قبل أن ألج موضوعي، عن الغَجَر وانحدارهم التأريخي.. وددت أن أمهد للأسباب التي دعتني إلى التعمق في علم الغجريات.
وأسأل الله أن أوفَّق، وأكون أداة توصيل، لامشرعنٍ لسوء.
حكاية ظريفة:
تبقى الذاكرة ناشطة أحياناً، وتختزن أحداثاً موغلة بالقِدَم.. حيث أتذكر ماحصل لي وأنا لم أبلغ السادسة من عمري..
وهذه الذكرى كانت محفزتي للبحث والتنقيب والدرس لسنين طويلة.
في يوم قائظ، ألبستني أمي (شورت وقميص)، مازلت أذكر لونه الكاكي وتفاصيل تطريزة الصدر.
فاستغليت قيلولتها، وتسللت إلى الشارع الذي قادني إلى (نجارخانة) والدي التي لاتبتعد كثيراً عن بيتنا.. واخترقت باعة الخضار الذين افترشوا الأرصفة، وضجيج إعلاناتهم الذي يصم الآذان.. عن بضاعتهم.
فإذا بسيدة، لاتختلف عن باقي النسوة إلا بضخامتها، و - خصوصاً رأسها - ، وتهدّل كتفيها.. تلفني بعباءتها، وتركبني باصاً خشبياً.. فتفاجأت بحشد من نسوة، يقارب العشرين، وثلاثة رجال.
أجلستني هذه السيدة تحت ركبتيها وغطتني بعباءتها، فمكثت بين أكداس هائلة من (الرقِّي)، إلى أن اختفت أصوات الباعة.. فرفعتني وأجلستني على حجرها، وصارت تمسد بيدها على رأسي، وتعدني بتبنيها لي، وبأنها ستوشمني بوشم على صدغي، ولم تنسَ أن توصي جارتها التي خلفها بأن تركَّب لي سناً ذهبياً.
ألغريب بالأمر أن الرجال الثلاثة لم يعيروا أمر اختطافي أي أنتباه، بل كانوا يتصدرون الباص، وقد شغلتهم لفافات التبغ التي كانوا يصنعونها يدوياً بعد أن يخروجوا من أكياس حمر تبغاً ويلفونه بأوراق صغيرة.
إلا أن أحدهم نادى إحداهن باسم (رهاب).. هكذا كان اسمها أو قريب من هذا الوزن.
وطلب منها بلغة لم أفهمها.. لكني عرفت، عند تلبيتها طلبه، ومن خلال إشارات يديه.. أنه يريد سماع غناءً يبدد وحشة الطريق بصوتها.. فلم تتردد لحظة، وصدحت بصوت هو أقرب إلى السوبرانو - طبعا ميزت نوع الصوت بعد زمن- وصارت تشدو بغناء عربي وبلهجة بدوية.. أمتعني صوتها جداً، لكنه كان غريباً على مسامعي.. لأنني لم أعتد سماع هذا النوع من الغناء في بيتنا، الذي كان عبارة عن مكتبة للقراءات القرانية، وأحياناً نستمع إلى ناظم الغزالي والقبانجي، من خلال جهاز الـ (كراندك تيب).
صوت رهاب أذهلني، ونبهني إلى العطور النفاثة التي كان يعج بها المكان، وكذلك ألوان ثياب النساء، وطريقة زواقتهن، واكتناز صدورهن المنبئات عن ترف جمالي صحراوي مذهل.
حقيقة أحببت هذا الجو كثيراً، وصرت أتمنى أن لا أفارق هذه المجموعة.
فهنا.. صخب، وغناء، وسفور، وعَبَث.. وهناك.. هدوء، وقرآن، وتحجب، والتزام.
شتان مابين البيئتين.. هنا دلع، وهناك محافظة.
إذاً صار عليَّ أن أختار.. فاخترت المتعة.
ولكن متعتي لم تستمر طويلاً.. حيث أصاب الرعبُ الرجالَ وصاروا يتقازون من الشبابيك كالأرانب.. ولم يبق في الباص إلا أنا وحشد النسوة الفاتنات.. فاندسست بين أكداس الرقي، وتدثرت بكيس كان مرمياً على مقربة مني.. بغية الأمان، بعدما علت اًصوات ميزت صوت والدي من بينها، فخرجت من مكمني وركضت صوبه باكياً.
