الإهداء:
إلى التي كان لها الفضل في إتخاذ قرار الخوض في غمار هذا التعب اللذيذ
إلى حبيبتي
سعد
كم هو غريب الإنسان؟! نقابل شخصا لا نعرفه فنكرهه، وآخر نحبه فــــورا من دون أن يكون هناك سبب منطقي، أمر وارد، وكذلك هي المدن، ندخل مدينة ما، فنكرهها على الفور،وأخرى لا تترك في نفسنا أثرا، وثالثة ما إن نطأها حتى نعشقها!!!. وهذا هو ما حدث لــي عندما رأيتك في المرة الأولى أيتها المدينة العزيزة، حين وصلت إليك لكي أبدأ دراستي الجامعية الأولية، فقد أحببتك كثيرا، وهاأنذا أعود إليك بعد مضي كل تلك السنين على إنهاء دراستي النهائية في جامعتك الكبرى و ما تزال جذوة عشقي لك متقدة في أعماقي، وما أزال أشعر نحوك بما لم أشعر به نحو المدينة التي ولدت فيها هناك بعيدا إلى الغرب من الدولة!. إيه يا قدس لقد رجعت إليك بعـــد طول فراق فهل ستهبيني دفقات الفرح التي تعودتِ أن تهبيني إياها قبل أكثر من عشر سنين؟!. لا بأس فأنا سأعرف الجواب بكل تأكيد لأني سأمكث في أحضانك أسابيع ما دامت لجنة الإعـداد لاحتفالات الألفية الرابعة مستمرة بعملها، ومن يدري؟ لربما تصبح هذه الأسابيع أشهر إذا ما رُشِحتَ إلى لجنة التشريفات التي ستستقبل آلاف الشخصيات العالمية المهمة التي ستأتي إلى عاصمة الدنيا، القدس، للمشاركة في هذه الاحتفالات؟ فإلى هذا الأمر كان مدير اللجنة قد ألمح، ولم لا؟ فأنا أستاذ تأريخ ولاختصاصي علاقة وثيقة بالموضوع، ولكن مالي ولهذا الآن؟! فحسبي أن يكون عندي مورد مالي إضافي يجعل من أيامي هنا حافلة بكل تأكيد، فأنا يا قدس لم أتزوج بعد وبي نهم إلى مسراتك وملذات تل الحبيب، تل الحبيب!!! يا لقريحة اليهود الجهنمية! من أين أتوا بهذا الاسم الذي لا يخطر بالبال لمدينة الملذات التي أقاموها على ساحل البحر قرب يافا؟! أين الحب مما يحدث هناك؟! إلا إذا كان المقصود هو حبهم للمال؟. ولكن الحق يجب أن يقال، فهم يستحقون ما يجنونه من أموال بسبب ما يبذلونه من جهود لتهيئة كل ما يخلب لب الرجال ويسلبهم عقولهم وأموالهم! والنساء!!! من أين يأتون بهن دائما رغم أنهم لا يسمحون لنسائهم بالعمل هناك!!!، أنا مشتاق إليك يا تل الحبيب، ولكني مشتاق أكثر إلى القدس الآن، فدعني اشبع نهمي إليها أولا وبعدها لن يبعدني عنك إلا الدقائق المعدودات التي سأقضيها في القطار الطائر إليك يا تل الفسق اللذيذ.
إيه يا قدس، يا مدينة الفرح العارم، من أين أبدأ طقوس بثك الأشواق التي تملكتني طوال سنين الفراق؟ أمن قلبك المقدس، حيث التقى والورع داخل حرمك الشريف، وحيث الجمال في منطقة باب يافا؟ أم من الخليل ضاحيتك الجنوبية الكبرى؟ من رام الله في الشمال؟ أم من سواحل البحر في الشرق أو ضاحية عبد العليم في الغرب؟ من أزور أولا؟ هضابك الحلوة؟ أم وديانك الخلابة؟ أقسم لك بأني سأزور كل مناطقك التي حرمت منها طويلا فانتظرني يا وادي مريم وأنت يا وادي ربابة، سأزور جبل الزيتون وأذهب إلى بئر أيوب، سأفطر يوما في بيت لحم وأتغذى في حبرون، أنا مشتاق يا قدس حتى إلى الحزن الكامن في حواريك القديمة، سأستشفه في الآصال! ليت شعري هذا الحزن من أين يأتي وأنت المدينة التي دانت لها كل أسباب السعادة؟! ترى أي قدر جعل هذه المدينة عاصمة هذه الدولة التي سادت العالم فأصبحت هي عاصمته؟! أي عدل يمتلكه هذا القدر وأي إنصاف؟ والله لا يليق بك يا قدس أقل من هذا، ومحظوظ من سكنك وشقي من لم يزرك. ولكن!!! ما لهؤلاء الذين أراهم أمامي الآن؟! مالهم يكادون يركضون في سيرهم متجهمين وقد كبت أعينهم وكأن أحاسيسهم قد تبلدت؟! مالهم يسيرون كالآلات مهمومين ولا تستطيع أن تميز وجوههم السمر التي كانت مليئة بمظاهر الصحة عن وجوه الأجانب الكالحة الآن؟! أهؤلاء هم من بقيت أحسدهم طوال الأعوام العشرة التي قضيتها أستاذا في جامعة تلك المدينة المستظلة بظلال جبال الأطلس والنسيان؟! كنت أتخيلهم مسرورين وفرحين طوال الوقت بسبب الانطباعات التي ترسخت في داخلي من أيام الدراسة! ولكنها لم تكن مجرد انطباعات خاطئة فقد كانوا كذلك بالفعل، فما الذي حدث الآن؟! وما الذي طرأ؟ ما لهذا الرجل يسير محني الظهر وكأنه يحمل على كتفه كل هموم الدنيا، وما لذاك تدور عيناه في محجريها بسرعة وكأنه خائف من أمر جلل لا يعرف متى سيحدث؟! وهذا الكهل الأشعث الذي يبدو كلطخة سوداء في لوحة بهيجة الألوان، ما له يسير تائها كالأبله؟ وما هذه الرزمة التي يضمها إلى صدره؟ ما له؟ … ماذا؟! رباه! أيمكن أن يكون هو؟!!! مستحيل! ولكنه هو، لا يمكن أن أخطئ في تمييزه وهو أستاذي الكبير الذي أشرف علي خلال دراستي النهائية في الجامعة! ولكن! ما الذي حدث له؟! وما هذه الحال؟! لقد دنا مني ويبدو أنه لم يعرفني!، لأعترضن طريقه وأكلمه،
ـ أستاذ واثق، كيف حالك؟
آه لقد ابتسم، أو على الأقل شبح ابتسامة، ولكنها كافية لأتأكد أنه هو. لقد توقف حائرا!!! ولكنه لا ينبس ببنت شفه!
ـ ألم تتذكرني يا أستاذي العزيز؟ أنا شهيد، لقد كنت أحد طلابك الذين أشرفت عليهم في الجامعة قبل عشرة أعوام!
ـ هه. كيف هو حالك؟
وأخيرا نطق، الحمد لله، إذا، هذه هي فرصتي لكي أجره إلى المزيد من الأحاديث عليّ أعرف منه ما حل به؟!
ـ أنا ذاهب لتناول الطعام في مطعم قريب، فهلاّ تأتي معي؟ أرجوك يا أستاذ.
آه هاهو يمشي معي كطفل مطيع! رباه ما هذا الوجه الشاحب؟ وما هذه النظرة الزائغة؟! أين هذا الإنسان المتهاوي من ذلك الرجل القوي الشخصية الواثق من نفسه الذي كانه؟! أين ذلك الرجل الرياضي القوام من هذا الشبح النحيل؟!.
ـ هذا هو المطعم، تفضل يا أستاذ.
تلك مائدة خالية لأقوده إليها. وهاهي قائمة الطعام ظاهرة على الشاشة، لنر ما يريد تناوله؟.
ـ ماذا ستطلب يا أستاذ؟
ـ شاي.
ـ ولكن!
ـ شاي.
شاي، شاي! ما له يردد هذه الكلمة كالببغاء؟! لأطلبن له شايا، ولكن! تبا، هذا يعني أني لن أستطيع أن أصيب شيئا من طعام رغم جوعي لأنه لن يكون أمرا لائقا أن أطلب الطعام لنفسي فقط!!! ولكن لا بأس لأشربن الشاي وأستمع إلى ما يمكن أن يقوله، فالمهم هو أن أعرف ما الذي جرى له!.
ـ عذرا يا أستاذ، ولكن ما الذي حدث لك؟.
ـ لا أدري.
لا أدري!!! الآن بدأ يخيفني حقا! فهو لا يمكن أن يكون طبيعيا! وما هذه الأوراق التي وضعها على الطاولة بعدما كان يضمها إلى صدره كطفل عزيز؟! ترى هل كنت في زيارة إلى المتحف يا صديقي؟! فأنا لم أر ورقة منذ زمن طويل جدا! أي سر تنوء بحمله يا أستاذي العزيز؟ وكيف سأستطيع أن أجعلك تبوح به لي؟! هيا تكلم وأفصح عما في داخلك!.
ـ تكلم يا أستاذ، قل لي، ما الذي جرى؟.
يبدو وكأنه لم يسمعني هذه المرة، إنه يحدق في فراغ وقد خلا وجهه من أي تعبير!!! ما الذي يدور في داخلك؟ وأي قدر سحقك يا أيها المسكين؟ أمريض أنت، أم فقدت لتوك حبيبا؟! رباه! كيف سأجعله يتكلم وهو تائه هكذا في عالم آخر؟! ولكن! ما هذا؟!!!
ـ أستاذ، إلى أين أنت ذاهب؟! فالشاي،
ولكن فليذهب الشاي إلى جحيم، ما له حمل أوراقه ومضى هكذا فجأة من دون سابق إنذار؟! هل ألحق به، أم أتركه لشأنه؟ ماذا؟ أتركه لشأنه!!! بل سأ… لقد توقف في مكانه! و ها هو يستدير ببطْ نحوي!!! حمدا لله لقد عاد أدراجه! والله لأجعلنه يتكلم اليوم حتى إذا أمضيت نهاري كله معه، ولكن ماذا عن الدوام المسائي في اللجنة؟!. لا بأس، سأختلق عذرا لتغيبي عنه فيما بعد، فالمهم الآن هو، ولكن!!! ما هذا الذي يفعله الآن؟ لقد رمى الأوراق على المائدة أمامي وقفل راجعا!!!
