يقول ابن رشيق القيرواني في عمدته
الاستعارة أفضل المجاز، وأول أبواب البديع، وليس في حلي الشعر أعجب منها، وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها، ونزلت موضعها، والناس مختلفون فيها: منهم من يستعير للشيء ما ليس منه ولا إليه، كقول لبيد:
وغداة ريح قد وزعت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فاستعار للفجر ملاءة، وأخرج لفظة مخرج التشبيه.. وكان أبو عمرو بن العلاء لا يرى أن لأحد مثل هذه العبارة، ويقول: ألا ترى كيف صير له ملاءة، ولا ملاءة له، إنما استعار له هذه اللفظة؟ وبعض المتعقبين يرى ما كان من نوع بيت ذي الرمة ناقص الاستعارة؛ إذ كان محمولاً على التشبيه، ويفضل عليه ما كان من نوع بيت لبيد، وهذا عندي خطأ؛ لأنهم إنما يستحسنون الاستعارة القريبة، وعلى ذلك مضى جلة العلماء، وبه أتت النصوص عنهم، وإذا استعير للشيء ما يقرب منه ويليق به كان أولى مما ليس منه في شيء، ولو كان البعيد أحسن استعارة من القريب لما استهجنوا قول أبي نواس:
بح صوت المال مما ... منك يشكو ويصيح
فأي شيء أبعد استعارة من صوت المال؟ فكيف حتى بح من الشكوى والصياح مع ما أن له صوتاً حين يوزن أو يوضع؟ ولم يرده أبو نواس فيما أقدر؛ لأن معناه لا يتركب على لفظه إلا بعيداً، وكذلك قول بشار:
وجدت رقاب الوصل أسياف هجرها ... وقدت لرجل البين نعلين من خدي
فما أهجن " رجل البين " وأقبح استعارتها!! ولو كانت الفصاحة بأسرها فيها، وكذلك " رقاب الوصل: ولا مثل قول ابن المعتز وهو أنقد النقاد:
كل وقت يبول زب السحاب
فهذا أردأ من كل رديء، وأمقت من كل مقيت.