لا أريد الدخول بتفاصيل ماجرى لراكبات وراكبي هذا الباص بعد هذا، لكني أود أن أعترف بأن فرحتي كانت كبيرة بوصول والدي وصديقه المرحوم ن. ر. العاني، والرجال الذين كانوا معهم، وعرفت فيما بعد أن صديق والدي قد لمحني وأنا أختطف من قبل الغجر.. لكني بنفس الوقت كنت تواقاً للبقاء مع جمع النسوة هذا، ومازال صوت رهاب يرن بأذني، وقد عرفت لاحقاً – أيضاً - بأن غناءها كان يسمى الـ (سويحلي).
منذ ذلك الحين وأنا أتابع أخبار الغجر وأتقصى أثر المعلومات التي تخصهم، فكتبت في عام 1982 بحثاً بسيطاً عنهم، ونشرته في مجلة الدستور.. وها أنا الآن أكتب عرضاً عنهم.. وأتمنى على الأخوات والأخوة هنا.. أن يثروا هذا الموضوع بما يعرفونه عن الغجر من عادات وتقاليد وطقوس.
بعد أن انشر عرضاً بسيطاً عن تأريخهم.
ألعرض:
هناك من ظن أنهم قدموا من بلاد النهرين والآخر افترض أنهم من مصر او شمال أفريقيا وأثيوبيا. إلا أن علم تأريخ وسلالة الشعوب استطاع في القرن الماضي أن يجزم بشكل قاطع على أن الموطن الأصلي للغجر هو الهند.
أما الشاعر الفارسي ( الفردوسي) قد أشار في "الشاهنامة" إلى كيفية انقسام الغجر . فقد ذكر أن الملك الفارسي (بهرام كور) في القرن الخامس الميلادي التمس من ملك الهند (شانكور) أن يبعث إليه بخمسة آلاف مهرج مع آلاتهم الموسيقية من أجل الترفيه عن رعاياه. فأرسل له قبيلة بائسة فقيرة تدعى (لوري)، وما تزال مقاطعة (لورستان) قائمة في إيران.
أما الشاعر (حمزة الأصفهاني) فقد أكدَّ ذلك وأشار إلى انتماء ( ألأسطورة اللورنسية) إلى الغجر.
وما يجعلنا متأكدين من أنهم من أصل هندي بشكل قاطع هي تلك السحنة، والملامح التي يتحلى بها الغجري، وهذا ما أكدته دراسة جينية حديثة حيث توصلت إلى أن الغجر الذين يعيشون حاليا في القارة الأوربية، هم على الأرجح من أحفاد المنبوذين، الذين هم أدنى مجموعة ضمن النظام الطبقي الهندي، وقد وصل هؤلاء إلى أوربا قادمين من الهند قبل حوالي ألف سنة. ففي لغتهم تظهر بعض الكلمات المأخوذة من السنسكريتية، كما يظهر أقاربهم القدامي في الصور التأريخية وهم يرتدون ملابس تعتبر تقليدية بالنسبة لمواطني آسيا الجنوبية، لكن لم تظهر أية دلائل علمية لتدعيم مزاعمهم إلا حالياً. فالدراسة التي أجراها علماء في الهند وأستونيا أكدت ألأصول الهندية للغجر وكشفت أيضاً البيئة الاجتماعية التي ينبعون منها، وقد رحب "مجلس البريطانيين الغجر"، بنتائج البحث وأفاد باسم الناطق باسم المجلس (جوزيف جونس) لصحيفة الديللي تليغراف البريطانية، بأن الدراسة ستساهم في نشر التفاهم حيال الغجر في كل أرجاء أوربا.
وكان العلماء الذين نشروا نتائج دراستهم في مجلة "بلاس وان" قد فحصوا الحامض النووي للرجال في المجتمع الغجري، وقارنوه بجينات آلاف من ممثلي الشعب الهندي، وأجرى هؤلاء بحثاً على أكثر من 10000 عيِّنة من 214مجموعة هندية مختلفة، فعثروا على أكبر تطابق مع مواطني شمال غرب الهند. وعندما عُرضت النتائج في الخارطة الجينية للهند، تبين أن أكثر المواطنين الذين يتطابق حامضهم النووي يعيشون حالياً في الأماكن التي يقطنها غالباً طبقة المنبوذين، أو "داليتا" باللغة السنسكريتية، وحسب التقديرات الحالية، فأن حوالي 160 مليون هندي ينتمون لهذه الطبقة، ومعظمهم من الهنود المسلمين. وتقول الديللي تلغراف أنه حسب التقاليد والمفاهيم الهندية، فإن الناس يولدون منبوذين كعقاب لهم على الذنوب التي ارتكبوها خلال حياتهم السابقة.