ـ أستاذ!
توقف واستدار نحوي، سيقول شيئا!
ـ الثعلب.
ـ الثعلب؟!
ولكن عن أي ثعلب يتكلم؟! ولماذا قال الكلمة وصمت؟! لماذا يتصرف هكذا؟! آه، ما الذي سيقوله هذه المرة؟!
ـ إنه موجود، خذ حذرك منه.
ـ نعم. نعم، سأفعل، ولكن، إلى أين أنت ذاهب؟
اللعنة، لم يجبني بل استدار وذهب، ما هذا النشاط الذي دب في جسده فجأة؟! إنه يكاد يركض في مشيته! لألحقن به قبل أن يصيبه شيء. لقد خرج من الباب وها هو يتجه يسارا، لا بأس، سأستطيع اللحاق به بسهولة، ولكن! الأوراق، الأوراق، لقد بقيت على المائدة ويجب أن أرجع لآخذها قبل أن تضيع، ولكن! ماذا عنه؟! فهو سيبتعد!!!. هيا أسرع يا مأفون تناولها والحق به ستستطيع إدراكه إن أسرعت قليلا. لقد مضى من هنا، هيا، هيا. لا أثر له حتى الآن! يجب أن أسرع أكثر إذا ما أردت أن أدركه، ولكن! كل هؤلاء الناس! من أين أتوا؟ وما هذا الزحام؟ آه لقد نسيت! إنها فترة الغداء وقد غادر معظم الموظفين مكاتبهم، ولكن لعنهم الله، أيجب أن يتغذوا؟. أين هو؟ لم تقع عيني عليه بعد، يا لله! ما هذه الفتاة الحلوة؟ يا لجمال شعرها الأشقر! لابد أنها أوروعربية، يا لهوان الرجولة! أتريدين إغرائي بنظراتك هذه؟ أنا لا أحتاج إلى إغراء، إن هي إلا ابتسامة واحدة وستريني في أحضانك، هيا امنحيني إياها، هيا، ولكن! ما هذا الذي أفعله؟ لقد نسيت الأستاذ! الأستاذ، عذرا يا حلوتي ما كنت لأخيب أملك لولا ما أنا فيه، ثم هل كان يجب أن لا تظهري إلا في هذه الظروف؟. ولكن أين هو الأستاذ؟! أنا أركض منذ أكثر من عشر دقائق! فأين هو؟ هل تجاوزته من دون أن أنتبه؟ أنا أشك في ذلك، فهل دخل هو في شارع فرعي؟، وهل كان هناك مثل هذا الشارع؟! رباه ما هذه الحيرة؟ وما الذي سأفعله الآن؟ يجب أن أقرر، هل أمضي قدما، أم أرجع أدراجي؟ هيا قرر، ما الذي ستفعله؟ وما الذي أفعله؟! لأرجع وأتفحص وجوه المارة عليّ ألقاه!. إلى أين ذهبت يا مسكين؟ ولم أنت خائف من إخباري بما رزئت به؟ أنا لا أبغي سوى مساعدتك، ولكن أين أنت ألان؟. وتلك الفتاة، أين هي؟ لقد اختفت! ترى، هل كانت فرصة لمغامرة لذيذة؟ ولكن، ما هذا التساؤل؟ فهي قد اختفت وأنا لم، آخ، ما لهذا الأحمق يمشي كالأعمى وهو يصطدم بالناس بعنف؟! لقد آلم كتفي ولم يحمل نفسه مشقة الاعتذار! إنه يتصرف وكأنه أحد عملاء ( جاد )! ولكن ليلعنه الله فهذا لا يعطيه حق الاصطدام بالناس هكـذا وإيذاءهم!!!، بل هذا والله يعطيه الحق وأكثر، فمن الذي يجرؤ على الدخول في مشاكل مع هؤلاء الشياطين؟!. ولكن!!! ها هو باب المطعم مرة أخرى، فأين الأستاذ إذا؟! لقد أضعت أثره! يا للحيرة! إلى أين ذهب؟ وما الذي سأفعله الآن؟! لقد اختفى وبقيت أوراقه معي!، والآن كيف التصرف يا ذكي؟. تبا، لأرجع إلى مقر اللجنة الآن وبعدها يكون لكل حادث حديث.
