((كم تبقى لنا ؟!))............. هو العنوان الكامل لديوان شعر ، صدر حديثاً عن دار بعل في دمشق ، للشاعر و المسرحي: مهتدي مصطفى غالب ..
كم تبقى لنا ؟؟..لنا و ليس لنا ما هو يجب أن يكون لنا و لجميعنا ، الأرض لنا و الفضاء لنا ، و أكثر مالنا فيها ...أحلامنا المعلقة على أعتاب الزمان ، و نعيش بهدي أحلامنا التي تتكسر كل يوم .. كبلورات القناديل عندما يخترقها فتيل الضوء ...يقول مهتدي :
(( أنت و أنا ضدان ..لا يلتقيان
و تقتليني كلما انتميت إليك))
اخترق الشاعر مهتدي الحدود و تخطى الأسوار و تكلم بتوتر انفعالي قوي صادق ، كيف لا ؟؟!! أليس الإنسان هو الوحيد بين الكائنات الذي يجب أن يتوتر ، و خاصة إذا كان شاعراً ، ليضيف من توتره و انفعالاته التلقائية الشعرية التي تبحث و تشهد و تقود و تحول و تكشف ، عندما يكون التوتر خلاصاً ، و خروجاً من المآزق الإنسانية ... فالجدار لا يتوتر إنما يتوتر من هم خلف الجدار يبحثون عن الهدوء و الخلاص من التوتر .
مهتدي غالب يكتب القصيدة النثرية ، و يبحث عن الإنعتاق حتى من الجملة أو الحرف ، لا يحب الأسر حتى و لو من سيمفونية حديثة أو من ربابة الملك الضليل ، و جاريته الحسناء ، يقول في مقاطع شعرية كثفتها خميرة الزمن بقلة الكلام و دلالة المعنى :
((لا طعم للحلم ... دون الرؤيا ))
مهتدي غالب يخاطب المرأة شاحناً عباراته بالحركة المتناسقة و المسكونة بالجمل الشعرية القصيرة ..فالمرأة في مجموعته هذه هي كلّ شيء ... و لا شيء فهي الأم و الدثار و الانتحار و الاندثار ...هي البلاد و الملاذ ..هي السجن و الصرخة ..هي الحرية و الخمر و السكين و الحمامة هي كل الأشياء التي تحيط به و يحيط بها و لا تتسع للقبلة ... إنها المرأة الحياة :
أعيش معها لحظة حبٍّ سرمدية ))
هذه المرأة الحياة تكون دائما في مكان و زمان الشاعر .. فهي الوطن و البلاد التي تسري في الدماء ، و هي سلمية التي تظهر إحساساً بالتوحد و التطابق بينه و بينها هموما من تاريخ و عواطف و جبالا من الواجبات و البكاء و الماء..
ما نام بعيداً عني ...و سيأتي ثانية
دمعة مزمنة في حلق التاريخ... تجمدت
تبرق باليأس و القهر و الشعر ))
هناك تناص حياتي و بيئي بين الشاعر مهتدي و قصيدة ((سلمية)) للشاعر محمد الماغوط ، و هذا ليس عيباً بل هو نتاج البيئة الجغرافية للشاعرين و القصيدتين ، و الكثير من الشعراء يتناصون بالصورة و المعنى و الشكل و المضمون .
