نازك الملائكة
حفزني الى كتابة هذا الموضوع عن الشاعرة العراقية نازك الملائكة ، هو كتاب بعنوان
(( محاورات في الفكر والادب والسياسة)) اهداه لي مؤلفه ، وهو صديق ، ويعمل كرئيس تحرير في احدى الصحف . والعامل الاخر الذي دفعني الى كتابته ان نازك الملائكة ، كانت تسكن مع افراد عائلتها السبعة في شارع ابو قلام ببغداد ، أي كانت جارة لصديقي الصيدلي عزيز، والذي سبق وان كتبت عن احدى مغامراته ، وان ساعدني الحظ ساعيد كتابتها في منتدانا.
اما العامل الاخر ، والاهم هو ابراز حقيقة لا تقبل الجدل ، أن اول من ابتكر الشعر الحر هو الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ، ولو ان نازك ادعت ان قصيدتها (( الكوليرا )) قد نظمتها يوم 27/10/1947 والتي نشرت في اول كانون الاول . وتدعي ان الشاعر بدر شاكر السياب اصدر ديوانه ((ازهار ذابلة)) في بغداد في منتصف كانون الاول من ذات العام ، وكانت فيه قصيدة بعنوان (( هل كان حبا )) ، ولكن غاب عن بالها ، ان ديوان بدر طبع في مصر وليس في العراق ، وان قصيدته في الشعر الحر كتبت قبل اكثر من عام. والتي يقول فيها:
هل تسمين الذي القى هياما؟
أم جنونا بالأماني ؟ أم غراما
ما يكون الحب ؟ نوْحا وابتساما ؟
أم حقوق الاضلع الحرى ، اذا حان التلاقي
بين عينينا ، فأطرقت ، فرارا باشتياقي
الشيء الذي لا احد ينكره ان الشاعرة نازك الملائكة كانت رائدة التجديد في الشعر العربي ، وقد صدر ديوانها الاول ((عاشقة الليل)) عام 1947 ، وبعد سنتين من ذلك صدر ديوانها الثاني (( شظايا ورماد)) أي عام 1949 وهي المجموعة التي دعت فيها للشعر الحر وحددت الاوزان الاساسية له ودعت له بقوة في مقدمتها.
اما ديوانها الثالث ((قرارة زوج)) فصدر عام 1957 وفي عام 1968 صدر ديوانها الرابع ((شجرة القمر))
عينت مدرسة في دار المعلمين العالية بجامعة بغداد.الشيء الغريب انني لم اعثر على سنة ميلادها ، ولكنها كانت الطفلة الاولى لوالديها ، واعتقد انها ولدت عام 1924 لان اباها رزق بابنة ثانية عام 1925 و اباها كان يفرح جدا بالبنات وسماها احسان ليعبر عن رضاه لهذه المنّة التي منّ الله بها عليه ، مخالفا جميع الاعراف السائدة بين الاقرباء والناس بخصوص ولادة الانثى. وبعد سنتين جاءت البنت الثالثة وقوبل النبا بحزن كبير وان بعض النساء اخذن يبكين ، حتى وصل الامر ان عمتها حياة (عمة ام نازك) والتي جاءت للعناية بأم نازك ومداراتها ، رجعت في الحال محتجة لمجيء البنت. وهنا تذكرت عواطفنا وكفاحها لحقوق الانثى التي لاقت ولما تزل تلاقي الامرين من مجتمع الرجال.
صلاح : (( والله تتقزز نفسي من هذه العقول الاسنة التي هي من عادات العصر الجاهلي )) اما والدها فانشرح صدره فرحا للخبر وسماها سعاد لأنها بشرى للسعادة ودللها ، وظلت أثيرة عنده ، وكانوا يسمونها محبوبة ابيها. وتذكر نازك في احدى مذكراتها والتي كتبته عام 1941 تقول : حول ولادة اختها الصغرى سها : قبل ولادتها جمع اباها افراد عائلته ونظم نشيدا يتلونه وسمى المولودة سها قبل ان يعرفوا اذكرا هي ام انثى:
نازك بنتي نافعة …. لامها مطاوعة
ومثلها احسان … جمالها فتان
وهكذا سعاد … يحبها الاولاد
في سها الجمال … قد تم والكمال
وتستمر في مذكراتها قائلة ((وكان يوما مشرقا جميلا ، على ان القوم كعادتهم لم يبشروا لقدومها الى الحياة وانما عبسوا كأن صدق فيهم قوله تعالى:(( وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى في القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون )) وكان اشد الجميع غضبا على الطفلة المولودة المرحومة جدتي , اما والداي ونحن فقد سررنا بالصغيرة الجديدة خاصة وان ولادتها كان قبيل عيد الاضحى فاحتفلنا بكليهما ))
وأخيرا ولدت امها ذكرا سموه نزار وتبعه المولود الاخير عصام.
