الأم بحر عواطف لا ينضب، ومرضعة أجيال لا تتعب، وهي نصف المجتمع وأسُّه وأساسه، ورمز التفاني، ومثال التضحية، ومكمن العاطفة والرحمة. هي شمعة لينة الأعطاف، تذوي لتنير درب نسلها.
تكدُّ وتجدُّ وتعمل، ولا تغضب، ولا تشكو السآمة ولا التعب. وحاشا لها أن تطلب أجراً، أو مكافأة.
إنما الأم خزان حنان، ورقة تعصر شباب عمرها؛ لتملأ كأس نسلها بمعاني الحنان، والدفء، والرقة، والراحة.
هي نجم لا ينطفئ، ينير المسالك للجيل وإن احترق.
تحمل جنينها في بطنها تسعة أشهر، وتكابد في ذلك آلاماً لا تنقضي، فلا تستريح حتى يرى وليدها نور الحياة، فتحترق شوقاً قبل رؤيته، وتهش وتبش، وتطير فرحاً إذا رأته، ولو استعرت لها مشاعر أهل الدنيا لما استطاعت أن تعبر عن أحاسيسها ساعة الوضع.
وهي بعد ذلك ترضعه من لبنها، وتسهر على راحته، ولا ينام إلا على صوتها وتمتمتها الجميلة.. لا يغمض لها جفن، ولا تعرف للنوم سبيلاً إن سمعت أنينه. فإذا بكى تقطع قلبها لشدة الحنان والرحمة، وتملكها الأرق.. عله يشكو مرضاً... عله يعاني ألماً... عله... عله... وتدوم على هذه الحال....
ويظل فؤادها فارغاً حتى تراه يدب دبيباً؛ فتتمنى حينها لو يقرضها أهل الأرض جميعاً عواطفهم لتعبر عن مدى بهجتها وسرورها بولدها يمشي.
وتظل كذلك حتى يغدو فطيماً، وإذ ذاك ترضعه من أخلاقها، ولا تفرق بينه وبين عضو من أعضائها، فهو قلبها وفؤادها وعينها التي لا ترى إلا بها، وأذنها التي لا تسمع إلا بها، وهو دمها الذي يسري في عروقها.
وحينها تعلق عليه آمالها، وتحصر فيه حياتها وأحلامها وآمالها، بل لا تصفو ولا تحلو إلا به أيامها، ولسان حالها يقول:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم
لا متنعت عيني من الغمض
بعد كل ما سبق أفلا يكون أحق الناس بصحبة الرجل أمه، ثم أمه، ثم أمه.