يقول في اليأس و الألم و الإحباط الذي يلازم أكثر شعراء زماننا :
(( أفتتح العام بالحنين للابتسام
أم يشتد الركام حول قلبي فأتصدع ))
يبدو الشاعر محباً و عاشقاً وفياً لقصيدة النثر و عارفاً لمساحاتها التعبيرية الشاسعة ،فينسجها بإتقان المتمكن مما يكتب و العارف لما يكتب ، فيبحر في القصيدة بشراع خلفيته الثقافية التي تبعث على التأمل و تحريك الروح و تكسير حواجز العلاقات النمطية بين الكلمات ، إضافة إلى تمثله للشعر بشكله الإنساني ، و الذي يعانق فيه السرعة العصرية في فن القول و التوصيل إلى المتلقي عن هموم الواقع و هواجسه ، من خلال هموم الشاعر بصلب أحاسيسه:
و أنت الرائحة خلف نواسيتك
تحاول القصيدة عند مهتدي أن ترسم مشهداً شعرياً حافلاً بالإيحاءات و الحساسية الدقيقة في اختيار الكلمات و الرموز ، و خلق حالة نفسية تتعانق مع هذا الانفعال المركز و بتوتر الأعماق تأتي أهمية القصيدة عند الشاعر ، لأن رموزه من صنع رؤيته وحده ، و همومه تتعانق مع المحيط الذي يعيش فيه القلب طاغية لا ينام ) (القلب وردة لا تنام) (قصصت رقبة الكلمات) ( قمر نلبسه كالسروال) ... صور جميلة و مبدعة من خيال الشاعر و حياته اليومية تستطيع أن تكتشف و تكشف كنه الحياة ... تبدو الصورة لدى الشاعر رحيمة و قاسية بنفس الوقت ( قلب طاغية و قلب وردة) تتماثل مع صور الزمان الذي نحيا به ، و تثير مشاعرك إشارات التعجب و الاستفهام التي وظفها في آخر كل مقطع ، ليبقى باحثاً عن الحقيقة ، و ليدل على إعادة الوعي بما هو مبهم و غامض ، و ليبقي عند المتلقي السؤال من أجل تعميق الرؤيا و الانفتاح على العالم كل يوم بجرأة و حرية .
إن " قصيدة النثر " تتخلى عن موسيقية الوزن والإيقاع ، لصالح بناء جماليات جديدة ، وأساس هذه الجماليات : تجنب الاستطرادات والإيضاحات والشروح ، وهي ما نجده في الأشكال النثرية الأخرى ، وتبقي على قوة اللفظ وإشراقه ، فقصيدة النثر : تؤلف عناصرها من الواقع المادي ( المنظور ) حسب الرؤية الفكرية للشاعر ، وتكون هناك علاقات جديدة بين ألفاظ النص وتراكيبه ، هذه العلاقات مبنية على وحدة النص وحدة واحدة ، ذات جماليات مبتكرة تعتمد على رؤية الشاعر للواقع المادي الخارجي بمنظور جديد ، تنعكس هذه الرؤية على علاقات الألفاظ ، وبنية التراكيب ، وقوة التخيل، وجدة الرمز .
وهذا ما يقود في النهاية إلى إثارة الصدمة الشعرية – كما تصفها سوزان برنار- ، هذه الصدمة ناتجة عن التلقي للنص الشعري ، واللذة في هذا التلقي الناتج عن التأمل في بنية النص ، وروعة جمالياته ، ورؤيته الجديدة ... فقصيدة النثر لها وجودها و عالمها ، و لها حريتها في الشكل و المضمون ، و كما هي الحياة صعبة و معقدة ، يبدو أن الشاعر في هذا الفضاء لا يرسو على بر الأمان إلا إذا خاطب من أحب كي توقظه من سكرات الهموم و الأوجاع و من رتابة الحياة ، و بالحب يختصر كل اللحظات الإنسانية و يوظف الحياة لنرجسيته المتأصلة فيه كإنسان :
(( ماذا نسمي انطفاء القلب
و انحسار المدى على الأفق المنظور
و ليس في هذا الجسد مفاوز تأخذني ...إلا للقلق
و المساحات المتراكمة على جلدي كالهلام ))
مهتدي غالب و (كم تبقى لنا ؟!) يحاول تفتيت أفكاره و أفكارنا و تحريرها من ذاتيتها ليجوقلها في مشهد صوري كما يريده و يحلو له بحرية مشروطة بالإبداع و الدهشة و التساؤل و البحث عن لغة ليست كاللغات بل هي لغته وحده التي تتحدى الموت بالعيش الثقيل الثقيل ..بدأ شعره بالحنين للابتسام و أنهاه باحتراقه:
أيُّ مصير خطه الشاعر لإنسانه ؟! هل هذا ما تبقى لنا من إنساننا ؟! أم تبقى لنا.. خلف هذا الاحتراق بعضٌ من مساحة للحياة..؟!
**** **** ****
من أعمال الشاعر:
قصيدة هواجس الملك الضليل –عام 1992 - دار الغدير - سلمية
كلمات لك – شعر عام 2007- دار الغدير - سلمية
نهايات إنسان – قصص قصيرة عام 1997 - دار الغدير - سلمية
مملكة الأطفال – مسرحية للأطفال 2007- دار الغدير – سلمية
دراسات نقدية لأعمال بعض الشعراء