***************************
وأخيرا انتهى الدوام المسائي، رباه! لقد تصورت أنه لن ينتهي وأنا أعاني من هذا الفضول الذي امتلكني تجاه هذه الأوراق النائمة الآن في درج مكتبي!!! لا أعرف لماذا أتوقع أن مفتاح لغز الأستاذ كامن فيها! فهو لم يقل عنها شيئا، بل ألقاها ومضى!!! يا هذه الأوراق يجب أن تساعديني فأنا تحملت بسببك حرجا كبيرا من زملائي اليوم، فقد تندروا علي عندما رأوك في يدي، يا لمسرور اللعين، لقد غرق في الضحك بعدما قال أني أحمل هذه الأوراق لكي أبدو كأستاذ تأريخ وجعل الآخرين يضحكون طويلا! ولكن لا بأس فقد كانت دعابته في النهاية موفقة، ولكني لم أستطع أن أقول لهم شيئا بعدما رأوا أنها مكتوبة باللغة العربية القديمة التي لا يفقهون منها شيئا، لأحملها الآن و أعود من فوري إلى غرفتي في الفندق وأحاول أن أتبين أمرها عسى أن افقه أنا، شيئا منها!
****************************
الآن وبعد أن شبعت آن الأوان لكي أحاول فكّ رموز هذه الأوراق. عجبا لك يا أستاذ واثق!!! ما حاجتك إلى هذه الأوراق القديمة؟! ولكن لأقرأ عسى أن أفهم شيئا.
كلا، لن أستطيع الفهم!!!. يجب أن أستعين بقناة الترجمة في شبكة المعلومات المرئية، ولكن! هذه الأوراق! يبدو أن الأستاذ كتبها بنفسه باللغة القديمة!!! لم أكن أعرف أنه ضليع بها إلى هذه الدرجة!!! ولكن، لماذا فعل ذلك؟! وما الذي كان يبغيه؟! وهذه الأوراق الصفراء التي تكاد تبلى من قدمها! من أين أتى بها؟ ومن هو كاتبها؟! أواه، ما هذه الأسرار التي أحاطت بي طوال هذا اليوم؟ يجب أن أبدأ بالترجمة فورا، سأبدأ بأوراق الأستاذ ولنر ما سيكون؟!.
ـ1ـ
وأخيرا سأحقق أمنيتي، فلطالما تمنيت أن أكتب بقلم كما كان يفعل الأقدمون، وهاأنذا أفعل. لقد تملكتني هذه الرغبة منذ زمن بعيد، أو بالتحديد منذ أن أعطاني والدي ( رحمه الله ) رزمة الأوراق الوحيدة التي كان يمتلكها ويحتفظ بها وكأنها كنز ثمين رغم أن الكثير من الناس لا يعرفون بوجود شيء اسمه ورقة!. لقد كانت لوالدي هو أيضا أمنية ولكنه لم يستطع تحقيقها، فقد كان يريد أن يقرض الشعر وهو الأمر الذي اكتشف في النهاية انه قد غدا مستحيلا في ظل الثقافة الأستيرية التي كتمت أنفاس البشر وجردتهم من مواهبهم الإنسانية ، ولان اللغة العربية فقدت كل المقومات التي كانت تجعلها لغة شعرية أيضا. أما أنا فسوف أحقق أمنيتي رغم انف الأستيرية لأني ما زلت اعشق المهارات اليدوية والفكرية التي كاد ينساها الناس في ظل الظروف التي وصلنا إليها.
لقد عانيت كثيرا في البحث عن قلم يمكن أن اكتب به هذه الأوراق ، ولم أعثر عليه إلا بالمصادفة، فقد وجدته قابعا في أعماق صندوق مهمل في أحد أركان حانوت لبيع الأشياء الأثرية التي أهوى اقتناءها. كان صندوقا قديما جدا، جدا ولكنه مهمل لفجاجة صنعه ، اشتريته بثمن بخس فلم أجد فيه غير القلم وأوراق صفر قديمة كثيرة ومتناثرة كتبها شخص ما منذ زمن سحيق . كانت غير مرتبة ولكنها مرقمة وأستطيع أن أعيد ترتيبها إذا ما رغبت يوما في قراءتها ، أما الآن فأنا لا أرغب إلا في الكتابة لتحقيق حلمي القديم بهذا القلم الثمين والحبر الذي ابتكرته بنفسي لأني لم ابلغ من الجنون درجة تجعلني أحاول أن ابحث عن حبر في الأسواق لأنه شيء منقرض منذ قرون.
وهاأنذا اكتب هذه الأوراق لكي تكون تاريخا مقروءا ذات يوم ، فأنا اكتب للمستقبل لأني أستاذ تاريخ ويسيرني إحساسي العميق به. أنا لم اطلع أحدا على أوراقي هذه، وحتى لو فعلت ذلك فان أحدا ممن حولي لن يفهم ما كتبت رغم إنهم جميعا عرب، أما عن المستقبل فانه لن يبخل بكل تأكيد بعالم واحد أو حتى عدة علماء يستطيعون فك رموز اللغات القديمة وعندها تكون لأوراقي هذه نكهة التاريخ الحقيقية بعيدا عن لعنة التقدم التي أصابت كل جوانب حياتنا الحاضرة فسهلتها ولكنها سرقت منا كل مواهبنا وكفاءاتنا التي كانت تميزنا عــن بقية المخلوقات، ولا اقصد هنا غير الأستيرية اللعينة التي عمت عالمنا وآمل أن لا تكون موجودة عندما يحين موعد قراءة أوراقي هذه بعد زمن طويل.