وعلى الرغم من ان الطبقات ممنوعة وفق دستور الهند منذ عام 1950، فان تقسيم الناس بين «أفضل» و«أسوأ» لا يزال قائماً في هذا البلد، ولذلك فان أفراد هذه الطبقة يضطرون لمواجهة حالات متكررة من الاضطهاد، حتى انه يتم طردهم من المعابد أو يمنعون من دخول منازل الذين ينتمون لطبقات أعلى، وفي غالب الأحيان فانهم يعملون في الوظائف الرديئة.
ويعتبر جوزف جونس ان تأكيد الأصل الهندي للغجر في هذه الدراسة هو أمر جيد، واليوم يجب على بريطانيا- حسب رأيه- ان تبدأ بقبول الجاليات الغجرية الجديدة التي تعيش فوق أراضيها، «نحن لسنا منبوذين أبداً، لا أكترث لأن الدراسة تربطنا بهؤلاء المنبوذين - فأنا أعيش في مجتمع لا توجد فيه الطبقات، كنتُ أشعر دائماً بالتعاطف مع الهنود».
انتشر الغجر في كل أصقاع الأرض على شكل جماعات صغيرة، فمنهم من اتجه نحو الغرب، ومنهم من انحدر جنوباً.. فبلغوا وادي الرافدين ومصر واليونان، وتركيا، وانكلترا وفرنسا ودول البلقان.
وفي القرن الرابع عشر التقوا في مملكة (دوزان) القيصرية ووقفوا في عهد ازدهار الامبراطورية الصربية أمام الغزو (التركي).
ثم وطأوا الأراضي الألمانية واسبانيا وروسيا.
وجاءت تسمية (جيبسي) خطاً حين أسموهم الفرنسيون بالمصريين، والإسبان بـ (جيتانو) .
وفي فرنسا يسمونهم أيضاً بـ (البوهيميين)، نسبة إلى التوصية التي كتبها بهم ملك بوهيميا.
وليس هنالك ثمة شعب تعددت أسماؤه كالغجر، وسنذكر بعضها:
الرومن: أوربا الشرقية
الفلاكس: البوسنا والهرسك والبرازيل
أوكرانيا وصربيا وبلغاريا وتركيا ومقدونيا وإيران ورومانيا وأفغانستان والجزائر الدومر: مصر ايران الاردن فلسطين
الهَلَب: مصر وليبيا
ألزط: العراق
البراكي: في سوريا والأردن
المزنوق: في أزبكستان وإيران
هم يقولون نحن (روم)، وكلمة (روم) تعني إلى حد ما إشارة إلى (الإنسان) وهي إشارة متفق عليها كل الغجر في العالم، ويطلق على الغجر الألمان اسم (زينته) وهي شبيهه بكلمة (زند) التي تطلق على أحد الأقاليم في غرب الباكستان.
في أوربا سدت في وجوههم جميع الأبواب ومورس ضدهم التمييز العنصري، ودارت الشكوك حولهم واتهموا بالسحر والشعوذة والقتل وسرقة الأطفال وجلب الدمار والوباء للبلد الذي يحلون فيه وأشير إليهم كطريدي العدالة.
وأصدر الأقطاعيون وأمراء البلدان أمراً بشنقهم أو حرقهم وهم احياء أينما وجدوا وبذلك بلغ عدد ضحاياهم مايقارب مئة ألف إنسان.
وشهدت هذه الفترة أعنف موجة دموية في تاريخهم. وكانت أوربا هي المسؤولة عن هذه المجزرة.
وشيئاً فشيئاً فقدوا عاداتهم وتقاليدهم وسعوا على الدوام إلى إخفاء جنسهم وهويتهم.
أن ماريت تيريزا ملكة بوهيميما والمجر قد وفرت لهم الملجأ ولو تحت شروط معينة. فمثلاً كان يجب عليهم المشاركة في بناء وتعمير البلد والدخول إلى المدارس وأداء الخدمة العسكرية وأن يتخلوا عن استعمال لغتهم الأم، وأن لايمارسوا بعد الآن أعمال التسلية والتهريج في أنحاء البلاد.