كان والدهم عندما يكون في البيت يجمعهم في اماسي الصيف ويغني نشيدا خفيفا من نظمه وتردده زوجته وصغيراته. ومن امثال هذه الاهازيج:
يا امنا يا غالية … يعطيك ربي العافية
انت لنا معاذ … وملجأ مَلاذ
تعتز جدا بوالديها وتقول في مذكراتها (( اما ابي فقد بقي استاذي في النحو حتى انهيت دراسة الليسانس وكنت اهرع اليه بكل مشكل نحوي يعرض لي وانا اقرا ابن هشام والسيوطي والاشموني وسواهم ))
في بداية عام 1953لاحت غمامة سوداء في سماء العائلة دون ان يشعر بها احد الا امهم التي فجاها المرض. اعتاد افراد الاسرة ان يحتفلوا في 29 شباط بعيد ميلاد امهم الخامس والاربعين والذي يحل مرة كل اربع سنوات . كانت الوالدة متوعكة الصحة وتبدو عليها علامات المرض ، فاراد ابناؤها ان يحتفلوا بهذا اليوم بصورة اكبر واجمل من المعتاد ليدخلوا السرور في قلبها. فاشتروا لها عدة هدايا وغيروا بعض اثاث غرفة نومها ، وفي الساعة المحددة ذهبت نازك اليها وأخذتها الى المكان الذي اعدوا فيه وتوقعوا الفرحة التي ستغمرها وهي تشاهد اهتمام ابنائها بها الا ان ما حدث هو العكس وتصف نازك تلك الوضعية وتقول :
حتى اذا اكملنا كل شيء وبسطنا المائدة ذهبت اليها وقلت لها اننا قد اعددنا مفاجأ سارة واصطحبتها الى حيث كان اخوتي مجتمعين حول كعكة الميلاد والشموع . وعندما دخلت الغرفة وأدارت بصرها في الاشياء وقع شيء لم يكن في حسابنا ولم يخطر لنا على بال، فقد صاحت في جزع (( ماذا صنعتم ؟ ما معنى هذا كله ؟ )) فقلت لها انه يوم مولدك يا امي الحبيبة ونحن سعداء بك وبه ولذلك اعددنا لك هذا الاحتفال . وما كادت تسمع هذا حتى شحبت شحوبا شديدا وتراجعت خطوتين وسقطت على اقرب كرسي وقالت في سوط رهيب :اني ساموت هذا العام. وهذه حفلة الوداع.
وقد حدث بيننا هرج ومرج واحتجاج ، والتففنا حولها نتوسل اليها ان تكف عن هذا الحديث . ولكنها ابت وكررت عبارتها واصرت عليها ولم تسعد لا بالهدايا ولا بالشموع ولا بسرورنا . وقد خيم الوجوم على الحفلة وأحسسنا كلنا بالانقباض وان كنا لم نصدق نبوءتها .
ازداد بها المرض ونصحها الاطباء ان تسافر الى انكلترا لاجراء عملية سريعة يجريها لها احد الاخصائيين. لم يكن بين افراد العائلة من هو اهل لهذه المهمة سوى نازك لانها تجيد الانكليزية وتعرف انكلترا لانها قد زارتها سابقا فتقول نازك في مذكراتها (( والله وحده هو العارف بما عانيت في تلك الليالي الداكنة الحزينة التي سبقت السفر فقد كان قلبي مثقلا برؤى رهيبة ومخاوف لا وصف لها. وكنت اتقلب على سريري ساعات لا انام ثم اكتشف ان سها مؤرقة مثلي ، فأصارحها بما في نفسي وتصارحني. وفي ليلة سفرنا حلمت انني اسير في شوارع لندن وابحث عن تابوت اشتريه فلا اجد. وتشاءمت من الحلم وجزعت ولم اجرا ان اقصه على احد في البيت خوفا على مشاعرهم ))
ام نازك لم ترغب السفر لانكلترا من اجل العلاج وانصاعت تحت ضغط ابنائها مجبرة وقد صرحت لبنتها نازك قائلة (( انا يا نازك عدوة لهم وشعري كله حرب على اسرائيل والصهيونية . ولذلك اخشى انهم سيقتلونني فلا ارجع الى الوطن )) توفيت امها وخيم الحزن عليهم جميعا وتحولت الاسرة من جو الفرح الى جو الكابة والحزن وصار صوتها يتردد في اذانهم (( انهم سيقتلوني ))
وتكتب في مذكراتها عن والدتها تقول (( واما والدتي فكان لها اثر واضح في حياتي الشعرية، لاني كنت اعرض عليها قصائدي الاولى فتوجه اليها النقد وتحاول ارشادي، ولكني كنت اناقشها مناقشة عنيدة ، فقد لاح علي منذ مرحلة الثانوية التاثير بالشعر الحديث ، شعر محمود حسن اسماعيل ، وبدوي الجبل ، وامجد الطرابلسي ، وعمر ابو ريشة ، وبشارة الخوري وامثالهم ، بينما هي كانت تعجب بشعراء اقدم ، كالزهاوي على الخصوص فقد كان شاعرها الاثير، وكان اهتمامها بالشعر القديم اكبر من اهتمامي ، ولذلك كان تاثيره في شعرها ابرز، ومع ذلك فقد بقينا انا وهي صديقتين ، فكانت تقرا لي قصائدها ، واقرا لها قصائدي ، حتى وفاتها عام 1953 وهي في الثانية والاربعين من العمر رحم الله رحمة واسعة))
من كل ما تقدم ، نجد حياة نازك لا تخلو من التشاؤم والخوف والكابة ، قلقة نفسيا ، تسبح في بحر من المشاكل والصراع النفسي ، وسط حياة خالية من النور ، ارتمت بأحضان الحبوب المهدئة ، وأصبحت لا تستطيع النوم بدونها ، ولكن سنرى في القسم الثاني نازك الانسانة الجديدة الهادئة ، والسعيدة ، وكيف تم هذا !! ستقرؤونه في القسم الثاني بعون الله.
ابن العراق الجريح : صلاح الدين سلطان
يتبع