واختصارا أقول إن الأستيرية ظهرت مصطلحا قبل خمسة عقود أو ستــــــة، و أطلق على العصر الذي نحن فيه لانتشار مفاهيم وظواهر جديدة مع اندماج الذكاء البشري مع الذكاء الصناعي، وتكوين مسخ لا اعرف كيف يمجده العلماء وتهلل له الجماهير المسحورة به؟! ويعود اصل هذه الكلمة إلى ما قبل أكثر من قرن حين توصل فريق علمي في أحد جامعاتنا إلى اختراع أول حاسوب يفكر ويستنتج من دون تدخل البشر، ومزود فضلا عن ذلك بذاكرة هائلة السعة. لقد أطلق على هذا الجهاز اسم ( أستير) تيمنا باسم أم رئيس الفريق العلمي الذي اخترعه. لم يكن ذلك الجهاز البدائي يمتلك من الذكاء إلا بقدر ما يمتلكه طفل في الخامسة أو السادسة من عمره، ولكنه كان بداية ناجحة لسلسلة من التطويرات التي ظهرت في الأجيال اللاحقة منه، حتى أخذت تلك الأجهزة تنافس المراهقين الآن في ذكائها، والذي يخيفني هنا هو تلك الأجيال التي ستظهر حتما وهي تحمل ذكاء رجال محنكين! أنا لا اعرف ما الذي يمكن أن تفعله بحياة البشر! وماذا لو فوجئ العالم بمؤامرة أستيرية تقوم بها الآلات نفسها هذه المرة؟! ترى ما الذي سيقوله حين ذاك عن المؤامرة اليهودية؟! آه لو تعرفون مدى الخوف الذي ينتابني عندما أقف أمام أحد تلك الأجهزة الشيطانية التي أصبحت الآن تناهزني في الحجم بعد أن كان أستير بحجم بناية كاملة من طابق واحد. لا ادري ربما يكون رعبي غير مبرر؟ ولكنه موجود! فقد أطلق أستير العنان للعلم لكي يجمح ويصل إلى آفاق لم يكن يحلم بها إنسان، ولكنه كان صاعقة على فكر الإنسان وروحه لأنهما لم يعودا يجاريان العلم فباتت الموازنة بينهما مختلة! ولا اعرف لماذا يعني هذا بالنسبة لي الخطر الأكيد؟ المهم الآن هو أن الثقافة والفكر والفن أصبحت في هذه الحقبة الأستيرية مؤللة لا يحتاج فيها المفكر والمثقف والفنان إلا إلى طرح ما يدور في باله من أسئلة على جهاز حتى ينال كل الأجوبة التي كانت في السابق ترهق الإنسان وتعذبه قبل أن تسلمه قيادها، ولكنها على الأقل كانت تجعله يمتلك مصيره الذي أصبح الآن غامضا.
**************************
أنا أستاذ تاريخ في جامعة ابن رشد الكبرى في القدس عاصمة دولتنا العربية العظمى، وأن تكون أستاذا جامعيا في مثل هذه الدولة لهو شيء رائع، لأنه يعني أول ما يعني موردا ماديا ثابتا وضخما، ويكفي للدلالة على ضخامة هذا المبلغ أن أقول أني اصرف شخصيا في الشهر الواحد ما تصرفه خمس أسر أو أكثر في السنة في معظم دول أمريكا الشمالية الفقيرة، و أنا إذ أقول هذا لا أريد أن أتفاخر ولكني أريد أن اذكر حقيقة مهمة فقط ، إن التخلص من الهاجس المعيشي يعني بالتأكيد الاستقرار والأمن، يعني حياة هانئة وسعيدة بعيدة عن مخاوف الجوع والتشرد، وأخيرا يعني حياة أسرية مستقرة، لان زوجتك إذا ما كانت سعيدة وراضية وأطفالك أصحاء، يتكفل بهم الضمان الصحي وتقوم الخدمات الطبية الراقية بضمان صحتهم ومن ثم مستقبلهم، فانك ستشعر بالاستقرار والسعادة بكل تأكيد.
وقبل أن أسترسل أكثر سأتحدث قليلا عن والديّ لكي يعرفني قارئ أوراقي هذه جيدا، أما بعد ذلك فأني سوف أبحر في خِضِمِّهَا مسلما نفسي لرياح الفكر وتيارات الأهواء، سأدوّن كل ما يخطر ببالي على الفور لأني لم أتعود فعل الكتابة وأخاف أن أضيع الأفكار إن ترددت في كتابتها.
كان والدي الابن الوحيد لتاجر غني وطبيبة من الإقليم الشرقي، اظهر تفوقا واضحا في اللغات منذ طفولته المبكرة الأمر الذي دفع معلميه إلى تشجيعه على التقدم في مجال اللغات، وكان هذا هو ما فعله حيث تخرج من الجامعة الأولية بدرجة امتياز في اللغة العربية الحديثة، ولأنه كان قد اختار هذه اللغة انصياعا منه لنزوة كانت قد تملكته في حينها سرعان ما زالت عندما تأكد أن هذه اللغة أتفه من أن تدرس، فقد آثر أن يتخصص باللغة العربية القديمة التي كانت معشوقته منذ الصغر لأنه كان مولعا بالشعر العربي القديم الذي كانت كتبه النادرة جدا (شأنها في ذلك شأن كل الكتب الأخرى ) لا تتاح إلا للأثرياء من محبيها، وكانت درجته النهائية في الجامعة الكبرى (جيد جدا) وهو ما لم يفعله طالب منذ ثلاثة قرون خلت في كلية اللغة العربية.