كذلك سمح لهم بشكل مستمر مزاولة الأعمال الحرفية التي تتفق وطراز حياتهم.
وعملوا في سباكة القصدير والنحاس وتجارة الخيول.
في بعض البلدان الأوربية انتخب الغجر مقاطعات حكمهم الذاتي، وحتى ملوكهم أيضاً. وفي المجر لهم تجمعاتهم الخاصة التي تدعى (بالماليجه) وتعتبر هي المسؤولة عن مقاطعات الحكم الذاتي في يوغسلافيا. وفي الآونة الأخيرة حققت استقلالها. ومن المألوف حتى يومنا هذا أن نلاحظ أن (الفوري داي) وهي القبيلة الأم لها الكلمة المسموعة.
يعيش الغجر في العراق حاليا في عدة اطراف بعيدة من عدة محافظات منها الموصل والحلة ,الديوانية والبصرة.
الغجر يمتهنون المهن الوضيعة فهم اما باعة للجنس والكحول او متسولون وعند طرقهم للأبواب لا يطلبون سوى الطعام ويوصفون في كل المجتمعات باسوأ الأوصاف في كل اللغات، و في لغتنا العربية هم الغجر، النور، الكاولية ونجد شبيها لذلك في كل اللغات، وفي العراق فان المهنة الاولى للغجر اليوم هي التسول وتوفير لقمة العيش فحسب.
والغجر يؤمنون بالسحر والشعوذة أيمانا راسخا فنساؤهم ورجالهم يبذلون الكثير من المال من اجل هذه السفاسف.
المحلل التاريخي رزاق كريم يقول:
عانوا ما عانوه في سبعينات القرن المنصرم ولكنهم استقروا بعد أن اخذوا الجنسية العراقية في الثمانينات وكانت هذه الفترة من الفترات الذهبية للغجر في العراق , كما تم صرف الرواتب لهم وبناء المجمعات السكنية سعيا لمشاركتهم في بناء المجتمع.
يبلغ عدد الغجر في العراق أكثر من مئة وعشرين ألف نسمة موزعين في أرجاء العراق وفي مجمعات سكنية، وبعدما اكتسبوا الجنسية العراقية عام 1979 اندمجوا في المجتمع العراقي وفي مؤسساته العسكرية مؤدين الخدمة الإلزامية (الخدمة العسكرية) وكثيرون منهم أكملوا دراساتهم في المدارس والجامعات العراقية ونالوا شهادات علمية في كثير من الاختصاصات ورغم ذلك لم يظهر اسم كاتب أو طبيب أو مهندس من الغجر.
أما لماذا سموا بالكاولية فهناك إجماع واحد والذي توصل إليه الباحث (د.حميد الهاشمي )وهو انتسابهم إلى اسم ملكهم (كاول ) والذين انتسبوا إليه بالأسم تعظيما وأجلالهم له . ويطلق العراقيون على أقوام الغجر التي تسكن العراق تسمية الكاولية وهذه الكلمة ترتبط في ذهن وسلوك العراقي بالرقص والغناء والبغاء وأود أن اوضح نقطة مهمة أن هناك خمس مهن توارثوها الغجر أبا عن جد ولا تعتبر معيبة لهم نهائيا بفعل المعايشة مع هذه المهن وهي الرقص والغناء, التسول, الحدادة وأخرها البغاء, وعرف عن الغجر عدم أهتمامهم بنظافة المكان وطهارة الجسد لأنهم يعتبرون أن الشكل الخارجي هو نوع من النفايات والقذارة يجب عدم الاعتناء بها ولكنهم عندما يختلون الى انفسهم وخصوصا في الجلسات الليلية العائلية بعد ان يغادرهم طلاب اللهو والطرب والجنس فانهم يعتنون بمكانهم وملابسهم وجلساتهم بشكل مذهل.. خصوصا ان كانت الزوجة شغالة في ميدان الرقص أو البغاء فانها تلقى اهتماماً من قبل زوجها عن باقي الزوجات.
ألمصادر:
"الغَجَر - المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة
صحيفة المواطن سناء البديري
عادات الشعوب وتقاليدها - أديب أبي ضاهر ألشاهنامة للفردوسي
برانكو راديسنفنج مقدمة أغاني الغجر، ترجمة نامق كامل
كتاب (تكيف الغجر) للمؤلف د. حميد الهاشمي وهو دراسة انثروبولوجية إجتماعية