رائحة الموت تملأ المكان، ودقائق الانتظار تميت قلوبنا، وتشعل النار في أجسادنا.. العيون تحدِّق مرغمة، وحين تلتقي تنكسر، وتغوص إلى باطن الأرض، والأسنان تكزّ من الغيظ.. الشاب الثاني في أسبوع واحد.. محمود علي بعد حسن الطيب، على فين رايح بينا يا جدي..؟ يدلف الطبيب إلى المشرحة، وخلفه ضابط الشرطة متسائلاً:
- مين هيحضر تشريح الجثة..؟
يجهش أحمد علي أخاه الواقف جواري بالبكاء، وجدِّي يلتفت نحوه بنظرة خنقت العبرات في عينيه، فتحشرج صوت البكاء داخله؛ ثم أمرني بالدخول لحضور تشريح الجثة..
لأول مرة أشهد مثل هذا الموقف، وجدي لا أستطيع تكسير أوامره، ها هو ابن عمي وصديق العمر ممددا على طاولة المشرحة، عيناه نصف مسبولة، وفمه مفتوح.. يشير الطبيب لأحدهم، فيقص ملابسه كلها، وينتزعها.. الرصاص كثيفا في صدره، وبطنه أصيبت ببضع رصاصات متناثرة، وهناكـ واحدة في جبهته..
كلما شق الطبيب وجد رصاصة أو رصاصات استخرجها ، وعيناي لا ترمشان، وأذني تنصت لرنين الرصاص في علبة الصاج حين يلقيها الطبيب على عجل، وصورة صباح بنت عمي، التي فاز بقلبها محمود من بيننا.. تختلط بهذا المشهد الأليم، وليلة عرسها القريبة وبجوارها هذا الراقد ممزقاً، دون ذنبٍ جناه؛ سوى أنه من عائلتنا التي تعادي نصف عائلات البلدة..
أنهى الطبيب مهمته، وراح يحيكـ الجراح الهامدة بإهـمال، والضابط يسجل في أوراقه عدد الرصاصات التي استخرجها الطبيب من الجثة، ثم خرجوا جميعاً.. التفت لألقي نظرة أخيرة على صديق العمر، أسبلت عيناي على دمعة شقت طريقها إلى وجنتي، جففتها سريعاً قبل خروجي لألتقي ووجه جدي العَبُوس..!
حين هـممت بالخروج ، كان عامل المشرحة، يمسكـ بكتفي، ويسألني:
- يا أستاذ أنا ممكن أغسِّله ليكم من وراهم، وأجهزه بالكفن؛ بس تديني الشاي..
أومأت له دون الرجوع لأحد، وضعت يدي في جيبي، ودسست ورقة مالية في يد العامل دون أن يروني؛ فمحمود يستحق أن يُغسَّل قبل الدفن، حتى ولو برشوة عامل المشرحة.
كل الوجوه المنتظرة بالخارج تطلَّعت إليَّ بعيون مسهدة؛ فالليل طويلاً جدا، قضيناه واقفون أمام باب المشرحةتارة، وأخرى في باحة المشفى.. زغدني جدي في كتفي؛ فانتبهت، وتبعته دون إبطاء، ركبنا سيارة الشرطة في طريقنا للمركز بصحبة الضابط، ووكيل النيابة؛ للحصول على تصريح الدفن..
كان جدي ينفث دخان سيجارته في وجهي بهدوء، وهو يسألني:
- كام رصاصة طلعوها من واد عمكـ..؟
- كتير يا جدي.. أكتر من ربعميِّه..
صمت مطبق، ودخان جدي الكثيف يعمي عينيّ؛ فيخبئ دمعات تحجرت.
- بسيطة.. قالها جدي وابتسم، لكنه لم يداري طعم المرارة في نبرته الحادة، و لم أستطع أن أخبِّئ دمعةً فرَّت من عيني، مسحتها سريعاً بطرف شالي..
- هتبكي زي النسوان، قالها ممتعضاً..
- لا يا جدي دا تأثير الدخان، قلتها مخنوقاً..
ساد الصمت مجددا، حتى توقفت العربة عند باب المركز، دلفنا للداخل خلف الضابط ووكيل النيابة الشاب، وفي مكتبه جلس جدي متكئاً، وبقيت واقفاً..
كتب وكيل النيابة التصريح، ووقع عليه، ثم نادى العسكري الواقف على الباب، وأمره أن يختمه، ويعيده؛ ففعل.
أشار لي جدي ؛ فالتقطت التصريح من وكيل النيابة، الذي قدمه لجدي قائلاً:
- ربنا يجعلها آخر الأحزان يا حج.
- وهي الأحزان برضكـ هتنتهي يا بيه، هكذا غمغم جدي
شكرناه، وخرجنا متعجلين.. كانت عربة الشرطة بانتظارنا، ركب جدي بجوار الضابط، وقفزت في "الكبود" الخلفي مع قوة الحراسة..
الشمس تصحو مكتئبة وأشعتها الباهتة تغلق عيوني المسهدة، خبأتها بالتصريح، وصورة محمود بالمشرحة.. لم تبرح خيالي لحظة واحدة، ها هو ابن عمي زينة الشباب صار اسماً مكتوباً فقط على ورقة تصريح بالدفن، وتمر ذكرياتنا منذ الطفولة حتى زواجه من صباح جميلة الجميلات، ولحظة القتل تخيلتها دون رؤيتها.. قبلها طلب منِّي الذهاب معه للزرعة الشرقية، لكني تأخرت؛ فلم ينتظرني؛ غادر بمفرده إلى هناك، ؛ فمات وبقيت..
كان من الممكن أن يكون هذا التصريح لي لو تأخر هو وحضرت قبله، وربما كان لنا معاً..
:صحيح أعمار، قلتها بصوت عالٍ، فالتفت الحراس نحوي، وعقب كلاهـما ببضع كلمات للمواساة، لم أسمع منها شيئاً..!
ها نحن نصل إلى المشفى، هبطنا سريعاً، ودلفنا إلى الداخل، تسلمنا جثة محمود، وجدي أمرنا أن نتجه به مباشرةً إلى المدافن، دون العروج على البيت، أخبرونا أن المدافن جاهزة لاستقبال محمود، كما استقبلت حسن الطيب قبلها بأسبوع،
: آآآآه.. الدور على مين يا جدي، قلتها في نفسي، وعيناي معلقتان بوجه جدي الممتقع، وشفتاي مذمومتان في كمد..
نزل جدي إلى القبر، وقال:
- أحمد علي ينزل معاي.. فنزل ..
دفنَاه وخرجا بوجه الموت، والذهول يلفنا جميعا، أخرجنا جدي من صمتنا، حين مال على أحمد علي، وهـمس في أذنه مشددا على أمرٍ ما؛ فانطلق الشاب حاملاً بندقيته، وغادر في عربته وحيداً، بينما ركبنا سياراتنا وبجوارنا تسير عربات الشرطة حتى وصلنا إلى بيوتنا..
صافح جدي البيه المأمور ، الذي انصرف مسرعا لعمله، وبقي جدي أمام الدار الكبير، بينما ارتمينا هامدين على "الدكك" المرصوصة بالمندرة الكبيرة، لحظات وكانت طلقات الرصاص تنبئ بوجود قتيل جديد..!
***
د/ ثروت عكاشة السنوسي
مصــــــــــــــر
آخر تعديل عواطف عبداللطيف يوم 03-02-2013 في 04:48 AM.