أصبح والدي بعد تخرجه أستاذا في الجامعة، ولكنه كان ملولا، لا يستطيع أن يبقى في مكان واحد مدة طويلة، ولذلك لم يكن يمضي في الجامعة الواحدة أكثر من عام أو عامين أحيانا حتى يشد الرحال إلى جامعة أخرى في محافظة أخرى، أو حتى في إقليم آخر، وكان خلال ذلك التنقل يمارس هوايته المفضلة في البحث عن الكتب القديمة وشرائها إن أمكن، ولكنها كانت تزداد ندرة وغلاء على مر السنين. وفي جامعة كبرى في الإقليم الغربي التقى بأستاذة طبيعيات جميلة ألهبت مشاعره وسلبت لبه، وعندما طلبها للزواج ووافقت كان من حسن حظه أن الاختبارات الطبية الإجبارية التي أجرياها أثبتت توافق أنسجتهما، الأمر الذي مهد لزواجهما بسرعة، فودع بذلك حياة التنقل لينتهي به المطاف أخيرا في القدس حسب رغبة زوجته الجميلة، وكنت أنا الطفل الأول الذي ولد لهما وكذلك كنت الأخير .
**************************
أنا عندما استذكر طفولتي أدرك مدى خطأ المدعي بأنه صنع نفسه بجهده وإرادته! فقد رُبيتُ وفق الطراز المعتاد في بلد يتبوأ مركز الصدارة بين دول العالم من ناحية الاهتمام بالطفولة، بل أن دولتنا هي الدولة الوحيدة التي تنحني إجلالا للطفولة، وتجند كل طاقاتها لخدمة الأطفال ورعايتهم وتربيتهم التربية التي تصنع منهم رجالا يصنعون التاريخ ويقودون العالم. إن الأشخاص الذين يعملون في الحضانات ورياض الأطفال هم من أعظم المربين الذين يمكن أن يُعهَد بطفل إليهم، إذ يتم اختيارهم من المتميزين من خريجي الجامعات الكبرى ليخضعوا إلى دورات تأهيلية مكثفة تستمر لسنوات، و لأنهم يعانون كثيرا حتى يستحقوا أن يطلق عليهم لقب مربي فان مدخولاتهم هي الأعلى في المجتمع. أما الأطباء ( وخاصة أطباء الصحة النفسية) الذين يعملون في حضانات الأطفال ورياضهم فإنهم لا ينالون هذا المركز إلا بعد سنين طويلة يقضونها في مختلف المشافي النموذجية المنتشرة في أنحاء الدولة، وعندما يبرهن أحدهم على مقدرة متميزة ونباهة ملحوظة في عمله ينقله المسؤولون إلى حضانة أو روضة تكريما له لتميزه.
إن السن القانونية لقبول الطفل في الحضانة هي الثالثة من العمر، أما قبلها فان الأم هي التي تكون مسؤولة عن تربية أطفالها، ولا بديل عنها أبدا من وجهة نظر المجتمع و القانون إلا في حالات نادرة جدا. وإذا كانت الأم موظفة فأنها تفرغ لتربية طفلها مع احتفاظها برواتبها ومخصصاتها كاملة حتى يبلغ السن القانونية لدخول الحضانة. ولذلك نَمَوتُ وأنا صحيح الجسم سليم العقل وفصيح اللسان لأدخل المدرسة الابتدائية. ولا ادري إن كان حب الكتب الذي ورثته عن والدي مع حب اللغة العربية القديمة التي لم أجدها إلا في الكتب، لأنها كانت الوحيدة التي تضمها في متونها، وما يعني كل ذلك من حس تاريخي، هو الذي نمّى حبي للتاريخ! أم هي القصص والروايات عن العصور الغابرة التي كان أبي يلهب بها خيالي! أم هو الحنين إلى الماضي الذي كنت اشعر به عندما كان يحدثني عن حياته الهانئة والسعيدة في كنف والديه!. المهم أني كنت أحب التاريخ كثيرا، ولفت ذلك أنظار معلمي المدرسة، وكان قرار اللجنة التربوية في نهاية الدراسة الابتدائية التوصية بإعدادي لدراسة التاريخ إذا ما استمر اهتمامي به خلال دراستي المتوسطة. وهو ما حدث فأنهيت دراستي الإعدادية وأنا اعرف أن اختصاصي في الجامعة سيكون التاريخ.
أنا اعرف إن كل ما أتحدث عنه ليس مهما للتاريخ، لأنه لا يهتم إلا بالمحصلة النهائية للأحداث ونتائجها، إلا أني أورد كل هذا لكي أبين فقط كيف أصبحت على ما أنا عليه الآن.
أن النظام التربوي في دولتنا هو الأكثر تقدما في العالم، وهو بالتأكيد الأكثر تكلفة أيضا، ولكن أليست تربية الإنسان هي العملية الأكثر أهمية في بناء الدول الحديثة؟ فما الذي يضر دولتنا الغنية لو صرفت جزءا من ميزانيتها الضخمة على هذا الجانب الحيوي والمهم؟.
