|
|
|
|
في النقــرة
لفيف من الأفكار السوداء حاصرتني تحت القبو , ولا أدري كيف توهمت أن كتائب الموتى يلفون المركب , بالذات في تلك الليلة , ونفس البركة ..!
ليلتها تذكرت حديثي مع حسن البربري ـ ذات نوة ـ أخبرني أنها البركة الثانية , ولما طمعت في أصل الحدوتة شدني كعادته من ياقتي وصعد بي إلى السطح : النقرة تحتنا بالظبط .!
دون ترددٍ كشفت القبو وآخر حدود البصر يتلألأ البر البعيد ..
أصداء البربري تأتيني عبر نسمات الليل غير سعيدة :
ـ مالك يا حسونة .. كأنك عيان ؟
ـ لا أنا بخير .. لكن الفاجرة مرغت سمعتي في الطين يا صبري .. سيرتي على كل لسان في البلد .. الواحد بيفكر يموت نفسه و يرتاح ..
ـ نصحتك كتير ياحسن وكان اصرارك أقوى من أي نصيحة .. مشيت ورا الشيخ ترباس لحد ما ضيعك و الطوبة جت في المعطوبة .. وفي يوم وليلة اتجوزت واحدة لا نعرف لها أصل ولا فصل .. لا أنت من طينتها ولا هي من طينتك وما يكسر ضهر الراجل غير ست قادرة يابن عمي !
دومات النقرة تدور مع الريح كما قراطيس البريمة .. ونهنهاته لا تزال تتردد في البركة كلها .. تأتي من قاع النقرة وتوصيني بالبنت :
ـ البنت .. البنت أمانة برقبتك يا صبري .. علمها يعني إيه شرف الغلابة .. يعني إيه العيش و الملح .
ـ وعيشك وملحك يابوعلي هدور عليها .. هقلب عليها الدنيا وأجيبها من تحت طقاطيق الأرض .. لحمك لحمنا يا حسن .
زحفتُ بالدنقل*1 المربوط على جنب المركب .. أعس الشطوط و البرور*2 .. لم أترك جونة*3 أو حافة إلا ودعستها دعساً .. ما خليت صغيراً ولا كبيراً .. حتى مراكب البطيخ والتمساحات العريضة ..
لا أحد يعرف سكتها .. ويجزم البعض أنهم ما سمعوا عن البربري إلا من الأقاويل وحكاوي الصيادين في المياقي*4 .. !
النقرة هي حسن وحسن هو النقرة .. وغير ذلك فبلاد الله واسعة , و الزوار ليس لهم أرضاً محددة .. اليوم عند المرشدي .. غداً عند أبي مندور , وبعده عند السيد البدوي ..
ارجع يا بني لبركتك , انصب غزلك واشتغل والخير يقدمه ربنا .
ليلة وصول الزوار يختل توزان البلد .. يكثر الهرج و المرج بعد العصر ويزداد بعد صلاة العشاء أمام ساحة سيدي محمد المرشدي .. المزدانة بأفرع النور الملونة و المدلاة علي الجانبين كعناقيد العنب ..
يعتبرها الباعة المتجولين ليلة رواج لبضائعهم المركونة طول السنة تحت الأسرة وفي الأجولة فوق الدولايب ..
الغوايش والسلاسل و الخواتم والحلقان لا تقل انتعاشاً عن الجبن والزبد والقشطة واللبن والسمك وحب العزيز ..
أيضا فرصة لاستمتاع العجائز والشيوخ بالمداحين وفرقة الآلات الشعبية القادمة من دسوق ..
وصلوا قرب آذان المغرب .. نسبة الحريم تفوق نسبة الرجال كالعادة .. المرأة مثل فلقة القمر .. حمرة الخدود الندية تسيل على الرقبة لتمتزج بحمرة قمصان النوم النافذة بوضوح تحت الجلابيات الشيفون .. الحاجب هلال مسترخيا فوق الرموش ومحاطاً بهالة بيضاء دليل حرفتهن العالية في صنع الحلاوة .. إن ضحكت رقص الهلال الأيمن ومال الأيسر فبانت غمازات الصدغ كسرة عيل صغير .!
ـ يا قوة الله عليكم نسوان !!
ـ اعقل ياشيخ ترباس هنروح في داهية .
ـ النسوان دي بتيجي منين يا وله ؟
ـ العلم عند الله يابو شعبان .. لكن سمعت انهم جايين من بحري .
ـ تسلم بحري وتسلم أراضيها .. شوف يا وله رقبة الواحدة مصبوبة صب زي كوز العسل إزاي ؟!
ـ وبعدين في ليلتك الهباب دي ؟ أنا قايم أصلي العشا قبل الوضوء ما يروح .
ـ عارفك فقري طول عمرك زي اخوالك .. قوم صلي وادعي ربنا يجوزك تلاتة زي أبوك الفاجر ..
تابعت السهرة مع حسن وكنت أضبطه متلبساً بغمزاته للصبية الواقفة على الجانب الآخر ..
الميكروفونات تجلجل بصوت الريس عتمان وبين الحين والحين ترمي الفتاة زعرودة وسط الإنشاد .. فيرسلها صدى السماعات إلى البيوت والمقاهي , تستقطب العيال و تنتزع الأفخاذ الملصوقة في الكراسي .
كل موسم أنتظر عودتهم , أقعد قدام الجامع بسلّ السمك وأذاكر في وجوه الصبايا , وآخر السهرة أفرش بأقماع الحلبة وحب العزيز .. وبعد اللف و الدوران أسلم نفسي لملك النوم ..!
ـ الله يخرب عقلك يا صبري .. صحصح يا جدع النهار طلع .
ـ سيبني يا شيخ ترباس اعمل معروف , كعوبي وارمة من اللف .
ـ أنا شعبان يا صبري وأبويا في بحري من امبارح , راح يشتري غزل للمركب .
همدت دوامات البركة .. ابتلعتها النقرة .. اختفى حسن تماما ولم تترك له أثرا ..!
نزلت من فتحة القبو إلى بطن المركب ؛ أجهز ربطة غزل بدلاً من التي مزقتها مراكب البطيخ و الشنشلا* 5..
تذكرت حديث ابن الترباس عن زيارة والده لسيدي يوسف والغزل ومبيته في بحري في نفس الليلة .. !!
لم أصدق ما وسوسني به مخي .. ولا أدري كيف قفزت من بطن المركب إلى قاع النقرة كالملسوع :
ـ اطلع ياحسن .. لقيت البنت يابوعلي .. لقيت البنت يابوعلي !!!
1: الدنقل هو القارب الصغير
2: الشطوط حمع شط .. البرور جمع بر
3: الجونة هي المنطقة الداخلة في بر البحيرة مكونة شبة دائرة مائية .
4: الميَاقي جمع مقْيّة والمقْيّة الواحدة هي مجموعة من القوارب معتادة التجمع للسم بعد الانتهاء من العمل في منطقة مائية معروفة باسمهم .
5: الشنشلا نوع من الشباك تستخدمه مراكب الصيد الكبيرة .
|
|
|
|
|