكّد أنّ الكتابة الالكترونية ترسّخ اليوم عوائد جديدة، وتعطي للمكتوب خصائص لم يكن له عهد بها فيما قبل.
أوّل ما يميّز هذه الكتابة هو كونها تعتمد ذاكرة “مستقلّة” عن ذاكرة الكاتب.فما ينشره الكاتب على الموقع الالكترونيّ لا يضيع بنسيانه ولا يتوقّف على مدى تذكّره.وحتى إن رغب هو في إتلاف النص فلن يكون الأمر بمقدوره، لأنّ “ذاكرة الشبكة لا تنسى”.
ثمّ إنّ الكاتب على الموقع الالكتروني لا يمكنه أن يتحكّم بالضبط في الموقع، أو على الأصحّ المواقع التي ينشر فيها.إذ بمجرّد أن يظهر نصّه في أحدها حتى يدخل في مسلسل الاستنساخ اللامتناهي، وسرعان ما يقرأ الكاتب نفسه في منابر لم يكن له عهد بها، ويجد نفسه بين كتاب آخرين لم يكن ليتصوّر أنه قد يشاركهم المنبر نفسه، إلى حدّ أنّ بإمكاننا القول إنّه لا يمكن للكاتب اليوم أن يزعم أنه يكتب في منبر بعينه، أو أنّه يختار المنابر التي ينشر فيها.إنّه يرمي بنصه في الشبكة، ويُلقي به في عارضة الطريق، وهو اليوم “طريق سيّار”.
فضلا عن ذلك فإنّ هذه الكتابة ترسّخ علاقة جديدة بين الكاتب والقارئ، بين المؤلّف والناقد.وهذه إحدى المميزات الأساسية لهذه الكتابة، وهي أنها غالبا ما تدخل في مسلسل التعليق والتعليق المضادّ بمجرد أن “تلعقها” الشبكة.هناك “سيولة نقدية” مخالفة لما كان معهودا في الكتابة الورقية.ذلك أنّ هذه الأخيرة، نظرا لما تعرفه من بطء النشر والانتشار تحتاج إلى كبير رويّة كي تُتلقّى وتُهضم حتى يتمّ انتقادها.أمّا الكتابة الالكترونية فهي تكاد تظهر مع حواشيها دفعة واحدة، بل غالبا ما يغدو حجم التعليقات والحواشي أضخم بكثير من النص ذاته.وهي تعليقات تتمتّع بقدر كبير من “الحرية”، خصوصا وأنّها معفيّة من الرقابات المتنوّعة التي يفترضها النشر الورقيّ عادة.
لعلّ ذلك هو ما يبرّر “غزارة” الإنتاج التي أخذنا نلحظها عند الكتّاب الذين ينشرون على الشبكة.فربّما كانت سهولة التلقّي وسرعة “الاستهلاك” والتعليق هي التي تجرّ الكاتب إلى أن يواصل حواره مع قرائه بمجرد أن يتلقّى ردودهم.لنقل بأنّ التفاعل بين الكاتب والناقد يغدو بفضل النشر الالكتروني أكثر اتساعا، وأكبر سرعة، وربما أشد إرغاما.
الخلاصة إذن أنّ هذه الكتابة ترسّخ علاقة مغايرة بالزمن، زمن التذكّر، وزمن الإنتاج والكتابة، وزمن التلقّي والقراءة، وزمن التفاعل مع النصوص.الأمر الذي سمح بظهور ما يمكن أن نسمّيه “مجلات يومية”، أو “يوميات” على شكل مجلّة تتنوّع أبوابها وتتعدّد موضوعاتها.وهو أمر لم يكن يسمح به النشر الورقيّ على الإطلاق، إلى حدّ أنّ اسم “اليومية” اقترن بالجريدة السيارة التي لا تعمّر طويلا ولا تنشر ما من شأنه أن يبقى ويدوم.
يتبيّن إذن أنّ النصّ إذا هو أراد أن يغدو الكترونيا ينبغي له أن يراعي هذا المفهوم عن الزمان ، بل أن يوظّفه، لا في بنائه وشكله، بل ربما حتى في مضمونه ومعانيه، ولعلّه بذلك يتميّز عن ذلك الذي يتشبّث بأن يُحمَل على الورق حتى يحافظ على تروّيه ورويّته.
أشكرك جزيلاً على نقل هذا الموضوع الشيق
وأضيف:
الكاتب إنحاز تلقائياً إلى النشر الإلكتروني لأنه لم يذكر أن النشر الإلكتروني ترك المجال لأن يختلط الحابل بالنابل كما يُقال .واختلط الغث بالسمين وصار الكتاب وأشباه الكتاب في نفس الخانة حتى أنني ألاحظ أحياناً تعليقات مدح وثناء كثيرة جداً لنصوص لا ترقى إلى مستوى نصوص الهواة أو طلبة الصفوف المتوسطة.
تحياتي العطرة أخت رائدة