ولا حاجة بي بعد هذا الإيجاز إلى أن اذكر باني راض عن نفسي وعن حياتي وممتن للظروف الاجتماعية التي ولدت في ظلها، ولكني اعرف بان هناك ملايين من البشر في دول أخرى سينهشهم الحسد، وتؤرقهم الغيرة إذا ما قرءوا أوراقي هذه ( وحمدا لله لأنهم لن يفعلوا أبدا). أنا أشفق على مثل هؤلاء ولكني اشعر باني غير مسؤول شخصيا عن توزيع الثروات في العالم، ولذلك فإني لا أستطيع أن أقدم لهم ما يعوض حرمانهم، أنا أؤمن بأن الأفضل لهم هو أن يرضوا بما هم فيه لكي لا يتحول حلمهم في الوصول إلى المستوى الذي يعيش شعبنا في ظله إلى هاجس يحرمهم من الإحساس بالنعم المتوفرة لديهم بكل تأكيد. ولكنهم لا يملون من إلقاء تبعة ما هم مبتلون به من فقر وتخلف أو عدم استقرار على كاهل حكومتنا التي يدعون أنها تمتص دماءهم لكي نترفه نحن!!! أي منطق غريب هذا؟! أنا لا أفهم كيف يمكن أن يموت شخص ما في أمريكا مثلا بسبب المستوى العالي من الرفاهية الذي أتمتع به أنا!!! إن هذا غير معقول! ولكني مع ذلك أفهم لماذا يحقد الآخرون علينا، فالسبب واضح، وما هو إلا الحسد والحقد، ولكن الذي لا أفهمه هو وجهة نظر بعض الفوضويين من أبناء شعبنا الذين يسمون أنفسهم الثوريين والذين يتشدقون بمبادئ إنسانية غريبة! هم يدينون الدولة، دولتنا! بدعوى أنها تستغل الشعوب الفقيرة فتزيدها فقرا لكي تزيد ثرواتها التي تنفق نسبة ضئيلة منها لتأمين رفاهية الشعب فيما يتكدس الجزء الأعظم منها في أيدي فئة صغيرة تزداد مع الأيام قوة ، أن وجود مثل هذه الفئة في مجتمعنا أمر لا أنكره ولا اعرف ما الذي يمكن أن تفعله بكل تلك الثروات، ولكنها لم تجمع ثرواتها إلا هنا، في بلدنا فما فيه من ثروات تكفي لإشباع كل طموح يريد أن يستزيد، أما عن استغلال الدول والشعوب الأخرى، فأنا لا اعرف شيئا عن ذلك ولا يهمني أن اعرف، لان الدول الأخرى هي المسؤولة عن مصائرها ومصائر شعوبها، فلماذا تقاعست عن التقدم لتصبح قابلة للاستغلال ولكني أستغرب لأمر الإنسانية التي تطلب مني أن أخاطر بمستقبلي ومستقبل أطفالي المضمون لكي يستطيع فرد آخر في دولة أخرى لا تستحق أن تكون دولة أن يعلم أطفاله كيف يحقدون على دولتنا ونظامنا! أنا أتمنى لو توقف الآخرون عن إلقاء اللوم عن حكومتنا بسبب المآسي والاختناقات التي تعاني منها بلدانهم! ولكنهم إن لم يتوقفوا فهذا غير مهم بالنسبة لنا، لان سياسيينا آلوا على أنفسهم ألا يسمحوا لأي طارئ أن يكدر أمن الدولة، وهم قادرون على ذلك بوجود اقتصاد متين و( جاد ) ووجود الجيش القوي المسلح بأحدث الأسلحة التي تنتجها مصانعنا المسيطرة بالفعل على تجارة السلاح في العالم، صحيح أن هذا الجيش لم يلتزم بالدفاع عن الدولة فقط ( فمن يجرؤ في النهاية على تهديدها ) بل تدخل أحيانا في شؤون الدول الأخرى، ولكن هذا كان يحدث بناءً على طلب الأنظمة الموالية أو الصديقة في تلك الدول، ولم تتعد مهامه حدود حفظ النظام وإعادة سيطرة تلك الأنظمة على شؤون دولها، ولو كلف ذلك سقوط بعض الضحايا أحيانا.
**************************
لقد وصل مجتمعنا إلى أقصى درجات التخصص في جميع المجالات ولذلك أصبحت السياسة للسياسيين فقط، وكذلك العلم للعلماء والثقافة للمثقفين ( هذا إذا اعتبرنا الثقافة الأستيرية ثقافة ) ولم يكن لي أن أتطرق إلى السياسة لو لم أكن عضوا في لجنة إعادة كتابة التاريخ، مما يعني ضمنا" أن لي دورا وان كان غير مباشر في رسم سياسات الدولة من خلال اسهامي في تطويع التاريخ لخدمة أغراضها، كما أني حكيم رسمي امتلك امتيازات منحتني إياها الدولة ( ونظام الحكماء نظام خاص بدولتنا ولي عودة أخرى إليه فيما بعد ).
