كالتي مات لها الرضيع الذي أطلقت عليه اسم حبيبها تخليدا لذكراه.
كالتي أخبروها بعد انتظار طويل أن الرجل الذي تزوجت به قبل أيام ضئيلة هوى صريعا إثر حادثة سير مرعبة.
لإلينا ألم عميق، فقد لازمها الشعور بالذنب لأنها تركته يرحل و هو لا يعلم أنه مقبل على ممارسة الأبوة.
بمقدور الخيال الشاحب أن يتصور منظر الموت الذي باغت الرجل القاطن في أعماق قلبها، لقد غادر هذا الوجود مسكونا بأفكار مكفهرة لأنه لن يراها مجددا، مثلما وصف لها اعتمالات التراقي أحدهم، أحد أولئك الغرثى الجالسين بخشوع عند مدخل غرفتها القاحلة.
لقد رحل ظانا أن شخصا واحدا هو الذي سيفتقده.
- على الأقل لقد اختصرت عليه وجع الإحساس بأن شخصين سيحرقهما الحنين إليه...لكن جدتي قالت لي إن الأموات يتابعوننا هل سيعرف أنني تعمدت...
لم تستطع اكمال حديثها الجاف، امتقع وجهها قليلا قبل أن ترتشف تنهيدة مسهبة.
تحلق حولها المواسون، ملامحهم ترسم لدى المشاهد صورة موظف مخلص أحيل إلى التقاعد الإجباري بسبب مؤامرة قاطنة في اعتقاده فحسب، أو صورة إنسان مشهور بالنزاهة يحاول أن يثبت للعالمين أنه لم يسرق حافظة نقود بورجوازي قاتم الطباع تماما كما خلقه إله " الواقعية الملبدة بالواقع "...إن كان للواقعية الملبدة بالواقع إله يتحدث باسمه مثقف متشرنق شغوف بالفصل بين الأفعال اللازمة و المتعدية كلما اقترف الكتابة السردية.
- كلهم هنا على كل حال.
وجوم أقرب إلى البلاهة يسيطر على الأمزجة. إنهم هنا، " مهطعو الرؤوس "، كي يؤكدوا لها أن القدر أقوى منهم و منها ، بيد أنها فضلت قراءة عبارات العزاء مقلوبة :
- لقد رحل إلى الأبد، لن تتلمسي عينيه الناعستين ثانية، لن تتلمسيهما و هو يسرد لك تفاصيل يومه، و توتر تطلعاته، و شعوره العارم بالسعادة لأنك برفقته، أنت الوردة العصية على الاستخراف التي زرعت الإشراق في حديقة أحلامه .
ابتسمت وسط دهشة الحاضرين، وجهت أنظارها المجهدة إليهم كي تقول متقمصة نبرة قائد لاذ جنوده بالإنتحار الجماعي خوفا من العدو :
- ما أقسى القراءة المقلوبة لعبارات العزاء، لكنها القراءة المتطابقة مع الواقع.
اعتدل شيخ في اللجب بعد أن قال للعجوز الجالسة بقربه :
- أ لم أقل لكِ إن عذاب الضمير سيَحيق بهذه المُسجاة الملعونة.
سمعت تحاورهما، ثم تناولت غير آبهة مجلة أنثوية الهوى كي تقرأ صفحتها الاعتيادية، رفعت صوتها كي يتمكن معجبوها أصحاب العزاء من سماعها بوضوح يفقأ الأعين :
- ذكر أحدهم مازحا لمعشوقته إنه يحبها كما يتصورها، حينما تلمظ ما يشبه الإطراء في ما حدثته به، اقترب منها بهدوء بالغ، تأمل عينيها بانتباه لافت. تبدى فيهما تساؤل مبتهج :" لماذا؟ ". همس على إثره بصوت خافت : " أنا أحبك كما أنت، لأنك الأجمل كما أنت، و لا يمكن أن أتصورك أجمل من جمالك كما أنت ". ارتدى ذاك المساء روعة استثنائية إذ أخبرها أنه جهز نفسه لمحاربة كل ما قد يفضي إلى إلقاء القبض على ابتسامتها.
أصغى الحاضرون إليها في غمرة استمزاج الغرابة و الامتعاض و التبسم المخاتل. استطردت :
- في صفحة نصائح امرأة لامرأة، أريد أن أقرأ لكم أن إحداهن و هي خبيرة حصيفة في الشؤون الأسرية تنصح بعدم اخباره عند تلقي الخبر لأول مرة.
ألقت المجلة في الهواء ، صرخت و السرور يترقرق من عينيها المبتلتين :
- لقد قمت بذلك...لقد قمت بذلك.
أجابها رجل وسيم كانت المسافة بينهما أكثر تقلصا من المسافة بين عينيها :
- نعم لقد قمت بذلك...و بتفوق.
نهضت بخفة باهرة لتنظيم متعلقات محفظتها اليدوية و رتبت نفسها أمام المرآة. لم يسألها أحد عن وجهتها رغم أنها طلبت منهم جميعا استفسارها عن ذلك...
التوقيع
لا تأكلي الشمس...فما في حوزتي سوى كلمات و وردة ...هي لك
آخر تعديل هشام البرجاوي يوم 09-15-2012 في 04:44 PM.