ثنائية (أناشيد الجداول الأزلية) د. كوكب البدري& د. أسعد النجار

بغداد

لقد عاث في روابيك الظمأ
فأنت أنا

وكلانا رمل وشتلات زيتون ونخيل

رياح تسف الرمال

وتلوي ذراع الزيتون

وتعصف بسعف النخيل

جعلت الخمر دمعي

والتمر جرحي

فهل تشاركيني زادي

على صيوان الألم

وفي شرفات كحلتها صخور القمر

بغداد

لقد حط بواديك غراب شؤم

فانتهك بنعيقه هدوء ليلك البهي

فاغتسلي من ماء دجلة

ليطهر سطحك من أوثان الجراح

بغداد

مازلت أراك فنارا يرشد التائهين ويهدي الضالين

وقلبي ندى بين ذراعيك

وعيناي تسجدان على رمال دجلة عند الغروب

بغداد حملت اسمك فكان لي ضياء كطعم الشفاه

كسلسبيل يزيل صدأ الأغراب

بغداد يابغداد

ياسيدي
بغداد ، كلما فتشت عن إسمها
وجدتها قد احتشدت بذاكرة القدس
وبني الأحمر
وسقوط ألف سيف

وكلما بعثرتُ كتب التّاريخ ،
وخرائط الجرح المكابر كالوطن
وسير العشق ، ورسائل العشّاق
وجدت عمرها مرتقِبٌ على شفا رمح ٍ وريح

كلما قرأت لك ياسيدي
وجدتني مرددة :

مازلتَ ترسم مجدَها المأثورا
فيضوعُ في وطن الدّموع عبيرا

بغداد

ياحسناء المدن العربية

ياسيدة الأمصار

وآسرة العشاق

أيتها السامقة عبر الأزمان

سأربت علي كتفيك بوجدي

وأراقصك

وأغني لك الموال الحزين

بغداد

يؤلمني صراخك

ألمح في عينيك الذابلتين لظى يأسر قلبي

وصوت العشاق صداه صوب دجلة

وقلوبهم تحمل شهقة أنفاسك

غادرتك الطيور حين أقبلت الغربان

وحين رأت أول سكين تفتح جراحاتك

ودمك القاني ابتلغته رمالك من أعاصير الزمن الأولى

خب اليك من أيقونات التاريخ

لتسقي سنابل الزمن الآتي

وتتفتح في روابيك شقائق النعمان

بغداد

لن تخدعنا رؤى الساحرات

اللائي يبحثن عن عرش بلقيس في سفر الأسلاف

سنسبح لله نهارا ونصلي ليلا

ونسقيك سحب الدعاء

لتبقين سامقة

يابغداد

تأنّى وأنت تقصد ماضي الذّكريات على دجلة
تأنّى
فماعادت الرّصافة ولا الجسر
مرتعا لعيون المها
وماعاد للهوى من دليل
ولا للشّعر من سمّار ِ ليل
ولا للجرح من حقائب رحيل عن سماء الفقراء

تأنّى
لا تعد النخيل بظل من المجد
وأنت محاصر بالمناجل ووحل الهزيمة

تأنّى
لاتعد بغداد بتاج الياسمين
وألف إكليل شوك مزروع
في خاصرة سمائها الحزينة

رحماك أيها الزمن المهووس بالأحزان

أما من نهاية لهذا الكرب

متى أغتسل بماء دجلة العذب

يعصرني الألم وأنا أرى النخيل باكية عند الشواطيء

وأرى الطيور تزفر آهاتها تحت سحب الهموم

آه يادجلة الخير

كم تمنيت افتراش رمالك الذهبية

وأضطاد السمك في أماسيك الحالمة

ولكن أنى للآه أن تحيي الآمال في قلب لذعته نسائم الحروب

وصدى خطواتي يرعب البلابل

فأسقط مغشيا علي

فأين مني التأني

وروحي هرأتها أمطار موحشة

وتساقط ريشها

بغداد

متى تضيء قناديلك

قناديلي مضرّجة بعتمة صفقات الذين لانعلم من أين جاءوا
أطفأوا زيتها وأغطشوا فتيلها
وبالف جرح في عيوني قد استضاءوا

قناديلي التي كانت للفقراء حلما
وللشعراء مأوى
وللنّسّاك دربا من بخور
قد تقطّعت بها سبل الضّياء
وتحجّرت في لهيبها مكاتيب الغرام
وما من شرفة تأتي بأنباء الرّبيع
ولا من جسر تمر به قوافل الياسمين
فكيف ستعبر إلي جحافل النخيل ؟

بغداد

مالي أرى الأقدار تتمتع بشقائنا

ودمع القلب ينزف ساخنا

ودم المآقي يسفع بالحشاشة

بغداد

مازال نفح القرآن في نبرات مساجدك

وألواح التقى وصدى الانجيل وزبور داود

تنشد كلها في جداولك الرقراقة

فحلم الجميع بلقائك

ولكن أنى يتم اللقاء

وسماؤك تملؤها الغربان

وأرضك ملأى بالأشلاء

بغداد

عمري ضاع في هواك

وجرحك بحجم الكون

ومازلت أحلم باللقاء

تسألُ بغدادَ موعداً
ومواعيدها تختصر كل المدارات الحزينة
كل النّجوم المطفأة
وكل القيامات المبطئة.

تسألُ بغدادَ همسة
وصدى بريدها موزع
بين الليالي والخراب
بين السّهارى والضّباب
بين الأعاجيب التي
قد صَدَّقَتْ
ما جاء في كتب السّراب

تسأل بغداد موجة من عبير
ودجلة مرمية بين تلك الثقوب التي
مزقت نسيج الزّمان
وثوب الخصوبة والنّماء
وتلون موجها
بدمعة ِ الهزيمة

نعم أخيتي الغالية

أسأل بغداد موعدا

فهل يمكن أن تنسني تلك الجداول أو الطرقات

وهل لليلها البهي أن ينسى مجامر شرفتي

وبريق الكواكب مهفهفات فوق أسطحها

ويرن في أبراجها صدى البخور

لا وألف لا

أنى لها أن تنسني مرابع رسمناها معا صورا حطت على جدرانها أصداء أغان أنشدناها أيام الصبا

أنى لها أن تنسني مزاريب قديمة تغترف المطر وتنشجه الى تلك الدروب فتلبسها حلة ندية

فننشر ضحكاتنا ونظفر جدائل الشمس ونقلد القمر أوسمة الجمال

أخيتي

كنا نجري حيث انثى الريح تفتح صدرها لتحضننا

وبنيننا في تلكم الأشجار السامقة بيتا من نضار

شهد اغتلامات الصبا ولظى شقاواتها

نعم اخيتي

ان لي مواعيد مع بغداد

مع جداولها

مع نخيلها وأشجار زيتونها

فأرضها كالصقر يتبختر في السماء

سينقض على الغربان

وتصفو سماء بغداد

ويزول ماتعكر من جداولها

ويعود الفرح

ونعود اخيتي الى تلك الأحلام

وتعود بغداد أجمل

لكَ في بغداد ذكريات العاشق
ولي فيها ذكريات الياسمين
لك في بغداد عناوين ترتدي لونها الخاكي
ولي فيها عناوين الصّباح
لك في بغداد مواعيد مع الشّمس
ولي فيها مواعيد الظّلال هناك في موقف الباص
لك في بغداد أغان ٍوأناشيد ترنّمها الجداول منذ الأزل
ولي فيها
وردة ٌ تاقت لقصيدة ( الأتي الأخير )*



*الأتي الأخير قصيدة للشاعر إسماعيل حقي