إن التاريخ علم وكل علم يكون عرضة للتطور ما دام تطور الإنسانية مستمرا، ولذلك يجب أن تكون عملية قراءة التاريخ متجددة لان الأحداث فيه تترى وتترابط، والتاريخ غالبا ما يكرر نفسه، وأنا عندما أقول التاريخ فاني اقصد نتائج الأحداث التي حدثت فيه، فالنتائج هي لب علم التاريخ لأنه لا يمكن أبدا القياس على شيء أو حدث ما لم يصل إلى ذروته التي هي النتيجة، ومن ادعى غير ذلك فهو على خطأ، وأنا أقول ذلك بثقة لأننا نحن أساتذة التاريخ الحقيقيين ذلك أنه بدأ في أرضنا ولذلك نحن نتعامل معه بعناية فائقة لكي نستطيع من خلال فهمه أن نقود شعبنا إلى حيث نريده أن يكون. ومن اجل ذلك تشكلت هذه اللجنة قبل قرن ونصف وكانت مهمتها وما تزال تنقيح التاريخ وهي تتألف من خبراء استشاريين في مختلف الاختصاصات ذات العلاقة من تاريخ واجتماع و أدب وفلسفة وعلم نفس وغيرها، مهمتهم مراجعة الأحداث التاريخية وإبعاد ما يمكن أن يسيء إلى سمعة دولتنا ونظامنا منها، ولكن بشكل تدريجي لكي لا تظهر ثغرات في هذا التاريخ على المدى القريب، أما عن المدى البعيد فان هذه الثغرات حتى أن ظهرت، فلن يهتم بها أحد، فهكذا كان حال التاريخ دوما، كما انه لن يكون هناك أحد يمكن أن توجه إليه تهمة إحداثها. ومن اللافت للنظر في هذه اللجنة إن أكثر أعضائها يهود، وأنا شخصيا أرى أن هذا كان من حسن حظ هذه اللجنة الناجحة تماما لان اليهود أذكياء ولهم قدرة هائلة على التخطيط لآماد بعيدة. أن التنقيح المستمر كان عاملا مهما من عوامل حفظ البناء النفسي لشعبنا سليما من خلال الحفاظ على تماسكه ووحدته بإخفاء نقاط الاختلاف التي قد تبرز خلال الصراعات التي لابد من ان تكون قد نشبت في الماضي بين أبناء شعبنا الذي بالرغم من كونه متجانسا ألا انه يضم أيضا بعض المجموعات التي تختلف عن الأغلبية عرقيا أو دينيا أو حتى مذهبيا، ولن تكون هناك أية فائدة في إظهار هذه الخلافات لان كل شعب في العالم لديه ذكريات يريد أن يمسحها من ذاكرته، وهذا ما نفعله نحن أعضاء اللجنة، و رغم أننا لا يداخلنا شك في أن هذا الشعب الجبار لا يمكن أن يكون يوما قد بات مظلوما أو مهانا، يخجل أفراده من إعلان هويتهم إلا أننا نرى أن عملية التنقيح تبقى ضرورية خوفا من الخطأ في قراءة التاريخ.
*********************
خلال دراستي الجامعية الأولية والنهائية كنت موفقا جدا ولم أخيب أمل المجتمع فنلت درجة الامتياز الثانية في تاريخ العائلة، ولكنها كانت في الدراسة النهائية في هذه المرة. بعد التخرج أصبحت أستاذا جامعيا أنا أيضا، ولكني على العكس من والدي كنت أريد أن أتزوج بسرعة فاستقر رأيي بعد حين على طالبة من طالباتي وافقت على الزواج الذي تم بعد الإجراءات المعهودة، وقد آثرت زوجتي فيما بعد أن تكتفي بالدراسة الجامعية الأولية، الأمر الذي أسعدني كثيرا لان تفرغها لشؤون البيت كان واحدا من أهم الأسباب التي دفعتنا إلى إنجاب طفل ثان بعد طفلنا الأول، لأننا نحب الأطفال كثيرا.
أنا اعرف باني أطلت الحديث عن نفسي ولذلك سأتحاشى الحديث عن عائلتي أكثر، و أقول فقط باني راض عن المستقبل الزاهر الذي سوف يهيئه المجتمع لولديّ، فهما طفلان ذكيان بالفعل، وعلى ذكر الأطفال والخشية عليهم أريد أن أقول أني لا آبه أبدا بالأراجيف التي أخذت تتردد بين عامة الناس والتي تتحدث عن نهاية وشيكة للعالم مع بدء الألف الرابع للميلاد! الأمر الذي يجعل الكثيرين يقلقون على مستقبل أولادهم!. ولا ادري من أين جاء هؤلاء المساكين بهذه الأفكار البعيدة عن العقل والمنطق؟! لقد حاولت جادا أن أتتتبع جذور هذه الخرافات على مر التاريخ ولكني كنت اصطدم في كل مرة بالفجوة التي أحدثتها المؤامرة اليهودية في تاريخ العالم، وعن هذه المؤامرة وليس عن تلك الأراجيف سأتحدث في صفحاتي القادمة.
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 03-27-2012 في 05:29 AM.